يسوع على الصليب.

 

يسوع على الصليب

آ32. ولمّا خرجوا، إمّا من الأبروطوريون، كما فسَّر إيرونيموس وغيره، وإمّا من مدينة أورشليم، كما فسَّر فرنسيس لوقا وغيره. وهذا كان السَفَر السابع من أسفار المسيح المضغطة حين آلامه، لأنَّه مضى أوَّلاً من العلِّيَّة إلى جبل الزيتون، ثمَّ عاد إلى بيت حانان، ومنه إلى بيت قيافا، ومنه إلى بيت بيلاطوس، ثمَّ إلى بيت هيرودس، ومنه إلى بيت بيلاطوس ثانية، ثمَّ إلى جبل الجلجلة. وكان يتقدَّمه وهو ذاهب إلى الجلجلة، مبوِّقٌ يدعو الشعب إلى هذا المنظر، بحسب عادة اليهود، وكان عن جانبيه جنود الوالي مع قوّاد مئاتهم. ويرافقه الرؤساء وجلاّس المحاكم، ويتبعه جمٌّ من الشعب لا يَكاد يُحصى. وكان يسوع في وسط الجميع حاملاً على منكبيه صليبَه الذي كان طوله خمسة عشر قدمًا وعرضه ثمانية أقدام كما يقولون، إذ كانت العادة أنَّ المحكوم عليه يَحمل صليبه، كما ذكر بلوطرخوس*، وكان أحد طرفي الخشبة على عاتقه والطرف الآخر مسحوبًا على الأرض، وكان يزيد ألم جراحه عند مروره على الأحجار والدرج، وقد حمله إلى أن خرج من المدينة، واضطر أن يصعد في الجبل منحنيًا فخارت قواه. ولئلاّ يموت تحت الصلب قبل أن يبلغ الجلجلة ويفوتهم صلبُه، وجدوا رجلاً قيروانيًّا اسمُه سمعان فسخَّروه ليَحملَ صليبَه. ويظهر أنَّ سمعان هذا لم يحمل الصليب بالاشتراك مع المسيح، كما يصوِّره المصوِّرون، بل حمله سمعان وحده. ولم يصنعوا ذلك شفقة على المسيح، بل حفظًا لحياته، ليعذِّبوه أكثر، كما قال مار أغوسطينوس*. وقد وُصِف سمعان بالقيروانيّ لأنَّه كان من القيروان: إمّا التي في ليبيا وهي قصبة القيروان، وأرجع مار مرقس أهلها إلى الإيمان كما ارتأى أوريجانوس* وفرنسيس لوقا* وغيرهما. وإمّا التي في سورية، كما ارتأى ملدوناتوس*. وإمّا التي في قبرص، كما قال غيرهم. وكان سمعان في أصله وثنيًّا على ما ارتأى إيلاريوس* وأمبروسيوس* وغيرهما. وقال ملدوناتوس* إنَّه كان يهوديًّا، وربَّما تهوَّد عند تغرُّبه إلى اليهوديَّة. وقد ارتدَّ إلى الإيمان بالمسيح. وكما شاركه بحمل صليبه شاركه بمجده. وقال مرقس إنَّه أبو إسكندر وروفوس فيُبان أنَّهما كانا من المسيحيّين الشهيرين إذ كتب مرقس إنجيله.

آ33. فأتوا به إلى موضعٍ يُدعى الجلجلةَ ومعناه الجمجمة. قد وَهَم بعضُهم من تفسير الجلجلة هنا بالجمجمة أنَّ متّى كتب إنجيله باليونانيَّة. لكنَّ ذلك لا يُستدلُّ منه، إذ يمكن تفسير اللفظة العبرانيَّة أو بالأحرى السريانيَّة بلفظة أخرى سريانيَّة أوضح وأكثر استعمالاً منها. وارتأى بعضهم أنَّ هذا التفسير زاده المترجم اليونانيّ لبشارة متّى، ولذا لا وجود له في إنجيل متّى العبرانيّ. تسأل: لِمَ دُعي هذا المحلّ بهذا الاسم؟ أجيب: ارتأى الآباء برأي عامّ إلاّ إيرونيموس*، أنَّه دُعي كذلك لأنَّ جمجمة آدم دُفنت فيه، وخاصَّة إذ كَتب مار يعقوب النصيبيّ معلِّم القدّيس أفرام السريانيّ، أنَّ نوحًا أدخل معه عظام آدم إلى السفينة وقسمها بعد الطوفان على أولاده. فأعطى سامًا الجمجمة لأنَّه الأكبر وأعطاه اليهوديَّة ودُفنت تلك الجمجمة هناك. وقال مار إيرونيموس* وينسانيوس* وفرنسيس لوقا* وغيرهم إنَّ هذا المحلّ دُعي الجمجمة لأنَّه كان محلَّ العذاب، فكانت هناك جماجم كثيرة من القتلى. وقال غير هؤلاء إنَّه دُعي الجمجمة لأنَّ قمَّة الجبل مدوَّرة كالجمجمة، وقال غيرهم إنَّه دُعي الجمجمة بقول نبويّ، إشارة إلى أنَّ المسيح رأسنا سيموت هناك.

آ34. وناولوه ليَشربَ خلاًّ مخلوطًا بمرارة. وقرأت النسخة اللاتينيَّة وبعض الآباء: خمرًا ممزوجًا بمرارة أو علقم. فيُبان أنَّ الخمر كان متخلِّلاً لأنَّ النسخة اليونانيَّة وبعض الآباء قرأوا: خلاًّ، كالسريانيَّة المترجمة عنها هذه النسخة، وإن قال بعض المفسِّرين إنَّ ذلك خطأ في النسختين اليونانيَّة والسريانيَّة، سندًا على اتِّفاق النسخ في بشارة مرقس على ذكر الخمر. من المعلوم أنَّ إسقاء المسيح هذا الخلّ غير الذي ذكره متّى هنا آ48 ولوقا ويوحنّا أيضًا، لأنَّ الثاني كان بإسفنجة وهذا بإناء. وذاك كان بعد الصلب وهذا قبله. وذاك طلبه المسيح وهذا قدَّموه هم. فالخمر المعتاد أن يُعطاه المحكوم عليهم لزيادة القوَّة في العذابات قد دأف به اليهود والجنود مرارة وعلقمًا، كيلا يتمكَّن المسيح من شربه، لزيادة عذابه، وللسخرية به. وتمَّ بذلك قول المرتِّل: جعلوا في طعامي مرارة وفي عطشي سقَوني خلاًّ. فذاقَه ولم يُرِدْ أنْ يَشرَبَ. إنَّ المخلِّص أراد أن يذوق الشراب المقدَّم له بوقاحة، لئلاّ يُبان أنَّه يحتقر الإحسان المقدَّم بمقتضى العادة، وليوضح أنَّه عطشان من مشقَّة السفر والآلام التي تكبَّدها، وليهذِّب حنجرتنا وذوقنا المحبّين التنعُّم. لكنَّه لم يُرِدْ أن يشرب المشرب كلَّه، لئلاّ يُبان أنَّه يريد أن يزيد عذابه طوعًا ويعجِّل موته، وليوضح أيضًا غيظه من القساوة البربريَّة التي أجرَوها عليه. وبالمعنى الروحيّ أنَّه لم يشرب من سمِّ الأفعى القديمة، بل حمل على نفسه عقاب الخطيئة فقط دون أن يتدنَّس بها.

آ35. ولمّا صلبوه اقتسَموا ثيابَه بالقُرعة. قد صُلب المسيح لا بالحبال بل بمسامير من حديد. ويُحتمَل أن يكون رُبِط بالحبال مع المسامير. وقال بعضهم إنَّ المسامير كانت أربعة، وقال غيرهم ثلاثة، أي إنَّ الرِجْل الواحدة وُضعت فوق الأخرى. وكانت المسامير مغروسة في راحة اليد لا في المعصم، كما زعم بعضهم. وكان في الصليب محلّ يُسند إليه رجليه، كما قال القدّيس يوستينوس* وغيره وأنكره الأكثرون. وكان وجه المسيح على الصليب منحرفًا عن أورشليم واليهود، متَّجهًا نحو المغرب مراعيًا الأمم. والجنود الذين كانوا يحرسونه لئلاّ يُنزله أحد عن الصليب، قسموا بينهم غنائم المَلك المقبوض عليه والمعلَّق على الصليب، وشقُّوا ثوبه الخارج الذي هو الرداء أربعة أجزاء واقترعوا عليها .فإنَّ أثواب المسيح كانت ثلاثة: القميص والرداء والجبَّة. ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد وذلك الزمان. فالجبَّة الأحقّ أنَّها أُخذت إذ قُبض عليه في البستان، والرداء قُسِم كما قدَّمنا، وأمّا القميص فمن حيث إنَّه كان منسوجًا فلم يشقُّوه، بل رمَوا عليه قُرعة ليروا لمن يكون، كما قال يوحنّا. هذا ما ذهب إليه بعض الآباء والعلماء، وذهب غيرهم إلى أنَّ باقي الأثواب عدا القميص لم تُقسم بالقرعة وأنَّ القرعة وقعت على القميص وحده، مستندين على رواية يو 19: 23 التي يُبان من ظاهرها ما تقدَّم. والرأي الدارج والغير الخالي من الاحتمال والقديم، يعلِّم أنَّ هذا القميص نسجته مريم العذراء ليسوع في طفوليَّته، وكان يطول كنشوء قامته، كأثواب العبرانيّين في طريق خروجهم من مصر إلى أرض الموعد. لكي يتمَّ ما قيل بواسطةِ النبيّ داود مز 22. اقتسموا ثيابي وعلى لباسي اقترعوا.

آ36. وجلسوا هناك يحرسونَه لئلاّ يسرقه أحد من تلاميذه. لكنَّ الله جعل ذلك لغاية جيِّدة، هي أن يشهدوا لموته حتّى لا يمكنهم إنكار قيامته.

آ37. ووضعوا فوقَ رأسِه كتابًا فيه سببُ موتِه: هذا هو يسوعُ ملكُ اليهود.

آ38. وصُلب معه لصّان أحدُهما عن يمينِه والآخرُ عن شمالِه.

آ39. وكان المجتازون يجدِّفون عليه ويَهزُّون رؤوسَهم قائلين.

آ40. يا هادمَ الهيكل وبانيَه في ثلاثةِ أيّام، خلِّصْ نفسَكَ، إنْ كُنتَ أنتَ ابنَ الله انزِلْ عنِ الصليب.

آ41. وهكذا أيضًا رؤساءُ الكهنة كانوا يَسخرون، مع الكتبةِ والمشايخِ والفرّيسيّين قائلين:

آ42. أحيى آخرين ولا يقدرُ أن يُحيي نفسَه، إن كان هو ملك إسرائيل يَنحدر الآن عن الصليب ونحنُ نؤمنُ به.

آ43. يُخلِّصُه الآن الله المتَّكلُ عليه إن كان راضيًا به لأنَّه قال: إنّي أنا ابنُ الله.

آ44. وهكذا اللصان اللذان صُلبا معه فكانا يُعيِّرانِه.

آ45. ومن الساعةِ السادسة غشَتِ الظلمةُ الأرضَ كلَّها حتّى الساعةِ التاسعة. هذه الآيات سيجيء تفسيرها في مر 15: 25ي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM