الحكم على يسوع بالموت.

 

الحكم على يسوع بالموت

آ15. وكان للوالي عادةٌ أنْ يُطلقَ للشعب في كلِّ عيدٍ أسيرًا وهو الذي يريدونه. أي كان من عادة الملك أو قائد الشعب اليهوديّ أن يطلق لهم أحد المسجونين في عيد الفصح، بحسب اختيار الشعب، تذكرة لافتدائهم من عبوديَّة المصريّين. وكان الوالي الرومانيّ يحفظ هذه العادة، وأراد تحويلها لإطلاق المسيح، فاختار من جميع المأسورين واحدًا أشار إليه الإنجيليّ بقوله.

آ16. وكان لهم أسيرٌ معروفٌ يدعى برأبّا. وتأويله ابن الأب، وكان برأبّا هذا مشتهرًا بالرذائل ومعروفًا لدى العامَّة ومبغوضًا لسجس كان أثاره حديثًا، والفواحش الفظيعة التي كان يرتكبها. فهذا قابله بيلاطوس مع المسيح الكلّيّ البرارة ولم يُبح لليهود أن يختاروا من جميع المأسورين واحدًا كما كانت العادة، بل واحدًا من هذين الاثنين.

آ17. وإذ كانوا مُجتمعين قال لهم بيلاطوس: لِمَنْ تُريدون أن أطلقَ لكم برأبّا أو يسوعَ المدعوَّ المسيح. قال بيلاطوس ذلك ليحرِّض الحاضرين على طلب إطلاق يسوع، كأنَّه يقول: إنَّ المسيح قد وعد به آباؤكم، وأنتم فحذرًا من أن تميتموه.

آ18. لأنَّ بيلاطوسَ كان عالمًا أنَّهم أسلمُوه حسدًا، لرؤيته حركاتهم وأعمالهم ولسماعه بقداسته وتعليمه.

آ19. ولمّا جلسَ بيلاطوس الوالي على منبرِه أرسلَتْ إليه زوجتُه تقولُ له: إيّاكَ وذلك الصدِّيق، لأنّي تألَّمتُ اليومَ في الحلمِ من أجلِه كثيرًا. أي إنَّ امرأة بيلاطوس إذ كانت نائمة صباحًا بعد أن مضى رجلها لشغله (ولذا تقول اليوم) رأت أحلامًا مرعبة تتهدَّدها ولزوجها بالضرِّ إن شجبه. ارتأى القدّيس كبريانوس* (أو مؤلِّف الخطبة في الآلام أيًّا كان) والقدّيس برنردوس* وغيرهما أنَّ هذا الحلم كان من الشيطان لأنَّه عرف أنَّ يسوع هو ابن الله، فأراد منع خلاص العالم بواسطة هذه الأحلام. ولكن لو أراد الشيطان إطلاق يسوع لكان الأحرى به أن يليِّن قلب الرؤساء إلى الشفقة عليه. ولهذا فالأحقُّ ما ذهب إليه أوريجانوس* وإيلاريوس* وإيرونيموس* وفم الذهب* وأغوسطينوس* وغيرهم، بأنَّ هذا الحلم كان من ملاك صالح، وذلك ليشهد لبرارة المسيح الرجال والنساء. ولو صار هذا الحلم لبيلاطوس لما اشتهر كما اشتهر بإرسال امرأته إليه تجاه الرؤساء والشعب، وكانت هذه المرأة صالحة متَّقية ،ولذلك آمنت بواسطة هذا الحلم أنَّ المسيح هو ابن الله، على ما ذكر أوريجانوس* وفم الذهب* وكان اسمها كلاوديا بروكلاَّ، كما ذكر لوشيوس دستر*. وأحصاها سنكسار الروم بين عدد القدّيسات. ولعلَّها كلاوديا التي ورد اسمها في رسالة الرسول إلى تيموتاوس (2: 4). وقد أشار مار أغوسطينوس* أن بيلاطوس ارتدَّ إلى إيمان المسيح ولكنَّ هذا غير محقَّق. والمعلوم أنَّه نُفي بعد ذلك ومات تعيسًا على ما روى يوسيفوس* في ك18 في القدميّات رأس 5.

آ20. وأمّا رؤساءُ الكهنة والمشايخُ فتوسَّلوا إلى الجموعِ في أن يَطلبوا برأبّا ويُهلكوا يسوع. إنَّ بيلاطوس أعطى الشعب مهلة للتشاور: هل يريدون إطلاق يسوع أو برأبّا؟ وفي تلك المهلة أرسلتْ إليه امرأته تقول له: إيّاك وذلك الصدِّيق. والرؤساء أقنعوا الجموع كما في النسخة اللاتينيَّة، وتوسَّلوا إليهم كما في السريانيَّة، أن يطلبوا إطلاق برأبّا وإهلاك يسوع. فتأمَّل بما يصنعه الغضب والحسد. وما أبطلَ وأخبثَ أحكام العالم إذ فضَّلوا القاتل على محيي الأموات.

آ21. فأجابَهم الوالي قائلاً، بعد انقضاء المدَّة: لِمَن تريدون أن أطلقَ لكم مِن الاثنين؟ فقالوا: برأبّا، أي نريد أن تطلق برأبّا.

آ22. فقال لهم بيلاطوس: وماذا أصنعُ بيسوعَ المقولِ له المسيح؟ فقالوا كلُّهم، أي الشعب والرؤساء: ليُصلَب. لأنَّ الرؤساء كانوا حتَّموا في مجمعهم أن يُْصلَب ولقَّنوا الشعب ليَطلب ذلك.

آ23. فسألَهم الوالي: أيَّ شرٍّ صنع؟ فإنّي لا أجد عليه علَّة كما روى يوحنّا. فالعلَّة إرادته والذنب ذَنْبنا. واختار اليهود صلبه وألحُّوا بطلبه لما به من شدَّة العذاب وطول مدَّته ومن العار بتعرُّضه لمنظر الجميع وسخريّتهم به، وكان ملعونًا من الله كلُّ من عُلِّق على خشبة، كما في تث 11. فازدادوا صياحًا قائلين: ليُصلَب. فبقدر ما كان بيلاطوس يطلب، وبرارةُ يسوع تقتضي إطلاقه، كان اليهود يزدادون هتافًا: اصلبه.

آ24. فلمّا رأى بيلاطوسُ أنَّه لا يفيدُ شيئًا بل تزدادُ الضوضاء، أخذَ ماءً وغسلَ يدَيه تجاهُ الجموع قائلاً: أنا بريءٌ من دمِ هذا الصدِّيق. أنتم أخبر. كأنَّه يقول: إنّي بريء من قتل هذا الإنسان البارّ. فأنا لا أقتله، فاقتلوه أنتم. وقد أشهد على ذلك بطقسٍ كان دارجًا عند اليهود والأمم (وارتأى بعضهم أنَّه لم يكن دارجًا عند الرومانيّين وأنَّ بيلاطوس استعمله بمقتضى طقس اليهود)، وهو غَسْل الأيدي لإظهار براءة الغاسل. على أنَّ غَسْل بيلاطوس يديه كان بعد جلد المسيح وتكليله بالشوك، كما يظهر من بشارة يوحنّا. ففي رواية متّى هنا تقديم وتأخير. أمّا اليهود فلم يُرجعْهم عن ذلك الإثم الفظيع غسلُ بيلاطوس يديه، بل لبثوا مصرِّين على غيِّهم معرِّضين نفوسهم طوعًا لكلِّ عقاب، كما يتأكَّد من قوله.

آ25. فصاحَ الشعبُ كلُّهم قائلين: دمُه علينا وعلى أولادِنا. أي فليُحسَب دمُه علينا ويُنتقَم منّا ومن ذرِّيَّتنا. وبالحقيقة أنَّهم شعروا بذلك في الضيقات التي احتملوها عند خراب طيطوس أورشليم، وما برحوا متبدِّدين حتّى الآن عقابًا لإثمهم. تسأل: هل كان يجوز لبيلاطوس أن يرضخ لرأي الشعب كلِّه الطالب صلْبَ المسيح والضامن الذنب الناتج عنه؟ أجيب كلاّ، بل يلزم القاضي أن يحتمل ألف موت ولا يحيد عن منهاج العدالة. ولا يستطيع أحد أن يُعفي آخر من ذنبه أمام الله ولو بأيَّة ضمانة كانت، وبالتالي إنَّ بيلاطوس ما زال مذنبًا ضدَّ المسيح.

آ26. حينئذٍ أطلقَ لهم برأبّا وجلدَ يسوعَ بالسياط وأسلمَه ليُصلَب. وروى لوقا: وأسلمه لإرادتهم، حاكمًا بأنَّ تكون طلبتهم. لأنَّ بيلاطوس لم يَحكم على يسوع بالصلب بل أوضح مرارًا أنَّه بريء، وإنَّما حَكَم عليه اليهود أوَّلاً ولم يستطع بيلاطوس مناصبة غضبهم، فسمح أوَّلاً بجلده إذ قال لليهود: إنّي لم أجد عليه علَّة توجب الموت. فأدَّبه وأطلقه كما روى لو 23: 22. فإنَّ الجلد كان قبل الحكم عليه، لئلاّ يجلده اليهود ثانية بعد الحكم عليه كعادتهم، ولكي يعطف قلبهم إلى الشفقة عليه إذا رأوه مهشَّمًا فيخلِّصه من بين أيديهم، كما صنع إذ وضعه في مكان عالٍ، وقال: ها هوذا الرجل. إنَّ هذا الجلْد لم يكن بالقضبان وحدها، بل بمقارع من جلدٍ وحبل، وكانت العادة عند الرومانيّين أن يجلدوا جميع المحكوم عليهم بالموت خاصَّة على الصليب، وإن كانوا أحرارًا، كأنَّهم صاروا عبيدًا وأدنياء. ولذا يظهر أنَّ اللصين اللذين صُلبا مع المسيح جُلدا أيضًا. قد أنكر كلفينوس* أنَّ المسيح رُبط على عمود، ولكن قد علَّم بذلك إيلاريوس* وباولينوس* وغيرهما، وهو تقليد عامّ. وإلى الآن يُرى في رومة العمود الذي رُبط المخلِّص عليه، لكنَّ العمود الموجود في رومة صغير، ولذا ارتأى بعضهم أنَّه ليس ذاك العمود بكماله***. وزعم بعضهم أنَّه العمود بكماله*** إلاَّ أنَّه كان صغيرًا ليتمكَّن الجلاّدون من جلده بأكثر قساوة. وكان هذا الجلد قاسيًا جدًّا، إذ كان الجلاّدون بموجب بعض الأوحية ستّين نفرًا، وإرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطوس، حتّى انتثرت لحمانه وبانت عظامه، وتمَّ قول المرتِّل: وأُحصي كلُّ عظامي، حتّى ارتأى بعضهم أنَّ هذا الجلد كان كافيًا طبعًا لموته، إلاّ أنَّ اللاهوت حفظ الناسوت ليتألَّم بزيادة ويُصلب. وهذا كلُّه احتمله المخلِّص بصبر ووداعة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM