القبض على يسوع.

 

القبض على يسوع

آ47. وفيما هو يتكلَّمُ وإذا بيهوذا الدافعِ أحدِ الاثني عشر قد أقبلَ ومعه جمعٌ كبيرٌ مع سيوفٍ وعصي من لدُنِ رؤساء الكهنةِ ومشايخِ الشعب. هذا الجمع كان مؤلَّفًا من الجند الرومانيّين وخدّام رؤساء الكهنة والمشايخ. وشهد لوقا أنَّه كان بينهم بعض من الرؤساء والمشايخ وأتَوا بعصي وسيوف حتّى إذا أبدى المقاومة يأخذونه جبرًا عليه.

آ48. وأعطاهم يهوذا الدافعُ علامةً بقولِه: إنَّ ذلك الذي أقبِّلُه هو هو فامسُكوه. أعطاهم العلامة ليعرفوا بها من يريدون القبض عليه لئلاّ يمسكوا آخر. فإنَّ كثيرين خاصَّة من الجنود الرومانيّين لم يكونوا يعرفون وجهه، أو لئلاّ يخدعهم به ظلام الليل.

آ49. ودنا حالاً من يسوعَ قائلاً: السلامُ يا معلِّم وقبَّلَه. القبلة علامة السلام والمودَّة فاستعملها الخائن علامة للخيانة والمكر. وكان من عادة اليهود والرومانيّين وغيرهم أن يقبِّلوا بعضهم عند اللقاء. ويظهر أنَّ الرسل سلَّموا على المسيح بهذه القبلة عند رجوعهم إليه. وقد استعملها المسيحيّون القدماء كما شهد ترتوليانوس* في كتابه في الصلاة. بل الرسول نفسه في 1 كو 16. 20. وأظنُّ أنَّ يهوذا كان يريد أن يظهر أنَّه يقع على معلِّمه معانقًا ومقبِّلاً له القبلة الأخيرة، مرتعشًا من الخطر المفاجئ بوفود الجند للقبض عليه. وقد سمح المسيح بذلك لئلاّ يُبان أنَّه يهرب أو يحتمل الخيانة والموت جبرًا عليه. ولكي يدعو الخائن بوداعته هذه إلى التوبة، كما قال القدّيس أمبروسيوس*، وليعلِّمنا أن لا نحتقر أعداءنا ولو أضرُّوا بنا، بل أن نحبَّهم، كما قال القدّيس إيلاريوس*. وسمح المسيح بأن تكون إهانته من أحد تلامذته، حتّى إذا كان فَعَل أو علّم خفية شيئًا يخالف الاستقامة، يشهِّره هذا التلميذ الذي صار عدوًّا ولو للاعتذار عن إثمه. ومن حيث  إنَّه لم يُشهر شيئًا من ذلك فأثبت أنَّ معلِّمه غير مذنب بشيء.

آ50. فقال له يسوعُ: يا صاح، ألهذا أتَيت؟ فكأنَّه يقول له: أتيت لتدفع إلى اليهود معلِّمك وربَّك وإلهك. وزاد لوقا: أبقبلة تسلِّم ابن الإنسان. حينئذٍ دنَوا وارتمَوا على يسوع وقبضُوا عليه، لا حالاً بعد تقبيل يهوذا له، لأنَّ المسيح جعل علامة يهوذا باطلة، كما يتأكَّد من يو 18: 4، حيث روى أنَّه بعد أن قبَّله يهوذا تقدَّم يسوع، فسأل اليهود مرَّتين: من تطلبون؟ فتقهقر جميعهم ناكصين، وسقطوا على الأرض، ولم يلقُوا عليه الأيدي قبل أن يُؤذنهم بالقبض عليه. وقد صنع المسيح حينئذٍ ثلاث عجائب: الأولى إمساكه أبصار الجنود وعقولهم لئلاّ يعرفوه، مع أنَّ الخائن أعطاهم علامة، وكثيرًا منهم كان يعرفه، وذلك يُبان من أنَّهم إذ سألهم المسيح مَن تطلبون لم يقولوا: إنَّنا نطلبك، بل قالوا: يسوعَ الناصريّ، كأنَّه غيره. والثانية وقوعهم على ظهورهم إلى الأرض من مجرَّد قوله: أنا هو. والثالثة إرجاعه أُذُن ملخوس إذ قطعها بطرس، كما سيجيء.

آ51. وإذا بواحدٍ من أولئك الذين كانوا معَ يسوع، وهو بطرس، مدَّ يدَه واخترطَ سيفًا وضربَ به عبدَ عظيمِ الكهنة فقطَعَ أذنَه. إنَّ بطرس ازداد شجاعة بسقوط أعداء المسيح على ظهورهم، وظنَّ أنَّه يُرضي معلِّمه بالانتصار له، فضرب ملخوس عبد قيافا، كما سمّاه يوحنّا، لأنَّه رآه متقدِّمًا الباقين وأكثر إلحاحًا على القبض عليه، ومع أنَّه كان متعمِّدًا فَلْغَ رأسه إلى نصفين. خابت الضربة، ربَّما بقوَّة خاصَّة من المسيح، فقطع أذنه اليمنى، كما روى لوقا ويوحنّا. وبذلك رمز، كما قال أمبروسيوس*، على أنَّ اليهود فقدوا أذنَهم اليمنى التي بها يسمعون ويفهمون الأمور الروحيَّة والسماويَّة ،وبقيَتْ لهم أذنُهم اليسرى التي بها يُصغون إلى الجسديّات والأرضيّات فقط. لكنَّ يسوع الذي كان يشاء أن يغلب باحتماله، أرجع له أذنَه ورأسه بريئين، كما روى لوقا. فيُسأل ما كان سيف بطرس هذا؟ أجيب: زعم بعضهم أنَّه كان الساطور الذي قطع به لحم خروف الفصح أو نجفًا. والأصحّ أنَّه كان سيفًا حقيقيًّا كما يتلخَّص من روايات لوقا ويوحنّا. واعلمْ أنَّ بطرس قد أخطأ بضربه بالسيف ضدَّ إرادة سيِّده، خاصَّة لأنَّه بذلك يزيدهم قساوة على معلِّمه، وإن فعل ذلك لشدَّة حرارة حبِّه له. على أنَّه وإن عظَّم كلفينوس* خطيئة بطرس هذه بغضة به، فمن المؤكَّد أنَّها لم تتفاوت الإثم العرضيّ، إذ يَعذر ذلك الألمُ المفاجئ وغيرته على المدافعة عن معلِّمه، وافتراض إرادة مَن كان يستطيع أن يمنحه سلطانًا على ذلك، ورداءة عملهم بالقبض على يسوع.

آ52. فقال له يسوعُ حينئذٍ: رُدَّ سيفَك إلى غمدِه لأنَّ كلَّ من أَخذوا بالسيف فبالسيفِ يموتون. أي من أخذ بالسيف أو استعمله دون سلطان شرعيّ، كما تفعل أنت يا بطرس، فيُعاقَب بحقِّ وصواب، ويُباد بالسيف أي يستحقُّ الموت. فالكلام هنا في الحقِّ لا في الفعل. فيشير المخلِّص إلى ما رُسِم بالسنَّة القديمة بأنَّ من أراق دم إنسان يُراق دمه. وتحرير المعنى أنَّ من أخذ بالسيف ضدَّ العدل، فهو مستحقٌّ الموت به وإن لم يَقتل فعلاً. ونرى بالاختبار أنَّ القتلة يموتون غالبًا قتلى بحكم الله العادل، وقد أثبت بلوطرخوس* ذلك بأمثلة كثيرة.

آ53. أتظنُّ أنّني لا أقدرُ أن أطلبَ إلى أبي فيقيمَ*** لي الآن أكثرَ من اثني عشر كردوسًا من الملائكة. أي أتظنُّ أنّي لو شئت المدافعة القسريَّة لعازتني مساعدة أشدُّ من مساعدتك ومساعدة رفقائك؟ فإنّي أقدر أن أسأل أبي أن يُقيم لي حالاً عوضًا عن الاثني عشر رجلاً الجبانين اثني عشر كردوسًا من الملائكة الذين هم أشدُّ قوَّة، حتّى قتل واحدٌ منهم مئة وخمسة وثمانين ألف مقاتل من الأثوريّين في ليلة واحدة، كما ورد في 2 مل 19: 35. والكردوس كان يتألَّف من ستَّة آلاف جنديّ، فيكون المجموع اثنين وسبعين ألفًا. وزعم بعضهم أنَّه يتألَّف من اثني عشر ألفًا وخمسمائة جنديّ، والمجموع على ذلك مئة وخمسين ألف جنديّ. ويعلِّمنا المخلِّص أن نلتجئ في الأخطار والتجارب إلى الملائكة والقدّيسين خاصَّة الملائكة الحرّاس.

آ54. لكن كيفَ تتمُّ الكتبُ لأنَّه هكذا يَلزَمُ أنْ يَكون، أي يلزم أن أسلَّم لأعدائي. وهذا برهان ثالث يردع به المخلِّص بطرس عن القتال، ويُورد به سببًا لعدم طلبه من الآب اثني عشر كردوسًا من الملائكة، أو المدافعة عن نفسه بطريقة أخرى. تقول إذًا: اليهود لم يأثموا بقتلهم المسيح لأنَّهم تمَّموا الكتب. أجيب: إنَّ اليهود لم يفعلوا ذلك إتمامًا للكتاب المقدَّس بل لخبثهم ونفاقهم. ولم يتنبَّأ الأنبياء على ذلك إلاّ لأنَّ الله أطلعهم على علمه السابق بخبث اليهود وشرِّهم، ولو لم يفعل اليهود ذلك لما رآه الله مستقبلاً بعلمه السابق ولا أطلع الأنبياء عليه.

آ55. ثمَّ قال يسوعُ للجموعِ بتلك الساعة: كأنَّكم خرجتُم إلى لصٍّ بالسيوفِ والعصيّ لتُمسِكوني، وأنا قد كنتُ عندَكم كلَّ يوم أعلِّمُ في الهيكل ولم تُمسِكوني. إنَّ اليهود لم يقبضوا عليه بعدها، كما يظهر من رواية لوقا، حيث بعد إيراده هذه الكلمات قال: قبضوا عليه. ففي رواية متّى هنا تقديم وتأخير للإيجاز. وقد ورد مِثلُ ذلك متواترًا.

آ56. إنَّما صار هذا ليتمَّ نصُّ كتب الأنبياء. هذه الكلمات لم يقلْها المسيح كما ذهب فم الذهب*، بل قالها متّى مراجعًا ما ذكره المسيح قبلاً إيضاحًا للتاريخ، والمعنى أنَّ قَبْض الأثمة على المسيح بخيانة تلميذه وباقي ما احتمله قد حدث، لا اتِّفاقًا بل لتكمل نبوءات الأنبياء على ذلك. كقول أش 52: 17: (سِيق كالنعجة إلى الذبح) ودا 9: 26: (ويُقتَل المسيح) وزك 13: 7: (أضرب الراعي فتتبدَّد الخراف) وغيرها. حينئذٍ تركَه تلاميذُه كلُّهم وهربوا من جرّاء الخوف البشريّ. ولكن هل كان هربهم هذا جائزًا؟ أجاب بعضهم أنَّه كان جائزًا من كلِّ ذنب لأنَّهم هربوا، لا لإنكارهم المسيح بل لعدم تمكُّنهم من المنفعة له. فإذًا فعلوا بحكمة لئلاّ يعرِّضوا نفوسهم لخطر إنكاره أو لاحتمالهم الآلام إذ لم يكونوا قبلوا تأييد الروح القدس. وأجاب غيرهم أنَّ هربهم كان غير جائز، لزعمهم أنَّ هذا الهرب صدر من عدم ثقة الرسل بالمسيح. ولكن راجع في آ31 هنا حيث أَبَنّا أنَّ الرأي الأوَّل أصحّ. وعلى فرض أنَّهم أخطأوا بمقتضى الرأي الثاني، فخطأهم لم يتجاوز الإثم العرضيّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM