عشاء الربّ.

 

عشاء الربّ

آ26. وفيما هم يأكلون. أي بعد العشاء، كما روى لو 22: 20 والرسول في 1 كو 11: 25، أي بعد أن أكلوا خروف الفصح إذ كانوا بعد على المائدة. واعلمْ أنَّ المسيح عمل ثلاثة أعشية: الأوَّل، عشاء خروف الفصح الذي أكله المسيح والرسل وهم وقوف بحسب أمر السنَّة في خر 12. الثاني، العشاء الاعتياديّ الذي كانوا يأكلون فيه غير الخروف الفصحيّ، متَّكئين في المتاكئ كعادة أمَّتهم، إذ لا يُشبع خروف واحد العيلة كلَّها، خاصَّة إذا كانت وافرة العدد. الثالث، العشاء السرّيّ. أخذَ يسوعُ خبزًا بيديه المقدَّستين ورفع عينيه إلى السماء وشكر الله الآب، كما روى مرقس. بارك. لا الله الآب كما زعم الأراطقة، بل الخبز المذكور، داعيًا إليه قدرة الله القادرة على كلِّ شيء لتحضر حينئذٍ، وعند تقديسات الكهنة فيما بعد. وهذه البركة لم تكن تقديسًا، كما ارتأى مار توما*، بل صلاة سابقة التقديس، كالصلاة التي ذكرها لو 9: 16 على خبز آخر، كما علَّم المجمع التريدنتينيّ جلسة 13. وكسر ذلك الخبز ثلاث عشرة كسرة. لأنَّ يهوذا تناول الخبز المقدَّس أيضًا. كما يتَّضح أوَّلاً، من قول متّى هنا: اتَّكأ مع تلاميذه الاثني عشر. ثانيًا، من قول مرقس عن الكأس وشرب منه جميعهم. ثالثًا، من بشارة لوقا إذ روى أنَّ المسيح بعد التقديس قال: ولكن يد من يسلِّمني معي على المائدة. رابعًا، من بشارة يوحنّا حيث روى أنَّ المخلِّص قال عند غسل أرجل تلاميذه: كلِّكم أطهار وليس كلُّكم لأنَّه كان يعرف من يسلِّمه. فمن كلِّ هذه الآيات يتَّضح أنَّ يهوذا كان وقتئذ مع الرسل وتناول جسد المسيح ودمه تحت أعراض الخبز والخمر. هذا وإن أنكر ذلك بعض الآباء. وأعطى كلاًّ من تلاميذِه كسرة، مبقيًا لذاته كسرة، أو تناول كسرته قبلهم. وقد تناولوا ذلك بأيديهم، ولذا كانت العادة في الكنيسة أيّامًا أنَّ المؤمنين يتناولون القربان بأيديهم. إلاّ أنَّه بسبب الخطر ولمزيد الاحترام درجت عادة المناولة بالفم. إنَّ المسيح هنا صنع خمسة أفعال: أَخْذ الخبز والشكر والبركة والكسر وإعطاء التلاميذ. قال كلفينوس*: إنَّ الأفعال الخمسة تُنسب إلى الخبز، فإذًا لم يأكل الرسل إلاّ الخبز. لكن اعتراضه باطل. فلو أراد المسيح أن يُحيل الماء خمرًا في عرس قانا بقوله: خذوا فاشربوا هذا، فمَن لا يفهم أنّ "اشربوا" يتَّجه إلى الخمر لا إلى الماء. وكذا قولنا: إنَّ هيرودس سجن يوحنّا المعمدان وقتله ودفنه أو سمح بدفنه، فإنَّ هيرودس لم يسجن نفس الذي دفنه، لأنَّه سجن إنسانًا ودفن جثَّة، فمن هذا الباب أقوال الإنجيليّين بهذا الشأن. وقد أعطاهم الخبز قائلاًَ: خذُوا فكُلُوا هذا هو جسدي. وبهذه الكلمات الثلاث قد صارت وقتئذٍ، ولم تزل تصير حتّى الآن من الكهنة اللافظينها بشخص المسيح، الاستحالةُ الجوهريَّة أي استحالةُ جوهر الخبز إلى جسد المسيح، وبكلمات التقديس التابعة، استحالةُ جوهر الخمر إلى دم المسيح، مع بقاء الأعراض الخارجة وحدها. فإنَّ هذه العبارة ليست خبريَّة عمّا كان قبلاً، بل إنشائيَّة أي صانعة ما لم يكن سابقًا أن يكون بالحضرة، وموضحة ما صار عند لفظ تلك الكلمات، لأنَّها تصنع ما قيل بها في نفس قولها. كما إذا قلت: هذا هو خاتمك عندما أهبك إيّاه، فبهذا القول يكون صار لك ما كان سابقًا لي. ومن هذا يُبان أنَّ الكاهن لا يلفظ كلام التقديس بمنزلة تاريخ أو خبر فقط، بل بنوع إنشائيّ وعمليّ أيضًا، كأنَّ الكاهن شخص المسيح إذ يقوم مقامه في ذلك، كما سيجيء أيضًا في لو 21: 19.

آ27. وأخذَ كأسًا وشكرَ وأعطاهم قائلاً: خذُوا اشْرَبوا منه كلُّكم. قال المسيح هذا قبل تقديس الكأس. وأمّا ما رواه مر 14: 23 وهو "فشرب منه كلُّهم، وقال لهم: هذا هو دمي العهد الجديد"، ففيه تقديم وتأخير، إذ من المؤكَّد من روايتَي متّى ولوقا أنَّ المسيح قدَّس الكأس أوَّلاً، ثمَّ أعطاها للرسل ليشربوا منها، وإلاّ فيكون الرسل شربوا خمرًا صرفًا لا دم المسيح.

آ28. هذا هو دمي العهدُ الجديدُ الذي يُسفَكُ عن الكثيرين لغفرانِ الخطايا. يعني هذا هو دمي الذي يتأيَّد ويتثبَّت به العهد الجديد بين الله والبشر، ثمَّ الوصيَّة الجديدة والأخيرة للمسيح. ويشير بذلك إلى ما ورد في خر 24: هذا هو دم الميثاق الذي عاهدكم به الله. وأمّا ما يلاحظ تناول العالميّين تحت شكل واحد أو تحت شكلين، فسوف يجيء الكلام فيه في بشارتَي لوقا ويوحنّا. واعلمْ أوّلاً، أنَّ المسيح بعد أن قدَّس الكأس وهو سيّال لا يمكن أن يقسم كما قسم الخبز، فقد شرب منه أوَّلاً، وأعطاه لمن جاوبه، مثلاً يوحنّا أو بطرس، آمرًا أن يتداولوه من يد إلى أخرى. اعلمْ ثانيًا، أنَّه بلفظة "كثيرين" يُفهَم "جميع الناس"، لأنَّ هؤلاء جميعًا كثيرون وقد مرَّ كلام في ذلك. وروى لوقا: الذي يراق لأجلكم. من الإيمان أنَّه قد وُجد حينئذٍ ويوجد يوميًّا أمام الكهنة، بعد لفظ كلمات التقديس في القدّاس، جسد المسيح ودمه حقيقة وجوهرًا، أي المسيح نفسه الجالس عن يمين الآب في السماء. وهذا يتَّضح بكلّ توكيد من ألفاظ المخلِّص الواضحة التي لم يفهمْها أحدٌ بخلاف ذلك، قبل بارنغاريوس* في الجيل الحادي عشر. ثمَّ من إجماع كلِّ الآباء والعلماء والمجامع على ذلك، كما أسهب بإيراد شواهدهم بلرمينوس* في كتابه في الإفخارستيّا وغيره. ومن ثمَّ يتَّضح أيضًا أن ليس في الإفخارستيّا صورة جسد المسيح فقط، بل الجسد نفسه الذي وُلد من مريم وصُلب على الصليب. إنَّ بعض المحدثين يصدُّهم عن الإيمان بذلك عدمُ إدراكهم كيفيَّةَ وجود جسد المسيح بكماله تحت برشانة صغيرة. وكان يلزمهم أن يفكِّروا أنَّ الله قادر على كلِّ شيء، وكما بدع الطبيعة يمكنه أن يَخرق نظامها. ولكي نسهِّل فهْمَ هذا السرّ لعقول السذّج، ونبرهن أنَّه ممكن بالقدرة القادرة على كلِّ شيء، نورد بعض برهانات. إنَّنا نرى مثالاً لذلك أوَّلاً، في المرآة والعين، فإنَّهما مع صغرهما تجمعان كمّيَّات كاملة من البشر والبيوت والأشجار إلخ. وتشخصان ذلك كاملاً. فإذًا لِمَ لا يُمكن البرشانة الصغيرة أن تجمع جسد المسيح بفعل الله؟ ثانيًا، في الدائرة التي تجتمع جميع أشعَّتها إلى نقطة صغيرة في وسطها. ثالثًا، ولذلك مثال آخر في الماء المتجلِّد والمنحلِّ، فإنَّ الماء المتجلِّد في الإناء يشغل جزءًا منه وإذا سخن وانحلَّ الجليد أملأه***** كلَّه وهو ماء واحد لا يُزاد عليه إلاّ الامتداد إلى مكان أكبر. فإذا كان هذا يحدث بقوَّة الطبيعة فلِمَ لا يستطيع الله القادر على كلِّ شيء أن يصنعه بنوع فائق الطبيعة بجسد المسيح. إنَّ المسيح بقوله السابق وبقوله: اصنعوا هذا لذكري، قد سام الرسل كهنة كما علَّم المجمع التريدنتينيّ جلسة 22 رأس 10، وأساقفة أيضًا، لأنَّه بقوله هذا أمر الرسل أن يسيموا كهنة أيضًا ليقدِّسوا جسد المسيح. إنَّ الإفخارستيّا ليست سرًّا فقط، بل ذبيحة حقيقيَّة أيضًا، ولهذا دُعي المسيح كاهنًا على شبه ملكيزادق لا على شبه هارون، لأنَّ ملكيزادق قدَّم خبزًا وخمرًا كالمسيح. وذلك يتأكَّد أوَّلاً، من أنَّ المسيح قال عن دمه إنَّه يُهرَق عن كثيرين أو لأجل كثيرين بمنزلة ذبيحة مطهِّرة وغافرة. ثانيًا، من أنَّ لفظة يُراق التي ذكرها الإنجيليّون الثلاثة هي باليونانيَّة في الزمان الحاضر، فيراد بها الإراقة في العشاء السرّيّ، ولا يُراد بها ذبيحة الصليب فقط. ثالثًا، من أنَّ لوقا روى: هذا هو جسدي الذي يُبذَل عنكم أي يُقدَّم بمنزلة ذبيحة. والرسول قال: الذي يُكسَر عنكم. فكسْرُ الخبز لا يُراد به ذبيحة الصليب، بل الإفخارستيّا. رابعًا، من أنَّ لوقا والرسول في 1 كو 11: 25 قالا: هذه الكأس هو العهد الجديد بدمي التي (أي الكأس الذي بموجب العبارة اليونانيَّة) أُريقتْ من أجلكم، والحال أنَّ كأس الدم أُريق بالإفخارستيّا لا على الصليب. فإذًا الإفخارستيّا ذبيحة وهذا ضدّ المحدثين الذين يزعمون أنَّ لا ذبيحة ولا كهنوت في العهد الجديد.

آ29. أقولُ لكم: إنَّني من الآن لا أشربُ من هذا ابنِ الكرمة. ارتأى مار أغوسطينوس* في ك3 في توفيق الأناجيل وعنه ينسانيوس* والبعض أنَّ المسيح قال هذا بعد تقديس الإفخارستيّا كما يتلخَّص من رواية متّى هنا. ولا اعتراض من ذلك بأنَّه لا يوجد في كأس الإفخارستيّا دم المسيح، بل ابن الكرمة فقط، لأنَّ لفظة "هذا" لا تشير إلى ما كان تقدَّس في الكأس، بل إلى جنس الخمر الذي استعمله وقتئذٍ. ولو فرض أنَّها تشير إليه فلا مضرَّة من قوله لانتسابه إلى الشكل الخارج، كما دعا مار بولس جسد المسيح خبزًا. والكتاب المقدَّس يتكلَّم بمقتضى ظاهر الأشياء. إلاَّ أنَّ الأكثر احتمالاً أنَّ المسيح قال ذلك في العشاء الأوَّل قبل تقديس الإفخارستيّا. فإنَّه في العشاء الفصحيّ كان يُدار كأس خمر أيضًا، وقد صرَّح بذلك لو 22: 15ي مميِّزًا بين العشائَين، إذ روى: "وقال لهم شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل آلامي. فأقول لكم: إنّي مذ الآن لا آكله حتّى يتمَّ في ملكوت الله". ثمَّ في كأس الفصح: "وأخذ كأسًا فشكر وقال: خذوا هذا واقسموه ما بينكم. إنَّني أقول لكم لا أشرب من ابنة الكرمة حتّى يأتي ملكوت الله". إلى أن قال في كأس الإفخارستيّا: "وهكذا أيضًا الكأس فإنَّه من بعد أن تعشَّوا قال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفَك من أجلكم". حتّى اليوم الذي أشربه فيه معكم جديدًا في بيت أبي. يعني في بيت أبي السماويّ ومن نوع آخر، لأنَّ الطوباويّين لا يشربون في السماء خمرًا أرضيًا بل سماويًّا كقول المرتِّل: يرتوون من دسم بيتك ومن غدير نعمتك تسقيهم. ولا يعترض على ذلك بكون المسيح أَكَل بعد القيامة وشرب على ما يظهر خمرًا طبيعيًّا مع رسله، لأنَّ صنيعه ذلك بعد القيامة لم يكن بالنوع المعتاد، وكما يفعله البشر لحاجة الطبيعة أو تغذية الجسد. وجلُّ مقصد المخلِّص أن يبيِّن لهم دنوَّ موته، كعادة الأصدقاء أن يقولوا لبعضهم عند السفر الطويل: من يعلم متى يكون اللقاء فلم نعد نأكل ونشرب معًا إلى ما شاء الله؟

آ30. ثمَّت سبَّحوا. أي شكروا الله، وربَّما بترتيل ما كما تشير النسخة اليونانيَّة. وروى بولس البورجيّ* أنَّه كان من عادة اليهود أن يرتِّلوا أو يتلوا بعد أكل خروف الفصح المزمور 122 مع المزمورات التالية إلى المزمور 118. وكان الرسل ملتزمين بأداء الشكر لله لتناولهم جسد المسيح ودمه. وخرجوا إلى طورِ الزيتون القريب من الجسمانيَّة. فيسوع كان من عادته في تلك الأيّام الأخيرة أن يذهب نهارًا إلى أورشليم فيعلِّمَ في الهيكل ويمضي فيتعشّى في بيت عنيا، ويعود إلى جبل الزيتون يقضي ليله بالصلاة، كما أشار لو 21: 37. وأمّا في ليلة الفصح فلم يمضِ إلى بيت عنيا، إذ تعشّى في أورشليم، بل خرج إلى جبل الزيتون.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM