الفصح والفطير.

 

 

الفصح والفطير

آ17. وفي اليومِ الأوَّلِ من الفطير، أي اليوم الذي يبتدئ فيه مساء الفصح، وهو الخامس عشر من نيسان، فإنَّ اليهود كانوا يحسبون أيّام الأعياد من المساء إلى المساء. ولذا ما يأتي ذكرُه حدث في اليوم الرابع عشر من الشهر الأوَّل الذي في مسائه بداية اليوم الخامس عشر وبداية أيّام الفصح واستعمال الفطير، وكانت عادة اليهود القديمة أن يأكلوا خروف الفصح في هذا المساء كما أكله المسيح. جاء التلاميذ، أي اثنان منهم كما قال مرقس، وهما بطرس ويوحنّا كما روى لوقا. وقالوا: أين تُريدُ أن نُعِدَّ لك لتأكلَ الفصح؟ أي الخروف الفصحيّ. زعم أوتيميوس* والروم* أنَّ المخلِّص أكل الخروف الفصحيّ بسبب الآلام التي كان عالمًا بأنَّ اليهود سيوقعونها به في اليوم التالي. ولذا يزعمون أنَّ المسيح قدَّس الإفخارستيّا على خبز خمير، وأنَّ ذلك وصيَّة. ويتَّهمون اللاتينيّين بالضلال ويسمُّونهم أراطقة لتقديسهم على الفطير. وارتأى روبرتوس* وينسانيوس* وملدوناتوس* وغيرهم أنَّ المسيح صنع الفصح في الرابع عشر من نيسان، واليهود أخَّروه إلى الخامس عشر منه، إذ كان عندهم تقليد بأنَّه إذا وقع الفصح يوم الجمعة فينقلونه إلى السبت لئلاّ تتتالى الأعياد أي الفصح والسبت. إلاّ أنَّ هذا التقليد حديث، كما برهن بلرمينوس* في كتابه في الإفخارستيّا رأس 8 وتوليتوس* والسواريّ* وماري توما*، نقلاً عن التلمود وابن عزرا والقدّيس إبيفانيوس*. فإذًا المسيح واليهود عيَّدوا الفصح جملة في اليوم المعيَّن له في الناموس، أي في الرابع عشر من نيسان عند المساء، كما يظهر من بشائر متّى ومرقس ولوقا الذين روَوا أنَّ المسيح صنع الفصح في اليوم الأوَّل من الفطير. ولذا يتَّضح ضدَّ الروم أنَّ المسيح قدَّس على خبز الفطير، إذ كان محرَّمًا في اليوم الأوَّل من الفطير استعمال الخبز الخمير. ولا قوَّة للاعتراض بما ورد في يو 13: 1: قبل عيد الفصح قد عرف يسوع أن قد حضرت الساعة. لأنَّ هذا يُراد به اليوم الرابع عشر من نيسان الذي يبتدئ الفصح في المساء فيه كما تقدَّم، والمسيح صنع الفصح مساء. كما لا قوَّة للاعتراض بقوله في 18: 28: إنَّ اليهود لم يدخلوا الإيوان لئلاّ يتنجَّسوا قبل أكل الفصح، لأنَّ ذلك لا يُفهَم به أَكْلُ الخروف الفصحيّ الذي كان أُكِلَ قبلاً، بل باقي الذبائح التي كانت تقرَّب في الأيّام التابعة كلِّها، خاصَّة في صباح اليوم الخامس عشر. ولا صحَّة للاعتراض أيضًا بقول متّى هنا آ5: لا في العيد لئلاّ يصير السجس، لأنَّهم غيَّروا رأيهم فيما بعد بسبب خيانة يهوذا كما تقدَّم. فإذًا قد اتَّضح أنَّ المسيح قدَّس الإفخارستيّا بالخبز الفطير.

آ18. فقال لهم: امضُوا إلى المدينة، أي أورشليم، لأنَّه لم يكن يجوز أكلُ الفصح خارجًا عن هذه المدينة كما ورد في تث 16. إلى فلان. يُظَنُّ استنادًا على التقليد العامّ أنَّ هذا كان يوحنّا رفيق بولس وبرنابا في الأسفار والإنذار. وفي بيته اختفى الرسل بعد موت المسيح، وفيه قبلوا الروح القدس، وفي محلِّه تشيَّدت بعد ذلك الكنيسة الأولى في أورشليم، كما قال بارونيوس*. وربَّما لم يعيِّن المخلِّص اسم صاحب البيت بل قال فلان، لئلاّ يعرف يهوذا المحلَّ قبل الوقت فيكمِّل وعده لليهود ويمنع تقديس الإفخارستيّا. ومن قوله: وقولوا له: إنَّ معلِّمَنا يقولُ زماني قد دنا وعندَك أصنعُ الفصحَ مع تلاميذي، يتلخَّص أنَّ صاحب البيت كان من تلاميذ المسيح ويُقرُّ بأنَّه معلِّمه. وروى مرقس (14: 13ي): فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: امضيا إلى المدينة فيلقاكما رجل حامل إناء ما، فاتبعاه إلى حيث يدخل، فقولا لربِّ البيت: عظيمنا يقول لك أين المنزل حيث آكل الفصح فيه مع تلاميذي؟ أمّا هو فيريكما علِّيَّة عظيمة مفروشة مُعدَّة فأعدّا لنا هناك.

آ19. فعمِلَ التلاميذُ، بطرس ويوحنّا، حسبَما أمرَهم يسوعُ وأعدُّوا الفصحَ، أي ذبحوا خروف الفصح وشوَوه.

آ20. ولمّا كان المساءُ، اتّكأ مع تلاميذِه الاثني عشر. فإنَّ خروف الفصح كان يلزم أكلُه مساءً وبسرعة بموجب أمر السنَّة.

آ21. وفيما هم يأكلون قال لهم: الحقَّ أقولُ لكم إنَّ واحدًا منكم يسلِّمني. منكم أيُّها الاثني عشر الذين أحسنت إليكم أكثر من الباقين، وجعلتكم أخصَّ أتباعي، وأعلتكم وعلَّمتكم زمانًا مديدًا. وروى لو 22: 21 أنَّ المسيح قال هذا بعد رسم الإفخارستيّا. والظاهر من رواية متّى أنَّه قاله قبل رسمها. ورواية مار لوقا أحسن موقعًا، لأنَّ المسيح لم يشأ إقلاق تلاميذه بهذا الخبر المحزن قبل إبداع الإفخارستيّا، لئلاّ يعتريهم البلبال وشتات الأفكار، وقد قدَّم متّى ذكر ذلك عن محلِّه، وإن ارتأى أوتيميوس* وأغوسطينوس* أنَّ المسيح قال ذلك مرَّتين: قبل رسم الإفخارستيّا كما روى متّى، وبعده كما روى لوقا. وقد أعلن المسيح ذلك ليبيِّن أنَّه عالم بهذه الخيانة ولم يُؤخذ جبرًا عليه، ولينخِّس ضمير يهوذا ويحرِّكه إلى التوبة.

آ22. فحزنوا جدًّا وطفقَ كلٌّ منهم يقولُ له: هل أنا يا ربّ؟ وإن علم كلٌّ منهم إلاّ يهوذا أنَّه بارّ، فمع ذلك كانوا يصدِّقون قول المسيح (لعلمهم أنَّه منزَّه عن الغلط) أكثر من ضميرهم، كما قال فم الذهب*. فكان كلٌّ منهم يفتكر: ألعلِّي أضحيت بغتة أثيمًا ومنافقًا بهذا المقدار؟ ومن قوله "كلٌّ منهم" يظهر أنَّ يهوذا أيضًا قال: هل أنا يا ربّ، لئلاّ يكشف خيانته للرسل بصمته عن السؤال نظيرهم.

آ23. فأجابهم قائلاً: مَن يغمسُ يدَه معي في القصعَة هو يسلِّمني، أي الذي يأكل معي من صحن واحد. فكان من عوائد اليهود أن يأكل عندهم اثنان وثلاثة من صحن واحد، ويُبان أنَّ يهوذا كان متَّكئًا بجانب المسيح ويتناول من صحنه ليُخفي خيانته ويُبدي المودَّة له. وأشار المخلِّص بذلك إلى قول المرتِّل مز 40: 10: الذي أكل خبزي رفع عليَّ عقبه. وقول المسيح هذا لم يُظهر يهوذا بالتمام للأسباب المارّ ذكرها، وقد أظهره ليوحنّا فقط.

آ24. وابنُ الإنسان يَمضي حسبما كُتبَ عنه. أي يمضي إلى الموت باختياره تاركًا نفسه ليُسلَّم ويُخان، ليتمَّ ما كُتب عنه في الناموس والأنبياء. والويلُ لذلك الإنسانِ الذي بواسطتِه يُسلَّمُ ابنُ الإنسان، خيرٌ لذلك الإنسانِ ألاّ يُولَد. كأنَّه يقول: الويل لمن يخونني، ولا ويل أعظم من ويله فسيكون في قعر الجحيم، لأنَّه قاتل المسيح والله، وإثمُه فظيع جدًّا.

آ25. فأجابَ يهوذا الدافعُ قائلاً: لعلّي أنا يا معلِّم؟ ارتأى فرنسيس لوقا* باحتمال أنَّ يهوذا سأل المسيح بعد أن ناوله الخبز المبلول وأظهر ليوحنّا أنَّه خائنه، فكان يهوذا يقول للمخلِّص: أتظنُّ أنّي أخونك وأنا خازنك، وخَدَمْتُك بنصاحة وأمانة. وكان يهوذا يفتكر أنَّ المسيح لا يُشهره لوداعته الفائقة، وإذا أشهره فيُنكر ذلك دون خجل، ثمَّ يُظهر أنَّه اتُّهِم تهمة فظيعة، ويخرج من البيت ويصطنع الخيانة كأنَّه لم يكن تصوَّرها قبلاً. فقال له يسوع سرًّا وبصوت منخفض على الأحقّ، عناية من المسيح بحفظ سمعته، ولئلاّ يهيِّج الرسل ضدَّه، وليحرِّكه إلى التوبة بهذه الوداعة والمحبَّة: أنتَ قلتَ. أي تسأل عن الأمر وقد نطقت بحقيقته؟ وهذا كان من الأجوبة الرقيقة والمعتادة عند اليهود. ويظهر أنَّ المسيح أجابه كذلك، إذ ناوله الخبز المبلول، وإذ تناوله، قام حالاً عن المائدة وخرج من البيت ليُكمل نفاقه. واعلمْ توفيقًا لأقوال الإنجيليّين الذين روَوا كشف خيانة يهوذا باختلاف ما، أنَّ نظام التاريخ الذي يوفّق بين أقوالهم هو هذا: إنَّ المسيح قال قبل رسم الإفخارستيّا، كما يظهر من رواية متّى ومرقس، إنَّ واحدًا من رسله يسلِّمه دون أن يعيِّنه. ولمّا سأله كلٌّ من الرسل: هل أنا يا ربّ. أجاب: إنَّ الذي يسلِّمني يدُه معي في القصعة، وهذا القول لم يُشهر يهوذا كما تقدَّم. ثمَّ رسم الإفخارستيّا وقال إنَّ الذي يسلِّمه معه على المائدة كما روى لوقا ويو 13: 21، وحينئذٍ أشار بطرس إلى يوحنّا أن يسأله من يسلِّمه. فأجابه المخلِّص: من أعطيه الخبز. وأعطاه حالاً ليهوذا. وهو إذ شعر أنَّ ذلك دلالة عليه سأل بجرأة: هل أنا يا ربّ؟ فأجابه يسوع: أنت قلت. ولمّا رأى نفسه انفضح، خرج من البيت مغضبًا ومضى إلى قيافا يطلب جنودًا للقبض على يسوع.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM