مثل الوزنات.

 

 

مثل الوزنات

آ14. كمثَلِ إنسانٍ أرادَ السفرَ فدعا عبيدَه وأعطاهم مالَه. إنَّ المخلِّص يورد هنا مثلاً آخر، يُثبِت به ما أثبته المثل السابق قائلاً: إنَّه يَحدُث في كنيسة الله كما يَحدُث في أمر إنسان أراد السفر إلخ. فمقصده أنَّه يوضح بهذا المثل دقَّة الحساب الذي سيطلبه الله يوم الدين من الكسالى، وعظمة الثواب التي يجازي بها التعبين الذين استعملوا مواهبه بجدٍّ لمجده، جلَّ ثناؤه. إنَّ هذا المثل أشبه بالمثل الذي ذكره لو 19: 11 لكنَّه يختلف عنه ببعض ظروف. ولذا ارتأى فم الذهب* وينسانيوس* وغيرهما أنَّهما مثلان أوردهما المخلِّص. وارتأى إيرونيموس* وأمبروسيوس* وملدوناتوس* أنَّ ما ذكره متّى ولوقا مثلٌ واحد، وذكره الإنجيليّان باختلاف في ظروف المكان والزمان والغاية. ولنأتِ إلى تفسير المثل: فيراد بالإنسان الذي أراد السفر المسيح ،وبالسفر صعوده إلى السماء، كما ارتأى أوريجانوس* وإيرونيموس* وبيدا*، أو نَقْله الإنذار بالإنجيل من اليهود إلى الأمم بواسطة الرسل كما ارتأى غيرهم. يُراد بالعبيد على الأصحّ جميع المؤمنين، وإن حصره بعضهم على أصحاب المراتب الكنائسيَّة. وبماله مواهبه ونعمه، وهذه ثلاثة أقسام: الأوَّل النعم المصيِّرة الإنسان مقبولاً لديه تعالى كالإيمان والرجاء والمحبَّة والعفَّة وباقي الفضائل، ثمَّ الفضائل المجّانيَّة كموهبة اجتراح العجائب والرسالة والأسقفيَّة والكهنوت. والثاني مواهب الطبيعة كدقَّة العقل والصحَّة والقوَّة والفطنة. والثالث المواهب الخارجة كالأموال والمقامات ورتب الشرف.

آ15. أُعطي واحدٌ خمسَ وزنات وآخرُ وزنتَين وآخرُ واحدة. يريد بالوزنات نفس ما ذكرنا أنَّه يريده بماله، أي نعم الله ومواهبه التي لا يعطاها الجميع بمقياس واحد، بل يعطى بعضهم أكثر وبعضهم أقلّ. كلُّ إنسان حسبَ مُكنتُه. أي بحسبما يرى كلاًّ يحتمل ويفعل مع معونة الله. فإنَّ الله لا يُهمِل لدى الضرورة. والمساعدة التي يمنُّ بها على الملوك نوع، والتي يمنُّ بها على عامَّة الناس نوع آخر. والتي يؤتيها الأساقفة نوع، والتي يؤتيها النوتيَّة نوع آخر. وحاشا أن نقول مع بيلاجيوس* (كما لحن كلفينوس* باتِّهامنا بذلك)، إنَّ الله يهب نعمه لعبيده بحسب قوَّة طبع كلٍّ منهم واستحقاقه. لأنَّه تعالى وإن عدل نعمه التي يمنحها على قوى الطبيعة غالبًا، إلاّ أنَّه لا يمنحها ملاحظة لاستحقاق الطبيعة بل بمجرَّد مسرَّته. وكثيرًا ما يمنح الطبيعة الأكثر سموًّا نعمًا أدنى من التي يهبها الطبيعة لطبيعة أقلّ سموًّا . والنعم المصيِّرة الإنسان مقبولاً لديه لا يعدلها قطعًا عمر***، بل إمّا على مجرَّد مسرَّته كالنعمة الأولى المحرِّكة والمبرِّرة، وإمّا على استحقاق الإنسان الصادر من مطاوعته لنعمة الله. فإذًا تكون هذه الآية من جهة لزخرفة المثل، ومن جهة أخرى تخصُّ المقصود. فإنَّ المواهب المجّانيَّة والمراتب كالأسقفيَّة والرسالة والكهنوت يعدلها الله غالبًا على قوى الطبيعة، فلا يختار لمرتبة مَن لم يكن أهلاً لحملها، أو مَن لم يجعلها بمعونته أهلاً لها. كما يفعل الناس أنفسهم إذ يختارون أسقفًا أو راعيًا. وشدَّ مسافرًا حالاً. يدلُّ بذلك على الحرِّيَّة التي تركها الله لعبيده ليتاجروا بماله أو يتكاسلوا عنه كاختيارهم، كأنَّ سيِّدهم غائب.

آ16. فمضى ذلك الذي أخذَ الوزناتِ الخمس وتاجرَ بها فربِحَ خمسَ وزنات أُخر.

آ17. وكذلك الذي أخذَ الوزنتين فتاجرَ وربحَ وزنتَين أُخريَين. يريد بالمتاجرة والربح بالوزنات الازدياد بمواهب الله باستعمالها ومباشرتها، لاسيَّما بأعمال الخير ومساعدة القريب، فيشير إلى أنَّ كلَّ إنسان يلزمه السعي مع نعمة الله بكلِّ قوَّته. وبمقدار مطاوعة الإنسان للنعم الإلهيَّة، تشتدُّ فيه ملكات النعمة الفائقة الطبيعة ويصير أكثر قبولاً لديه تعالى.

آ18. وأمّا ذلك الذي أخذَ الوزنةَ الواحدةَ فمضى وحفرَ في الأرض، وأخفى فضَّةَ سيِّدِه، لكسله وتوانيه. فمِثل هذا مَن لا يجاوبون نعمة الله لصغر نفسهم أو خوفًا من التعب أو كسلاً، وينالون نعمة الله باطلاً، كما قال الرسول في 2 كو 6: 11 ، أي ينالونها دون ثمرة منها، ودون ربح بها. ولكن هل لا يوجد أحد ممَّن يأخذون الوزنتين أو الوزنات الخمس يدفن تلك الوزنات في الأرض؟ فآهًا! إنَّ هؤلاء لكثيرون، ولا يدفنونها في الأرض فقط بل يستعملونها شرَّ الاستعمال، إلاَّ أنَّ المخلِّص ذكر هنا واحدًا فقط لأنَّ الذين يُعطَون نعمًا ومواهب أقلَّ عددًا أو قوَّة، ينعكفون غالبًا إلى الكسل أكثر ممَّن فازوا بنعم وافرة وسامية. ولكي يشير إلى أنَّه إذا كان مَن دفن وزنة واحدة أصابه المصاب الآتي ذكرُه، فماذا يحلُّ بمن يدفن وزنات كثيرة؟ فلينتبه هنا من جمّلهم الله بالحذاقة أو العلم أو الفطنة أو غيرها من المواهب أو بمرتبة سامية، ولا يباشرونها لخلاصهم وخلاص القريب، فسوف يدينهم على ذلك المسيح الديّان يوم الدين الرهيب.

آ19. ثمَّ بعد زمانٍ طويلٍ جاء سيِّدُ أولئكَ العبيدِ وطالبَهم بالحساب. هذا الحساب يطلبه المسيح من كلِّ إنسان وقت موته، ومن الجميع معًا يوم الدينونة العامَّة.

آ20. فتقدَّمَ ذلك الذي أخذَ الوزناتِ الخمس وأعطى خمسًا أُخريات قائلاً: أعطيتَني يا ربُّ خمسَ وزنات وها خمسٌ أُخَر قد ربحتُها بالمتاجرة.

آ21. فقالَ له سيِّدُه: يا لك عبدًا صالحًا وأمينًا على القليل، فسأقيمُك أمينًا على الكثير، ادخُلْ فرحَ سيِّدِك. وروى لو 19: 19: كن مسلَّطًا على خمس مدن، فذلك استعارة عن عمل الملوك الذين من عادتهم أن يجازوا الخدّام الأمناء بالولاية على مدن كثيرة. ويشير إلى أنَّ القدّيسين الذين سعَوا مع النعمة الموهوبة لهم يصيرون شركاء بمجد الله ومُلكه وسروره، قليلاً أو كثيرًا بحسب تعب كلٍّ واستحقاقه.

آ22. ثمَّ جاء الذي أخذَ الوزنتَين قائلاً: يا ربّ، أعطيتَني وزنتَين وها هوذا وزنتان أُخرَيان قد ربحتُهما بالمتاجرة.

آ23. فقال له سيِّدُه: يا لك عبدًا صالحًا وأمينًا على القليل، فسأقيمُك أمينًا على الكثير، ادخُلْ فرحَ سيِّدِك. قد قال لصاحب الوزنتين ما قاله لصاحب الخمس. فإنَّ المخلِّص لا يعتبر وفرة الربح أكثر من الإرادة به، كما قال مار إيرونيموس*. ويمكن من أخذ وزنتين وتاجر بهما بجدٍّ ونشاط، أن يستحقَّ أكثر ممَّن أخذ خمس وزنات وتاجر بها بنوع من الكسل.

آ24. ثمَّ تقدَّمَ ذلك الذي أخذَ الوزنةَ الواحدةَ قائلاً: قد عرفتُك يا ربُّ أنَّك رجلٌ قاسٍ تحصدُ من حيث لا تَزرَعُ وتجمَعُ مِن حيث لا تبذُر.

آ25. فخفتُ ومضيتُ فدفنتُ وزنتَك في الأرض. ها هوذا مالُك. هذا القول من جملة زخرفات المثل، وهو تهمة وحيلة من الكسالى، كأنَّ الله يأمر بأمور فوق طاقتنا أو يطلب كمالاً أعظم ممّا يمكن الطبيعة الضعيفة أن تتَّصل إليه. وإن ارتأى إيرونيموس* أنَّ معناه أنَّ الله يطلب الأعمال الصالحة لا ممَّن أعطاهم شريعة موسى أو الإنجيل فقط، بل من الذين يعيشون دون شريعة أيضًا.

آ26. فأجاب سيِّدُه وقال له: أيُّها العبدُ الشرّيرُ الكسلان، تَعرفُني أنّي أحصدُ مِن حيثُ لا أزرعُ وأجمعُ من حيثُ لا أبذُر.

آ27. فكان الواجبُ عليك أن تضعَ فضَّتي على مائدتي وكنتُ أجيء وأطلبُ الذي لي مع ربحه. كأنَّه يقول: إنَّك قد تقاعدت أيُّها الكسلان عن أن تنال ربحًا ما دون تعب وخطر عليك، مثلاً بدفعك وزنتي للصيارفة أو المدينين لتجرّ نفعًا ما. يعني كان يمكنك بمساعدتك غيرك أو بمشاركتك له في عمل الخير، أو بمواظبتك على الصلاة وقبول الأسرار التي تزيد النعمة بالفعل المفعول، أن تحوز أرباحًا عظيمة لنفسك دون تعب أو خطر للخسارة. وهذا زخرفة للمثل أيضًا. جلُّ المقصود بها أنَّ كلَّ من نال موهبة من الله يسهل عليه أن يستخدمها بأحد الأنواع.

آ28. خُذوا منه الوزنةَ وأعطوها لمَنْ له الوزناتُ العشر. لا وزنته بذاتها وعددها، بل بنوعها وقيمتها. وإعطاؤها لمن له الوزنات العشر لا للاستعمال والتجارة مرَّة أخرى، بل لزيادة السرور والمجد والإكرام. فإنَّ القدّيسين بعد نوالهم السعادة لا يبقى محلّ لزيادة استحقاقهم، بل يتمتَّعون بأنواع الخير، حتّى يظهر أنَّ مواهب الأشرار تنتقل إليهم وذلك بمقدار ما يستعمل القدّيسون مواهب الله في هذه الحياة بأكثر استقامة. فكأنَّه يقول له: أيُّها العبد الكسلان، ها إنّي لا أرغب في الربح لذاتي كما اتَّهمتني بالبخل، بل أبتغيه لعبيدي، ولا أسترجع وزنتي الممنوحة لك إلى خزانتي، بل أمنحها لمن أحسن التجارة بوزناته.

آ29. لأنَّ الذي له يُعطى ويُزاد. أي من ربح بوزناته وبسعيه مع النعمة يُزاد نعمة ومجدًا. فإنَّ رأفة الله ترغب في ازدياد مواهبها وكمالها. ومَن ليس له يُؤخَذُ منه الذي له، أي يؤخذ منه الربح الذي كان يجب أن يكون له، أو ما كان يُبان أنَّه له، أو ما كان له إلى زمان، كملكات الإيمان والرجاء والمحبَّة وغيرها من الفضائل والنعم الفائقة الطبيعة. فكأنَّه يقول: إنَّ المثل السائر، وهو أنَّ الأغنياء يزادون والفقراء ينقصون، يتحقَّق بما نحن في صدده.

آ30. وأَخرِجوا العبدَ البطّالَ إلى الظلمةِ البرّانيَّة، أي إلى جهنَّم. هناك يكونُ البكاءُ وصريفُ الأسنان. وهذا تقدَّم تفسيره في مت 8: 12. واعلم أنَّ الأمثال الأربعة السابقة ذكرها، وهي مثَلُ اللصّ ومثلُ العبد ومثلا العذارى والوزنات، قد نظمها المخلِّص بنوع أنَّ ما كان منها أكثر تأخُّرًا، يوضح على أكمل وجه صورة الدينونة العامَّة الآتي ذكر صورتها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM