الشابّ الغنيّ.

 

الشابّ الغنيّ

آ16. وجاء إليه واحد. ارتأى مار إيرونيموس* أنَّ هذا نفس الكاتب الذي ذكره لو 10: 25 وأتى يجرِّب المسيح. والأحسن ما ارتأه فم الذهب* وغيره، أنَّ هذا غير الذي ذكره لوقا في المحلِّ المذكور، بل هو الذي ذكره لو 18: 18. وقال إنَّه من الرؤساء ومر 10: 17، وقال إنَّه سجد للمسيح وقال له: أيُّها المعلِّمُ الصالح. وهذه عبارة عبرانيَّة كانت تُستعمل في التحيَّة والملاطفة. ما الذي أعملُه من الصلاح لتكونَ لي الحياةُ الأبديَّة. وفي العربيَّة القديمة: لأرث الحياة الأبديَّة.

آ17. أمّا هو فقالَ له: لماذا تدعوني الصالح. كما روى مرقس ولوقا في المحلاّت المذكورة وبعض النسخ اليونانيَّة هنا. ولكن قرأت اللاتينيَّة: لماذا تسألني عن الصلاح. وليس الصالحُ إلاّ اللهَ الواحد. يعني أنَّ الله وحده هو الصالح طبعًا وذاتًا وبالضرورة والإطلاق، وينبوع كلِّ صلاح مخلوقٍ وأصلِه وعلَّتِه. ومِن ذا يظهر أنَّ الرئيس لم يكن يؤمن بأنَّ المسيح هو الله، ولذا يقول له المسيح إنَّ المديح الذي ينسبه إليه يجب لله وحده. فكأنَّه يقول: إمّا اعترفْ بأنّي الله، وإمّا لا تدعُني صالحًا، لأنَّ ليس الصالح إلاّ الله. فإذًا عبثًا استند الأريوسيّون* على هذه الآية ليبرهنوا أنَّ المسيح ليس بإله إذ قال إنَّه لا يحقُّ له أن يسمّى صالحًا. فكما أنَّه لم ينفِ الصلاح عن نفسه هكذا لم ينفِ الألوهيَّة. إنْ تُرِدْ أن تدخلَ الحياة فاحفَظِ الوصايا. إنَّ المخلِّص يعلِّم هنا أنَّ الإيمان وحده لا يخلِّص ولا يبرِّر، بل تُطلَب الأعمال الصالحة أيضًا التي بها نكمل الشريعة، فنستحقّ الجزاء في الحياة الأبديَّة والمجد الموعود به لمكمِّلي السنَّة، وهذا ضدّ المحدثين وضدّ كلفينوس* الذي زعم أنَّ المسيح قال ذلك تهكُّمًا على ذلك الشابّ، كأنَّه يقول له: احفظ الوصايا إن استطعت، لأنَّه يزعم أنَّ وصايا الله غير ممكنة الحفظ. إلاّ إنَّ ذلك أيضًا أرطقة وضلال مبين يضادُّ حكم المسيح على خطِّ الاستقامة كما هو بيِّن. فيُلحّ كلفينوس* قائلاً: إنَّ المسيح بذكره الوصايا الإلهيَّة ينفي على الأقلّ وصايا الكنيسة وتقليداتها. فأُجيب أنَّ وصايا الكنيسة متضمِّنة في وصيَّة الله الرابعة: أكرم أباك وأمَّك. فهذه تشمل الآباء الجسديّين والروحيّين وفي وصيَّة المسيح بأن نطيع الكنيسة. فضلاً عن باقي ما ينقض زعمه ويَمنع من ذكره الاختصار.

آ18. فقال له: وما هي؟ فأجابه يسوع: لا تقتل، لا تزنِ، لا تشهد شهادة زور.

آ19. وأكرِمْ أباك وأمَّك، وأحبِب قريبِك كنفسِك. قد ذكر المسيح وصايا اللوح الثاني الملاحظة القريب، لا وصايا اللوح الأوَّل الملاحظة الله، لأنَّ محبَّة الله تُصدر محبَّة القريب الذي نحبُّه لأجل الله، ولأنَّ محبَّة القريب أصعب من محبَّة الله. فمن لا يحبُّ الله؟ لاسيَّما إذا كان تقيًّا كهذا الشابّ. وفسَّر ملدوناتوس* تفسيرًا مخالفًا هذا، فقال: إنَّه ذكر وصايا اللوح الثاني، لأنَّ كلَّ من يحفظها يحفظ وصايا اللوح الأوَّل، وأنَّه فضَّل ذكر وصايا اللوح الثاني على وصايا اللوح الأوَّل، لأنَّ محبَّة القريب أسهل من محبَّة الله، واستشهد لذلك قول مار يوحنّا في رسالته الأولى (4: 20): من لا يحبُّ أخاه الذي يراه كيف يمكنه أن يحبَّ الله الذي لا يراه؟

آ20. فقالَ له ذلك الشابّ: هذه كلُّها حفظتُها من صغري فما الذي ينقصُني؟ ارتأى مار إيرونيموس* والبعض أنَّ هذا الشابّ كذب بقوله هذا، وارتأى باسيليوس* وفم الذهب* وغيرهما أنَّه صدق بقوله، ويؤيِّد رأيهم هذا رواية مر 10: 21 أنَّ يسوع نظر إليه وأحبَّه.

آ21. فقال له يسوع: إن شئتَ أن تكونَ كاملاً، وتُمارِسِ المحبَّة لله بأكمل نوع، وتَبلغِ إلى درجة سامية في المُلك السماويّ، امضِ حالاً، فبعْ، أي وزِّع حبًّا بالله مقتناك، أي مالَكَ الزمنيّ كلَّه، وأعطِه المساكين، فيكونَ لك كنزٌ في السماء. وهذه مشورة أخرى من المشورات الإنجيليَّة وهي المشورة بالفقر. وقد ذكر المشورة بالعفَّة في آ12 هنا. والمشورة الثانية بالطاعة الاختياريَّة سلَّمها بقوله: هلمَّ فاتبعْني، لتكون تلميذًا مطيعًا لي دائمًا. فقد قدَّم المسيح هذه المشورات الثلاث بمنزلة وسائط وآلات لممارسة المحبَّة وإدراك الكمال. وقد ألزم الرسلُ نفوسَهم بحفظها بنذرٍ كما علَّم مار أغوسطينوس*. ونتج سلميرن* والسواري* من آيات كثيرة من الكتاب المقدَّس أنَّ المخلِّص نفسه اتَّبع هذه المشورات فعلاً أيضًا. إلاّ أنَّ ذلك لا يُعجِب كلفينوس* والكلفينيّين، فإنَّهم أنكروا وجود المشورات بالكمال وقالوا هي اختراع من السفسطيّين. وعلَّم كلفينوس* في تفسير هذه الآية أنَّ قول المسيح لهذا الشابّ "امضِ فبع مقتناك" هو وصيَّة لا مشورة. والحالّ*** من لا يرى أنَّ ذلك مشورة جيِّدة ولكن غير مأمورة، وإلاّ فيكون حفظُ العفَّة الدائمة وصيَّةً أيضًا، لأنَّ مار بولس قال إنَّها صالحة (1 كو 1: 7) إذ هو القائل: وأمّا البتوليَّة فليس عندي أمر فيها من الله ولكنّي أشير فيها مشورة. وكلفينوس* لا يُسلِّم بأنَّ البتوليَّة وصيَّة، فلو كانت وصيَّة لوجب على الجميع حفظُها. ولذلك يلتزم كلفينوس* أن يُثبت ضلال بعض البلاجيّين الذين زعموا أنَّه لا يمكن أحدًا أن يدخل الحياة الأبديَّة، ما لم يبع جميع مقتناه ويوزِّعه على الفقراء. ثمَّ من لا يرى كيف ميَّز المخلِّص مفصِّلاً بين الوصايا والمشورات؟ فإذ تكلَّم في الوصايا قال: إن شئتَ أن تكون كاملاً، يعني أنَّ ذلك مطلوب للكمال لا للخلاص، ووعد بجزاء حفظ الوصايا بالحياة الأبديَّة، وجعل ثواب اتِّباع المشورة كنزًا في السماء أي مرتبة سامية. يعني أنَّ الإنسان إذا تبع المشورات لا يكون سعيدًا فقط، بل ذا مرتبة بين السعداء أيضًا.

آ22. فلمّا سمعَ الشابُّ هذه الكلمة مضى حزينًا لأنَّه كان ذا مالٍ كثير. فإنَّ الانكفاف عن جمع المال أيسر من تبديده بعد جمعه.

آ23. فقال يسوعُ لتلاميذِه: الحقَّ أقولُ لكم: إنَّ الدخولَ إلى ملكوتِ السماء يعسُرُ على الغنيّ. لأنَّ الرغبة في المال تهيِّج إلى احتشاده بحلال وحرام، ولأنَّها تُشْغل الغنيّ عن الافتكار بالسماء، ولأنَّ الغنى مادَّة ومنخس للكبرياء والبذخ وكلِّ الرذائل.

آ24. وأقولُ لكم إنَّ دخولَ الجَمَلِ في خرمِ الإبرة لأسهلُ من دخولِ الغنيِّ إلى ملكوتِ السماء. ارتأى بعضهم ذكرهم تاوافيلكتوس* أنَّ المفهوم بالجمل حبل السفينة. والأحقّ أنَّ المفهوم به الحيوان الكبير المعروف. فيريد أنَّ دخول هذا الحيوان الكبير في خرم الأبرة أسهل من خلاص الغنيّ المتوغِّل في الرغبات في المال والاتِّكال عليه، وذلك كان مثلاً عند اليهود يعبِّرون به عن الأمر الغير الممكن، كما قال أنجلوس كانينيوس*. وخصَّه المسيح هنا بالغنى من باب المبالغة، ولم يقُلْ إنَّ خلاص الغنيّ غير ممكن إلاّ عند البشر كما يظهر من قوله التابع. وأمّا عند الله أي بنعمة الله وقوَّته وبالقوى الفائقة الطبيعة فرَدُّ الغنيّ عن محبَّة المال وخلاصه سهلٌ، ودخول الجمل بخرم الإبرة ممكن أيضًا، إذ يجمع الله كلَّ جوهر الجمل بنقطة واحدة كما يجتمع جسد المسيح في الإفخارستيّا.

آ25. فلمّا سمعَ هذا التلاميذُ بُهتوا جدًّا وقالوا: مَن يمكنُه أن يخلُصَ. وروى أنَّ الرسل قالوا ذلك بينهم أي سرًّا.

آ26. فنظرَ فيهم يسوعُ وقال لهم: هذا عند البشر لا يُستطاع، وأمّا عن الله فكلُّ شيء مُستطاع. كأنَّه يقول: لا يمكن الغنيّ المتوغِّل بماله أن يخلص بقوى الطبيعة البشريَّة وحدها، فإنَّ الخلاص سعادة فائقة الطبيعة فلا يمكن إدراكه دون قوَّة فائقة الطبيعة، وأمّا لدى الله فكلُّ شيء مستطاع لأنَّه بادع الطبيعة والنعمة والمجد، ويجعلنا بنعمته ننتصر على كلِّ صعوبات الطبيعة. ويصير الأغنياء قليلي التعلُّق في غناهم وراغبين في التعليم الإنجيليّ واتِّباعه فيخلصون.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM