الفصل التاسع عشر: الزواج والطلاق.

 

الفصل التاسع عشر

فحواه تعليمه بأنَّ عقد الزواج غير منحلّ. وأنَّ أنواع الخصيان ثلاثة. وأنَّه لا ينبغي احتقار الأطفال وصدُّهم عن المسيح. وأن ليس الصالح بالإطلاق إلاّ الله وحده. وأنَّ حفظ الوصايا ضروريٌّ للخلاص بل إنَّه يطلب لإدراك المال ترك كلِّ شيء واتِّباع المسيح.

الزواج والطلاق

آ1. وكان لما أكملَ يسوعُ هذا الكلام انتقلَ من الجليل وأتى إلى عِبرِ الأردنِّ في حدودِ اليهوديَّة. إنَّ هذا التاريخ نفس الذي أورده مرقس (10: 1) ولوقا (9: 51)، وعلى ما يظهر أنَّه نفس التاريخ الذي رواه يوحنّا (7: 1). كذا ارتأى ينسانيوس* وفرنسيس لوقا* وغيرهما، وإن ارتأى ملدوناتوس أنَّ التاريخ الذي أورده يوحنّا غير الذي ذكره متّى هنا. على أنَّ الجليل واليهوديَّة ليسا في عبر الأردنِّ، بل على شاطئه، ولكن يسمّى المحلُّ هنا عبر الأردنِّ لعبور بني إسرائيل الأردنَّ من هناك وبلوغهم إلى اليهوديَّة والجليل. كذا ارتأى ملدوناتوس*. أو الأحرى أن يقال: إنَّ المسيح ترك الطريق القويم المؤدّي إلى أورشليم وعبر الأردنِّ وأتى إلى بيريا، ومنها إلى تخوم اليهوديَّة من جهة المشرق.

آ2. فتبعَه جموعٌ كثيرة، لا من الجليل، إذ أراد إخفاء سفره هناك، كما روى مرقس ويوحنّا، بل من المحلاّت التي اجتاز بها والمجاورة لها. وأبرأَهم، أي إبراء المرضى منهم، وربَّما المستحقِّين البرء فقط من المرضى. هناك. أي في حدود اليهوديَّة، إذ لم يُرد أن يدخل أورشليم بجمع حافل، لئلاّ يزيد تهيُّج الفرّيسيّين ضدَّه، ويفتح سبيلاً إلى ثلبه بالتسجيس وتهييج الشعب.

آ3. فجاء إليه الفرّيسيّون يجرِّبونه قائلين: هل يحلُّ للإنسان أن يطلِّقَ زوجتَه لأجلِ كلِّ علَّة، عادلة كانت أم ظالمة، ثقيلة أم خفيفة، كاختيار كلٍّ، دافعًا إليها كتاب الطلاق. فهذا كان رأي عامَّة اليهود، كما شهد يوسيفوس*، إلاّ أنَّ السنّة لم تكن تأذن بذلك إلاّ لداعٍ باهظ، كما في تث 24: 1. ويبان أنَّ هذه المحاورة كانت مُثارَة في أيّام المخلِّص، ولذا أوردها عليه الفرّيسيّون ليجرِّبوه بها. فإن قال لا يحلُّ الطلاق، فيوقعونه في البغضة من الأغنياء ومحبّي الشهوات الذين كانوا يصنعون ذلك. وإن قال الطلاق حلال، فيذمُّون تعليمه بأنَّه ناقص ولحميّ. وقد أوردوا عليه هذا السؤال، لا حين أتى من تخوم اليهوديَّة إلى أورشليم لعيد المظالّ، بل بعد تعييده في أورشليم وعودته إلى تخوم اليهوديَّة وعبر الأردنِّ ثانية، كما يظهر من بشارة يوحنّا (10: 40). لأنَّ متّى لم يذكر ذهاب المسيح إلى أورشليم ولا إيابه منها.

آ4. فأجابَهم قائلاً: أما قرأتم. هذا تعيير وتأنيب للفرّيسيّين على جهلهم الناموس، مع أنَّهم يدَّعون العلم به. أنَّ الذي خلقَ الإنسان، منذ الابتداء خلقهما ذكرًا وأنثى. وَهَم بعض الحمقى من هذه الآية أنَّ الله خلق آدم خنثيًّا أي ذكرًا وأنثى، ولكن آفٍّ من هذه المساخر. وقوله: منذ الابتداء، معناه في أوَّل خلق العالم. كأنَّه يقول إنَّه في تك 1: 27 لم يُقَلْ قطُّ عن أحد الحيوانات، أنَّ الله أقرن ذكرًا واحدًا مع أنثى واحدة إلاّ عن الإنسان وحده. فإذًا هذا نفسه يدلُّ على أنَّ زواج الناس يلزم أن يكون بين رجل واحد وامرأة واحدة، لا يمكن الرجلُّ تركها والتزوُّج بغيرها. ولو شاء الله أنَّ رجلاً واحدًا يتزوَّج بنساء كثيرات لخلق في البدء لا امرأة واحدة بل نساء. كذا قال إيرونيموس* وفم الذهب* وتاوافيلكتوس*. ومن كون المرأة أُخذت من الرجل أي آدم وهو واحد، يظهر أنَّ كثرة النساء معًا حرام ولا تجوز مفارقة الرجل للمرأة والتزوُّج بغيرها قبل موت الأولى. فهي بمنزلة عضو منه، كما قال آدم، ومن ذا يفصل الرأس أو عضوًا آخر عن باقي الجسم ليضع مكانه عضوًا غيره؟

آ5. وقال. في تك 2: 24، والضمير من قال عائد إلى الله. وإن عاد في التكوين إلى آدم، فآدم قاله بروح الله أو على فم الله، وعلى الأقلِّ قاله الله بواسطة موسى. ولهذا يتركُ الرجلُ أباه وأمَّه ويتَّحدُ بزوجتِه. أي من حيث إنَّ الله أقرن رجلاً واحدًا مع امرأة واحدة برباط الزواج، وحيث إنَّ امرأة الرجل الأوَّل أُخذت من عظامه ولحمه وصار من الواحد اثنان، فلهذا يترك الرجل في الأجيال الآتية أباه وأمَّه إذا لم يستطع أن يقيم بأودهما وأود امرأته معًا، ويتَّحد بامرأته بالسكنى والمعاشرة والحياة المشتركة خاصَّة، بعد تركه أباه وأمَّه وفصل بيته عن بيتهما. ويكون كلاهما جسدًا واحدًا. وقرأت اليونانيَّة: في جسد واحد، يعني يكونان بمنزلة إنسان واحد مدنيّ. فتكون لفظة "جسدًا" بمعنى إنسان، وذلك من باب وضع الجزء موضع الكلّ. فالمرأة بمنزلة الجسد والرجل بمنزلة الروح. ولذا يجب الاتِّحاد بينهما كاتِّحاد النفس في الجس،د لا بالإطلاق نظرًا إلى كلِّ مفعول طبيعيّ أو مدنيّ، بل بالنظر إلى اتِّحاد الأجسام وتربية الأولاد، كأنَّهما عضوان في جسم واحد مؤلَّفان من جزئين غير كاملين (كما كان يقول أفلاطون)، نظرًا إلى الولادة. فكما أنَّ جزء الجسد مثلاً القلب أو البطن لا ينبغي أن ينفصل عن باقي الجسد، هكذا الرجل لا ينبغي أن ينفصل عن المرأة.

آ6. إذًا ليس هما جسدَين بل جسدٌ واحد. أي إنسان واحد أدبيّ كما تقدَّم. وما أزوجَهُ الله لا يفرِّقْه الإنسان. لأنَّ هذا يكون ضدَّ رسم الله وضدَّ الطبيعة، كما إذا قسمت شخصًا واحدًا إلى شخصين كما قال فم الذهب. ومن ثمَّة يظهر أنَّ تزوُّج الرجل بامرأة واحدة وعدم حلِّ عقد الزواج، هما من ناموس الطبيعة الذي رسمه الله باري كلِّ الأشياء وسيِّدها، وذلك لإيقاع المحبَّة بين الزوجين وتسهيل تربية الأولاد. فكثرة النساء من شأنها أن تضعف المحبَّة وتُفضي إلى النزاع وتجعل تربية الأولاد عسرة. والنتيجة أنَّ ذلك لائق وجيّد وضروريّ، والناموس الطبيعيّ يأمر ضرورة بما هو كذلك. ويزيد ذلك تأكيدًا حال الطبيعة نفسها. فإنَّ وَلد الإنسان يحتاج مساعدة والديه سنوات عديدة، خلافًا لولد البهائم الذي يحتاجها أيّامًا قليلة. ولم يُجزْ قديمًا تكثير النساء وإعطاء كتاب الطلاق وحلُّ الزواج، إلاّ بسماح الله وتفسيحه من ناموس الطبيعة وملافاته الغوائل التي تنشأ من ذلك.

آ7. فقالوا له: لماذا أمرَ موسى أن يُعطى إلى الرجل كتابُ الطلاق ويسرِّحَها. أي يسرِّح المرأة. روى مر (10: 2) أنَّ الفرّيسيّين سألوا المسيح: هل يحلُّ الطلاق؟ فأجابهم: "فبماذا أوصاكم موسى؟" فقالوا له: إنَّ موسى سمح لنا أن نكتب كتاب الطلاق ونطلِّق". فردَّ المسيح حينئذٍ الزواج إلى حاله الأولى بعدم الانحلال، كما ذكر متى (آ4) هنا. فاعترضه الفرّيسيّون بقولهم لماذا أمر موسى أن يُعطى كتاب الطلاق ويسرِّحها.

آ8. فأجابَهم: إنَّ موسى سمحَ لكم أن تُطلِّقوا نساءَكم من أجلِ قساوةِ قلوبِكم. فعلى هذا الأسلوب تتَّفق روايتا متّى ومرقس، ويظهر أنَّ الفرّيسيّين قالوا أوَّلاً إنَّ موسى سمح لهم بالطلاق، كما روى مرقس، ولمّا اعترضوا، قالوا إنَّه أمرهم بذلك أمرًا، كما روى متّى في الآية السابقة، وذلك لتقوية اعتراضهم. والمسيح أجابهم أنَّ موسى سمح لهم سماحًا بالطلاق. فالطلاق كان مسموحًا به لا مأمورًا، وذلك السماح كان من أجل قساوة قلوبهم. فكأنّ المخلِّص يقول لهم: لو لم يسمح لكم موسى بالطلاق لارتكبتم شرورًا أكثر قبحًا، كقتل نسائكم أو جحود شريعة الله. وهذا لم يكُنْ منذُ الابتداء. لأنَّ الله جعل بين آدم وحوّاء رباط زواج غير منحلٍّ، والطبيعة المنفسدة اقتضت السماح بحلِّه موقَّتًا ،وأمّا الآن فقد أتى مصلح الناموس ومكمِّله، ولهذا أريد أن يكون الطلاق محرَّمًا، وأن يعود الزواج إلى ما كان عليه في بداية الطبيعة قبل انفسادها، وأن يكون مذ الآن فصاعدًا مثالاً للاتِّحاد الغير المنفكّ بين أقنومي الإلهيّ والطبيعة البشريَّة، ولاتِّحادي مع كنيستي.

آ9. وأقولُ لكم إنَّ مَن يُطلِّقُ امرأتَه من غير زنا ويتزوَّجُ غيرَها يزنِ، أي لا يعقد زواجًا حقيقيًّا، بل يرتكب فسقًا. زعم الروم ولوتارس* وكلفينوس* وتبَّاعهما وإراسموس* وكاترينوس* وغايطانوس*، سندًا على الآية، أنَّه يجوز طلاق المرأة لعلَّة زناها والتزوُّج بغيرها. والحالّ أنَّ ذلك كاذب ومضادّ تعليم الكنيسة: أوَّلاً، لأنَّ مرقس ولوقا لم يذكرا القيد الذي هو قوله من غير زنًا، وقد شرح ذلك الرسول في 1 كو 7: 10 بقوله: وأمّا المتزوِّجون فآمرهم، لا أنا بل الربّ، بأن لا تفارق المرأة زوجها، وإن فارقته فلتقم دون زوج أو فلتصالح بعلها، ولا يطلِّق الرجل امرأته. وقال في روم 8: 3: إنَّ المرأة ما دام بعلها حيًّا فهي مقيَّدة بالناموس. فإن نام بعلها تُعتَق، وإن تعلَّقت بحياة بعلها برجل آخر، دُعيتْ فاسقة. فإن مات زوجها فقد تحرَّرت من شريعة البعل، وليست بفاسقة إن صارت لرجل آخر. وقد رسم كذلك المجمع التريدنتينيّ جلسة 24 قانون 6 و7. فضلاً عن أنَّ هذا القيد يُنسَب بهذا المعنى إلى الطلاق أي الهجر من غير علَّة الزنا، لا إلى التزوُّج بغيرها من غير علَّة الزنا. فالمعنى هو أنَّ من يطلِّق امرأته من غير زنًا يزنِ، إذ يخطئ ضدَّ حقِّ الزواج ويجعلها تزني. ومن تزوَّج غير امرأته سواء وُجد الزنا أو لم يوجد يَزنِ. ثانيًا، لأنَّ ذلك يتأكَّد من السوابق، حيث أثبت المخلِّص أنَّ الزواج غير قابل الحلِّ من ذات الطبيعة وذات رسمه، ولا يرفع ذلك الزنا. ثالثًا، لأنَّ التوابع تؤكِّد ذلك أيضًا إذ قال بعده: ومن يتزوَّج مطلقة فهو زانٍ. فلو كانت الزيجة تُحلُّ بالزنا لما كان زانيًا من يتزوَّج مطلَّقة، إذ يكون انحلَّ عقد الزواج، وها إنَّه لم يقل هنا: ومن يتزوَّج مطلَّقة من حظِّ المطلَّقة دون ذنب، لأنَّ المطلَّقة دون ذنب لا تستطيع أن تتزوَّج بآخر، والمطلَّقة لزناها يمكنها على ذلك أن تتزوَّج بآخر. رابعًا، لأنَّ هذا هو حكم الكنيسة وتعليم علمائها والتقليد الثابت بها. خامسًا، لأنَّ متّى أراد، باستثناء حادث الزنا في القسم الأوَّل من الآية، أن يبيِّن أنَّ المسيح أجاب جوابًا سديدًا على مسألة الفرّيسيّين، وهي هل يحلُّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كلِّ علَّة؟ فالمخلِّص يجيب أنَّه لا يجوز الهجر لأجل كلِّ علَّة، بل بسبب الزنا (أو بسبب آخر ثقيل). وقوله في القسم الثاني من الآية: ومن يتزوَّج مطلَّقة فهو زانٍ، يلاحظ عدم انحلال الزيجة، لأنَّ مسألة الفرّيسيّين ذات معنيين، وهما هل يحلُّ الرجل أن يطلِّق امرأته لأجل كلِّ علَّة؟ وهل ينحلُّ الزواج بعد الطلاق أي الهجر من دون الزنا؟ وعلى المعنى الثاني بأن يتزوَّج مطلَّقة يزنِ، أي أنَّ الزواج لا يُحَلّ إلاّ بالموت. ويُفهَم بالطلاق بقول المسيح هنا الهجر، لا نظرًا إلى عقد الزواج، بل نظرًا إلى الفراش والسكنى، وقد تقدَّم كلامٌ في ذلك في مت 5: 33. وروى مرقس أنَّ المسيح قال لهم ذلك في البيت. فالتوفيق بأنَّه قال أوَّلاً للجمع، كما روى متّى، ثمَّ قاله للتلاميذ في البيت، كما روى مرقس.

آ10. فقال له تلاميذُه إن كانتْ حالةُ الرجلِ مع امرأتِه هكذا، حتّى لا يمكنه أن ينفصل عنها ولو كانت فظَّة الأطباع شنعة المنظر وقذرة وممروضة إلخ، فلا ينبغي أن يتَّخذَ امرأة، أي يتزوَّج. وأورد فم الذهب* سبب ذلك فقال: "إنَّ حرب الإنسان ضدَّ الشهوة وضدَّ نفسه لأخفّ من الحرب ضدَّ المرأة الشرّيرة". وسُئل بعض الحكماء عن اتِّخاذه امرأة صغيرة جدًّا فقال: انتخبت من الشرِّ أصغره. وارتأى ملدوناتوس* أنَّ المعنى: إن كانت حالة الرجل مع امرأته هكذا، حتّى ولو طلَّقها بسبب الزنا لا يمكنه أن يأخذ غيرها، فلا ينبغي أن يتزوَّج.

آ11. فقال لهم: ما كلُّ أحدٍ كفؤًا لهذه الكلمة. يعني لهذا الأمر، أي ليعيش دون امرأة. وقد ترجم أوريجانوس* والنزينزيّ* قوله: ما كلُّ أحد كفؤًا، بِ ما كلُّ أحد أهلاً. ويفهمون بالأهليَّة الميل الطبيعيّ إلى العفاف الذي لا يوجد في الجميع. والأحسن أنَّ قوله: ما كلُّ أحد كفؤًا، بمعنى أنَّ ما كلُّ أحد يسعى أو يكفي ليعتنق كذا مشورة بالعفاف. بل مَنْ وُهِبَ له العفاف من الله. واعلم أنَّ موهبة العفاف، وإن لم ينلها جميع المؤمنين، ليتعفَّفوا*** فعلاً، فمع ذلك ينالونها في الفعل الأوَّل، إذ يمكنهم حفظ العفَّة إن أرادوا، أي إذا سألوا الله بتواتر القوَّة والنعمة للتعفُّف، وجاوبوا نعمة الله بضبط النظر ومجانبة الأسباب والهرب من البطالة وقمع الجسد إلخ. كما أنَّه ليس لجميع الأبرار موهبة الثبات التي يثبتون بها بالفعل، ومع ذلك لجميعهم هذه الموهبة، بالنظر إلى أنَّه يمكنهم أن يثبتوا بنعمة الله إذا شاؤوا الثبات وباشروا الوسائط المبلِّغة*** إليه، لاسيَّما بالتماسه من جود الله. كذا علَّم فم الذهب* وأوريجانوس* وإيرونيموس* وأغوسطينوس* في مز 137، وغيرهم كثيرون. فالمسيح هنا كالرسول في 1 كو 7: 7 يشور على كلِّ المؤمنين بالعفاف، ولا يُشار على الإنسان بغير ما في اختياره واستطاعته مع نعمة الله، خلافًا لمواهب النبوءة والتكلُّم باللغات والعجائب التي ليست معدَّة للجميع، بل لقلائل.

آ12. لأنَّه يوجدُ خصيانٌ وُلدوا هكذا من بَطنِ أمَّهاتِهم. وهم العادمون آلات التناسل والباردون والغير أهل للزواج طبعًا. وخصيانٌ خصاهم الناس. وهم الذين يخصيهم الناس لخدمة الملكات والمخدِّرات الشريفات أو لحفظ لذَّة الصوت أو لغير ذلك. وخصيانٌ خصَوا نفوسَهم من أجلِ ملكوتِ السماء، لا خصيًا طبيعيًّا بل أدبيًّا، كما مرَّ في قطع الرِجْل وحسم اليد وقلع العين فيُراد بذلك الامتناع عن استخدام هذه الأعضاء حبًّا بالعفاف. كان الإنسان أعسم أو أعورَ أو مخصيًّا حقيقة. ويكون هذا الخصْي إمَّا بنذر العفَّة، وإمّا بالقصد الثابت لحفظها. كذا فسَّر إيرونيموس* وأغوسطينوس* وغيرهما، خلافًا لأوريجانوس* وبعض الأراطقة الذين كانوا يَخْصُون نفوسهم حقيقة ضدَّ الشريعة الإلهيَّة والطبيعيَّة التي تنهى عن كلِّ تعويه في الأعضاء، إذا كان ذلك التعويه غير ضروريّ ولا مفيد. على أنَّ هذا الخصْيَ، كما شهد فم الذهب* بل ابن سيراخ أيضًا في 10: 2 و39: 21 وغالانوس* وغيرهم، لا يمنع وثبات اللحم، ولا يزيل الرغبة في الأعمال الدنسة، ويُضرُّ ضررًا باهظًا بالصحَّة، ويقوّي الجسد والنفس. وقد استعمل المخلِّص لفظة "خصوا" ليشير إلى أنَّه لا بدَّ من تحمُّل ألم وحرب في الجسد، ولفظة "نفوسهم" ليبيِّن أنَّنا نستطيع على العفَّة بنعمة الله. ولذا يدعو الجميع إلى تحمُّل هذا الأمر الشريف والسامي والعسر، لكنَّه ممكن للنفس المجدَّة في اكتساب الفضائل قائلاً: مَن استطاعَ أن يكفيَ فليكفِ. كما قال قبلاً: ما كلُّ أحد كفؤًا. وقرأت العربيَّة القديمة: من استطاع أن يحمل فليحمل، يعني من استطاع مساعَدًا بنعمة الله أن يحتمل ذلك وأن يكون كفؤًا له، فليحتمله وليكن كفؤًا. وليختبر نفسه ويقدم على هذا الأمر العظيم فلا يعوزه شيء من جهة الله، بل يظفر وينال الإكليل السامي في السماء إن استمرَّ ثابتًا على قصده ومكمِّلاً إيّاه. وقوله: من أجل ملكوت الله، ليس معناه لأجل الإنذار بكلمة الله بأكثر راحة، كما فسَّر كلفينوس*، بل لأجل استحقاق هذا الملكوت بأعلى درجة ولنواله بأوفر سهولة* كما أشار مار بولس، وبرهنه القدّيسون فم الذهب* وإيرونيموس* وأمبروسيوس* وغيرهم بإسهاب. فإذًا من هذه الآية ينتج جليًّا أمران: الأوَّل، أنَّ حفظ العفَّة ممكن بنعمة الله، ولو كان من استطاع أن يكفيَ فليكفِ عبثًا ولا طائل له. وهذا ضدّ زعم لوتاروس* الذي قال إنَّ الحياة دون امرأة غير ممكنة، كما أنَّها غير ممكنة دون أكل وشرب. فإي نعم، إنَّها غير ممكنة، ولكنَّ للإراطقة لا للمسيحيّين المؤيَّدين بإيمان المسيح ونعمته. وينتج من زعم لوتاروس* هذا الوخيم أنَّه لا يلزم أحدًا أن يحفظ العفاف، لئلاّ يجرِّب الله كما يجرِّبه من يريد أن يعيش دون أكل وشرب. وأنَّه إذا مرضت المرأة أو غابت طويلاً، فيحقُّ للرجل أن يتزوَّج بغيرها أو يضاجع غيرها، كما يحقُّ أن يأكل من مال غيره إذا بقي أيّامًا دون أكل ولم يكن له ما يأكل من ماله، وكذا يحقُّ للمرأة إذا مرض زوجها أو غاب طويلاً. فما أقذر هذه النتائج الناتجة ضرورة من تعليم لوتاروس*، كذا قال ملدوناتوس*. والثاني، أنَّ حفظ العفَّة ليس بمأمور، بل مشار به فقط ومسلَّم لاختيار الإنسان، إذ قال من استطاع أن يكفيَ فليكفِ أو أن يحمل فليحمل شاء أم أبى. وعملُ الكنيسة طبق ذلك، إذ لا تجبر أحدًا على حفظ العفاف ما لم يقيِّد نفسه به طوعًا. فإذًا قد لحن البروتسطنت إذ زعموا أنَّ الكنيسة تمنع من التزويج.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM