الفصل السابع عشر:التجلّي.

 

الفصل السابع عشر

فحواه قصَّة تجلّي المخلِّص على الجبل وأمره بالصمت عن ذلك إلى بعد قيامته. وتعليمه بأنَّ إيليّا سوف يأتي قبل الدينونة الأخيرة وأنَّ المرموز عنه بإيليّا هو يوحنّا المعمدان قد أتى. وإبراؤه الغلام الذي كان يقع برؤوس الأهلّة الذي لم يستطع التلاميذ إبراءه لقلَّة إيمانهم. وإنذاره بآلامه ثانية. ووفاؤه الجزية عنه وعن بطرس.

التجلّي

آ1. وبعد ستَّة أيّام. مرَّت بعد الوعد السابق ذكره، وهذه الأيّام كانت كاملة. فإنَّ لو 9: 28 قال إنَّ هذا حدثَ بعد نحو ثمانية أيّام لإدخاله يوم الوعد ويوم التجلّي في حسابه الأيّام، مع أنَّ متّى ذكر الأيّام المتوسِّطة بينهما فقط. كذا فسَّر فم الذهب* وأوتيميوس* وغيرهما. أخذ يسوع الصفا ويعقوب ويوحنّا أخاه. وقد أخذ هؤلاء الثلاثة دون غيره، لأنَّهم كانوا أولى من الباقين برؤيته، كما قال فم الذهب*، إذ لم يكن مناسبًا إظهار هذا السرّ العظيم حالاً وفي البداية لجميع الرسل، بل المختارين منهم لذلك. ويعقوب هذا هو يعقوب الكبير ابن زبدى الذي هو أوَّل من نال من الرسل إكليل الشهادة، كما في أع 12. فإذًا قد سها مار أغوسطينوس* إذ ارتأى في غلا 2، أنَّه يعقوب الصغير أخو الربّ، وأوَّل أسقف على أورشليم، ومؤلِّف الرسالة القانونيَّة. وأصعدهم جبلاً عاليًا وحدهم. والرأي الأعمّ أنَّ هذا الجبل هو جبل طابور الذي صار لذلك مقدَّسًا ومشهورًا بزيارات المسيحيّين له، كما قال إيرونيموس* في رسالته 27 رأس 17 من مقالته في الأماكن المقدَّسة. وزاد بيدا* أنَّه أقيمت هناك ثلاث كنائس بموجب رغبة بطرس في قيام ثلاث مظالّ. على أنَّه يظهر أنَّه يتلخَّص من مر 9 أنَّ هذا الجبل لم يكن جبل طابور، الذي موقعه في وسط الجليل، فإنَّ مرقس عند ختام خبر التجلّي، روى في آ30 أنَّ المسيح وتلاميذه، بعد أن ذهبوا من المحلِّ الذي تجلّى فيه، اجتازوا الجليل. ولو كان تجلّيه في طابور الذي هو في الجليل لقال: خرجوا من الجليل. ولهذا ارتأى فرنسيس لوقا* أنَّه تجلّى في جبل لبنان. فإنَّ لبنان مشرف على قيساريَّة فيلبُّس التي كان المسيح يتردَّد في تخومها، كما يظهر من آ13 في الفصل السابق، وشهد مار إيرونيموس* أنَّ هذا الجبل أعلى من جميع جبال فلسطين، وقد تنبأ عليه أشعيا بقوله: مجد لبنان أُعطي له. لكنَّ هذا البرهان لا يُقنع ولا يجبر على الابتعاد عن الرأي الأعمّ.

آ2. وتجلّى يسوعُ أمامهم. وقوَّة اللفظة اليونانيَّة: تغيَّرت صورته الخارجة. ومثلها السريانيَّة. وقرأت العربيَّة القديمة: وأظهر مجده أمامهم. وكان هذا التغيير إلى صورة بهيَّة جدًّا مع بقاء السمة والخطوط في وجهه، كما كانت أوَّلاً وزيد عليها نورٌ لا يوصف، كما قال: واستنار وجهُه كالشمس. وعمَّ هذا البهاء جسده كلَّه، كما ارتأى مار أفرام في خطبته في التجلّي، وأمبروسيوس* وإيرونيموس* وغيرهم. وإن ارتأى الأبولنسيّ* وسلميرن* وتوليتوس* أنَّ وجهه فقط استنار. فإذًا متّى ومرقس يفهمان بوجهه، باقي أعضاء جسده. ومن المعلوم أنَّ المسيح لم يُظهر لاهوته لرسله كما يُظهره للقدّيسين في السماء ويُسعدهم به، لأنَّ هذا لا يمكن أن يُرى بالقوى الجسديَّة. وروى لوقا أنَّه تجلّى مصلِّيًا، فذلك ليعلِّمنا فاعليَّة الصلاة وثمرتها. وقد نبَّه أوتيميوس* ومار توما* وغايطانوس* أنَّ هذا البهاء لم يتعلَّق بالمسيح خارجًا (كما عرض لموسى سابقًا في المخاطبة الإلهيَّة)، بل برز من داخل أي من طبيعته الإلهيَّة إلى البشريَّة، ومن النفس إلى الجسد، فلم يعلِّق بالهواء ولا بأعين الرسل. وهذا البهاء قد حُصر دائمًا بأعجوبة في باقي أيّام حياته، لئلاّ يصدَّ عن آلامه. وأخيرًا اتَّصل بهذا البهاء من جسده إلى أثوابه، كما قال: وابيضَّتْ ثيابُه كالنور. كذا قرأت السريانيَّة واليونانيَّة والعربيَّة القديمة والقبطيَّة. وقرأت اللاتينيَّة: كالثلج، كما قرأت جميع النسخ في بشارة مر 9: 2. والمعنى أنَّ ثيابه أضحت كلِّيَّة البياض ولمّاعة، كما روى مار لوقا. فالمسيح أراد أن يعطي هنا مثالاً لصفة البهاء، إحدى الصفات الأربع التي تتلألأ بها أجساد الطوباويّين، وهي البهاء والخفَّة واللطافة وعدم التألُّم. وقد تجلّى المسيح ليُثبت بأكثر توكيد لاهوته لرسله، ولنا بواسطتهم، ولكي يشدِّدهم، لئلاّ يفشلوا إذا رأوه يُصلب، وليعطي مثالاً لمجيئه بالعظمة يوم الدين. كذا فسَّر مار أفرام* وكيرلُّس* والدمشقيّ*. وأخيرًا لكي يشجِّع الجميع على حمل الصليب رجاء بنوال مجد شبيه بهذا ثوابًا، بعد القيامة، كما ارتأى القدّيس لاون* في خطبته في التجلّي.

آ3. فتراءى لهم موسى وإيليّا. وزاد لو 9، أنَّهما ظهرا بالمجد. فيظهر أنَّه اتَّصل إليهما مجد المسيح وإشراقه، وكانا يخاطبانه. وزاد لوقا في شأن مخرجه العتيد أن يتمَّ في أورشليم، أي في خروجه بالصليب من هذه الحياة، الذي كان عتيدًا أن يكمل بعد ثمانية أشهر، إذ كان التجلّي في 6 آب الذي تعيِّد الكنيسة فيه عيد التجلّي. أجيب: أوَّلاً، ليظهر أنَّ المسيح ليس إيليّا أو أحد الأنبياء مثلاً موسى، كما كانت العامَّة تتوهَّم. ثانيًا، ليوضح موسى مسلِّم الشريعة وإيليّا إمام الأنبياء أنَّهما كانا قديمًا قاصدين من قبل المسيح، وقد أتى الزمان ليشهرا أن قد انتهى ظلُّ الناموس وكملت رموز جميع الأنبياء. كذا قال فم الذهب* وإيرونيموس* وأمبروسيوس*. ثالثًا، لتبان للرسل وداعة موسى وغيرة إيليّا، خاصَّة ليقتدوا بهما، أملاً بمجد كذا، وليوضح أنَّه سيِّد الأحياء والأموات، إذ دعا موسى من الأموات وإيليّا من الأحياء، كما علَّم مار توما*. فتساءلْ بأيَّة هيئة ظهر هذان النبيّان، والجواب أنَّ الجميع يتَّفقون على أنَّ إيليّا ظهر بجسده، إذ لم يزل حيًّا، فنقله ملاك إلى جبل طابور. وأمّا موسى ففي كيفيَّة ظهوره أقوال: ارتأى بعضهم أنَّه لم يظهر حقيقة، بل ظهر ملاك بهيئته. ولكنَّ برهان السواري* أنَّ هذا كاذب ومضلّ. فالصحيح إذًا أنَّ نفس موسى خرجت من اليمبوس إلى الأرض، واتَّخذت جسدًا هوائيًّا كوَّنه ملاك، كما ارتأى الليري* وسلميرن* والأبولنسي* ومار توما* قسم 3 بحث 45. أو أخذت جسدها الأصليّ وقامت، إذ جمع ملاك ترابه وأدخل الله نفسه فيه ونقله ملاك إلى طابور. كذا ارتأى أوريجانوس* وترتوليانوس* وغيرهما. وإن اتَّبعتَ رأي هؤلاء يلزم أن تقول: إنَّ موسى عاد مات ثمَّ قام بعد قيامة المخلِّص. وكيف عرفهما الرسل؟ أجيب: أوَّلاً من الشكل الخارج المذكور في الكتاب المقدَّس، فعرفا موسى من وجهه المكلَّل بالنور الساطع، وإيليّا من المركبة الناريَّة والمنطقة الجلديَّة. كذا قال دروتماروس* نقلاً عن أوريجانوس*. ثانيًا، من الخطاب الذي لا بدَّ فيه من ذكر الأسماء. وقد زعم بعضهم أنَّهما ربَّما خاطبا الرسل، مثلاً ربَّما قال لهم موسى: هذا هو الذي قلت عنه إنّ الربَّ يقيم لكم من إخوتكم نبيًّا مثلي، فاسمعوا له. ثالثًا، وخاصَّة قد عرفهما الرسل بإلهام إلهيّ، كما قال ترتوليانوس*.

آ4. فأجابَ بطرسُ وقال ليسوع، أي أنشأ يقول له: حسنٌ بنا يا ربّ أن نكونَ ههنا وإن شئتَ فنصنعُ هنا ثلاثَ مظالَّ، لكَ واحدة ولموسى واحدة ولإيليّا واحدة. إنَّ بطرس لمّا رأى موسى وإيليّا على أُهبة السفر مباينة المسيح، كما يتلخَّص من رواية لوقا، تاق إلى إمساكهما هناك، ومواصلة التنعُّم والسرور الحاصلين من حضورهما ومجد المسيح، فأباح باستعداده مع رفيقيه لنصب ثلاث مظالّ للإقامة هناك دائمًا. لكنَّه لم يكن يعلم ما يقول، كما روى لو 9: 33. فماذا تظنُّ يا بطرس، القدّيسون يحتاجون مظالَّك، أو تخال أن تحصل على ثواب الظفر قبل الظفر أو على الإكليل، قبل الجهاد؟ هلاّ سمعت من كلامهم أنَّ المسيح عتيد أن يمضي إلى الصليب في أورشليم. على أنَّ بطرس كان يعلم أنَّ الطوباويّين لا يحتاجون مظالّ وإنَّما قال ذلك عند نهاية التجلّي، إذ كان موسى وإيليّا على أهبة المبارحة، ليمسكهما عن الماضي، وليُظهر شديد رغبته في بقائهما مع المخلِّص. ولم يذكر مظلَّة له ولا ليعقوب ويوحنّا، لأنَّه كان يرغب في إقامة موسى وإيليّا الآخذين بالسف،ر فلم يهتمّ بنفسه ولا برفيقيه. أو افتكر بأن يكون هو ورفيقاه مع المسيح في مظلَّة واحدة، كما قال الأبولنسيّ*، أو بأن يكون هو مع المسيح، ويعقوب مع موسى، ويوحنّا مع إيليّا، كما قال الليريّ*.

آ5. وفيما يتكلَّم وإذا بسحابة نيِّرة ظلَّلتهم، وفصلت بين التلاميذ وبين المسيح وموسى وإيليّا، على ما فسَّر توليتوس*. والأحسن ما ارتآه فرنسيس لوقا* أنَّ السحابة ظلَّلت جميعهم، ثمَّ حجبت موسى وإيليّا عن الرسل، إذ روى لوقا أنَّهم خافوا، إذ رأوا موسى وإيليّا دخلا السحابة. وهذه السحابة قد كوَّنها الله بواسطة ملاك من تكاتف الهواء والأبخرة، وذلك لأسباب منها أن يرتدع بطرس عمّا بدا منه، بقوله أن يصنع المظالّ، ليبان أنَّ المسيح لا يحتاج مظالَّ مصنوعة بالأيدي. ومنها أن تعتدل بهذه السحابة شدَّة الضياء، لئلاّ تغشّي أبصارهم، كما قال مار أمبروسيوس*. ومنها أن يستدلُّوا بالسحابة على حضور الله، إذ حدث مثل ذلك مرارًا في العهد القديم. وصوتٌ سُمعَ من السحابة. هذا الصوت من حيث إنَّه من الأفعال الخارجيَّة، كما يتكلَّم اللاهوتيّون، فقد كوَّنه الثالوث الأقدس كلُّه بواسطة ملاك. وارتأى براديوس* أنَّه كان بعد ذهاب موسى وإيليّا، ليتأكَّد أنَّ الصوت موجَّه إلى المسيح دون غيره، ويظهر ذلك من بشارة لوقا أيضًا. قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به ارتضيت. هذا قد مرَّ تفسيره في 3: 17. فاسمعوا له، إذ رأيتم الشريعة والأنبياء يخضعون له. اسمعوا له فإنَّه فمي وكلمتي، ومكنونةٌ فيه ذخائر الحكمة والعلم، وأطيعوه وآمنوا به واخدموه كما تصنعون لي، ولو فرض عليكم أمورًا عسرة أو أنذركم لتؤمنوا بأمور يعسر الإيمان بها. وقد ظهر هنا، كما في اعتماد المخلِّص، ظهورًا رمزيًّا، سرّ الثالوث الأقدس، إذ ظهر الروح القدس بالسحابة، والآب بالصوت، والابن بالبهاء والمجد. وظهر أيضًا سرّ تجسُّد الكلمة، إذ ظهر المسيح إنسانًا، وأشير بالبهاء والمجد وصوت الآب أنَّه إله وابن الله.

آ6. ولمّا سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدًّا. ارتأى بعضهم أنَّهم خافوا من أن معلِّمهم يُخطَف بالسحابة مع موسى وإيليّا. وغيرهم أنَّهم خافوا من الأمر العجيب والحديث الإلهيّ، ولأنَّ الصوت كان كالرعد القاصف، كما قال مار أفرام* في خطبته في التجلّي.

آ7. فدنا منهم يسوع ولمسَهم قائلاً: قوموا لا تخافوا. إنَّ الرسل الثلاثة أرعدهم صوت الله، فلمسهم ناسوت المسيح وأقامهم الله. فالمسيح هو الوسيط بين الله والناس، ولهذا جاء.

آ8. فرفعوا عيونهم فلم يروا أحدًا إلاّ يسوع فقط. إذ توارت السحابة مع موسى وإيليّا، وانتهى تجلّى المخلِّص وعاد إلى هيبته الأولى. وبالمعنى الرمزيّ قد بطل ظلُّ الشريعة الموسويَّة والأنبياء، واستمرَّ المسيح وشريعته.

آ9. وفيما هم منحدرون من الجبل أوصاهم يسوعُ قائلاً: لا تُعلموا أحدًا بالرؤيا، لا من الرسل، لئلاّ يُفضي ذلك إلى الحسد بينهم، إذ روى مر 9: 10 أنَّهم أسروا هذه الكلمة في نفوسهم. ولا من غير الرسل للأسباب التي ذكرت آنفًا في 16: 20. وروى لو 9: 36 أنَّهم لم يخبروا أحدًا في تلك الأيّام بما أبصروا، وإن ارتأى إيرونيموس* وبيدا* أنَّه أوصاهم بألاّ يُعْلموا أحدًا من الشعب ولم ينهَهم عن إعلام الرسل، وكان نهيُه عن إشهار ذلك موقَّتًا، أي حتّى يقومَ ابنُ الإنسان من بين الأموات. فحينئذٍ يكون الوقت الموافق لإشهار ذلك، ويفهم الجميع أنَّه تألَّم طوعًا، وأنَّ تجلّيه كان رسمًا لقيامته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM