المشي على الماء.

 

المشي على الماء

آ22. واضطرَّ تلاميذُه حالاً أن يصعدوا إلى السفينة ويسبقوه إلى العِبر لكي يُطلقَ الجمع. يظهر من يو 6: 16 أنَّ التلاميذ لم يسافروا بأمر المسيح، إذ توارى عنهم، بل سافروا بمجرَّد إرادتهم بعد أن انتظروه إلى المساء، فلم يعد. فالمسيح قبل أن يتوارى أمرهم أن يسافروا إلى كفرناحوم. وهم انتظروه إلى المساء أملاً بعودته، فلم يعد، أو إنَّه أمرهم أوَّلاً بالسفر وبقي هناك ليطلق الجمع. ولمّا سافروا وأطلق الجمع صعد إلى الجبل يصلّي. فمتّى ذكر أمره لهم بالسفر وأهمل الباقي، ويوحنّا ذكر انتظارهم له وسفرهم وأهمل الباقي. كذا وفّق ذلك ملدوناتوس*. وقد فعل المخلِّص هذا ليصلّي منفردًا وبأكثر سكون، كما يظهر من العدد التالي، وليفرَّ من بين الجمع الذي كان يريد أن يقيمه ملكًا من أجل آية تكثير الخبز، كما روى يو 6: 15.

آ23. ولمّا أطلقَ الجموعَ صعدَ إلى الجبل يصلّي منفردًا. يظهر من يو 6: 2 و15 أنَّه صعد إلى الجبل مرَّتين: الأولى، مع تلاميذه قبل الأعجوبة. والثانية، وحده بعدها. وقد صلّى منفردًا ليعلِّم المؤمنين أن يصلُّوا بعيدين عن الاجتماعات والضوضاء، وليعلِّم الموعوظين أن يعتزلوا عن الناس أحيانًا ليختلوا مع الله ويزدادوا تشدُّدًا بروحه وحرارة الإيمان. ولمّا كان المساءُ وكان هناك وحده، أي لمّا كان الظلام مسدلاً كما روى يوحنّا، وقد ذكر متّى هذه العبارة تمهيدًا لذكر الأعجوبة الآتي إيرادها، أي ليوضح أنَّ يسوع أتى من الجبل ومشى على البحر ليساعد تلاميذه في هيجانه.

آ24. والسفينة التي كان فيها التلاميذ، بعُدَتْ عن الأرض أميالاً كثيرة. وفي اللاتينيَّة: والسفينة في وسط البحر، أي بحر الجليل. وقد ضربتها الأمواج المضادَّة الريح لها. وكان يسوع حرَّك هذه الريح بإرادته، توطيدًا لإيمانهم وثباتهم في المصائب، ويدلُّ ذلك بالمعنى الرمزيّ على أرياح الاضطهادات والتجارب، التي تثب على الكنيسة والنفس المؤمنة في هذا العالم.

آ25. جاءهم يسوعُ في الهجعةِ الرابعة. يعني عند آخر الليل، ولذا قد اعتادوا أن يدعوا هذه الهجعة هجعة الصباح أيضًا. وكان تقسيم الليل إلى هجعات بسبب المحافظة على العساكر ليلاً، بحسب اصطلاح الرومانيّين. وكانوا يقسمون الليالي القصيرة إلى ثلاث هجعات والطويلة إلى أربع. وهذه الأعجوبة قد حدثت بعد تكثير الخبز الذي كان في قرب عيد الفصح، كما يظهر من بشارة يو 6: 4، وبالتالي كان تسكين البحر عند انتصاف الليل، والنهار في الربيع. ولم يأتِ يسوع إلاّ في الهجعة الرابعة أي عند الصباح، بعد أن لبثوا الليل كلَّه بالاضطراب ليعوّدهم احتمال المصائب والشدائد، ويطلبوا عونه بأشدِّ حرارة، وليُظهر لهم اضطرارهم إلى الأعجوبة. فلا ينبغي أن نتعجَّب نحن إذا لم يُغثنا الله حالاً في شدائدنا، فيريد تعالى اختبار صبرنا ونظر جهادنا. وفي الهجعة الرابعة أي عند اشتداد الخطر، تفاجئنا معونته كما فاجأت التلاميذ إذ جاءهم ماشيًا على البحر بقوَّته الإلهيَّة.

آ26. ولمّا رآه التلاميذُ ماشيًا على المياه اضطربوا وقالوا إنَّه خيال. وكانوا يظنُّون ذلك خداعًا شيطانيًّا، ولذا قال: ومن خوفِهم صرخوا. إذ كان كثيرون يُقنعون نفوسهم بأنَّ الخيالات تؤذي من تظهر لهم، وتسبِّب للمسافرين في البحر تهلكة، ولأنَّهم لم يعرفوا أنَّ الذي ظهر لهم هو يسوع، خاصَّة لأنَّه كما روى مر 6: 48، وافاهم ماشيًا على الأمواه ويريد أن يجتازهم، كأنَّه غير مبالٍ بهم.

آ27. فكلَّمهم يسوعُ حالاً وقال: تشجَّعوا أنا هو لا تخافوا. فحيث يشتدُّ الخطر توافي معونةُ الله ويدُه.

آ28. فأجاب بطرسُ وقال له: يا ربّ إنْ كنت أنت، فامرْني أن آتي إليك على الماء. إنَّ كلفينوس* يشكو بطرس بالجسارة والحماقة قائلاً: إنَّ بطرس كان يرتاب: هل ما ظهر له هو المسيح أو روح شيطانيّ؟ إذ كان يمكن الشيطان أن يخدعه بأنَّه المسيح ويأمره بالإتيان إليه ويغرقه. فيجيب الآباء والمفسِّرون في هذا المحلّ أن بطرس عرف أنَّه المسيح من صوته وحركته وملبوسه، وخاصَّة بإلهامه الباطن. وقوله "إن كنت أنت" ليس كلام مرتاب، بل كلام مرتكض فرحًا ومشتاق أن يرى المسيح. قال القدّيس إيلاريوس*: تأمَّل ببطرس أنَّه فاق الباقين بالإيمان. وقال القدّيس إيرونيموس* عنه: إنَّه بحرارة الإيمان التي كانت فيه دائمًا قد آمن الآن أيضًا. والباقون صامتون بأنَّه يستطيع أن يفعل بإرادة معلِّمه ما يستطيع معلِّمه أن يفعله طبعًا. ثمَّ لو سلّم بأنَّ قوله "إن كنت أنت" كلام مرتاب، فيكون بطرس طلب أن يأمره لا خارجًا فقط، بل باطنًا أيضًا، بوضعه في نفسه الحرارة والثقة، حتّى لا يرتاب بأنَّه إذا أمره المسيح فيمشي على المياه، ولذا حالما أمره يسوع نزل من السفينة، كما قال.

آ29. فقال له يسوع: تعالَ. فانحدرَ بطرسُ من السفينة ومشى على الماء آتيًا إلى يسوع. إنَّ بطرس كان أوَّلاً متمسِّكًا بيديه بالسفينة وممتحَنًا برجليه: هل يهبط الماء به؟ وإذ رآه لا يهبط اطمأنَّ بذلك بقول المخلِّص له "تعال"، فمشى على المياه. فحفظ المخلِّصُ بطرسَ وقتئذٍ بقوَّته الإلهيَّة من الغرق، كما حمل الملاك حبقوق من ناصيته (كما ورد في دا 4: 35)، وذلك إمّا بتوقيفه ثقل جسم بطرس إلى زمان، وإمّا بكونه لم يساعد الماء بعنايته العامَّة ليهبط تحت أقدام بطرس. وهذا مثال للخفَّة التي تُعطاها الأجساد الممجَّدة بعد القيامة.

آ30. وإذ شاهدَ قوَّةَ الريحِ عاصفة، خافَ وأوشكَ أن يَغرقَ. إنَّ شدَّة الريح ألقَتْ في بطرس الخوف، والخوف عدم الثقة، وعدم الثقة الخطر. فإنَّ من كان الإيمان يحمله فوق المياه، كاد عدمُ ثقته يَغرقه، فخاف من أن يسمح المخلِّص فتُغرقه الأمواج والأرياح، إذ لم يكن قَبِلَ بَعدُ اشتدادَ الإيمان والمحبَّة من الروح القدس يوم العنصرة. وكانت هذه التجربة صورة لتجربته وإنكاره معرفة المسيح يوم آلامه. وسمح المسيح بذلك ليعرف بطرس ضعف إيمانه، ويتواضع ويلتمس الثبات من المسيح، فيصير صخرة تُبنى عليها الكنيسة. فصرخ قائلاً: يا ربُّ نجِّني. من هنا يتأكَّد أيضًا أنَّ بطرس لم يرتبْ بكون الذي ظهر له هو المسيح، وإلاّ لما دعاه بخطر كذا، بل ارتاب فقط هل يسمح المسيح للريح والأمواج أن تُغرقه.

آ31. فمدَّ إليه ربُّنا يده حالاً وانتشله وقال له: يا قليل الأمانة لماذا شككت؟ إنَّ إيمان بطرس كان عظيمًا ومفردًا، إذ آمن أنَّه يمكنه بمعونة المسيح أن يمشي على البحر. ولكن أقلقه الخوف إذ كان متردِّدًا بين تصوُّر شدَّة الريح وعظمة الأمواج، وبين قول المخلِّص له: تعالَ. إنَّ أكثر التجارب تأتي من قلَّة الإيمان والثقة بالله، ومن اعتماد الإنسان على نفسه وعلى المساعدات البشريَّة، فليتعلَّمْ مَن يتجرَّب من مار بطرس، أن يلتجئ حالاً إلى الله، ويُلقي نفسه بين يديه، ويلتمس غوثه قائلاً: يا ربّ نجِّني، فينتشله ربُّنا عاجلاً من التجربة.

آ32. ولمّا صعد المسيح وبطرس إلى السفينةِ سكنتِ الريح. إنَّ المخلِّص صنع هنا خمس عجائب: الأولى مشيه على البحر، والثانية مشي بطرس عليه بقوَّته الإلهيَّة، والثالثة خلاصه إذ أوشك أن يغرق، والرابعة تسكين الاضطراب حالاً، والخامسة بلوغ السفينة حالاً إلى الميناء القاصدين البلوغ إليه، كما روى يو 6: 21. وبالمعنى الروحيّ، إن شئتَ فتدوسَ العالم وملذّاته كلَّها مع المسيح الذي يسكِّن اضطراب الآلام والتجارب والاضطهاد، ويقتادك برفقته بأمن إلى ميناء الحياة الأبديَّة.

آ33. فجاء الذين في السفينة، أي التلاميذ والنوتيَّة، وسجدوا له قائلين: حقًّا إنَّك أنت هو ابنُ الله. وإن لم يعرف الشعب الأمّيّ أنَّه الله بالطبيعة، فقد عرفه الرسل إذ كانوا بخدمته منذ زمان مديد. وزادتهم الأعجوبةُ المذكورة إثباتًا، ولذا قالوا: حقًّا إنَّك أنت هو ابن الله، أي بالطبيعة لا بالتبنّي، كما وَهَمَ بعضُ المبتدعين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM