الطعام لخمسة آلاف رجل.

 

الطعام لخمسة آلاف رجل

آ13. فلمّا سمعَ يسوع، أي لمّا عرف بقتلِ هيرودوس يوحنّا المعمدان، انتقل من هناك. إنَّ هيرودس لاشتغاله بالقتال والخصام مع أريتا ملك العرب (الذي كان خطب هيرودس ابنته كما روى يوسيفوس* في ك 18 في القدميّات رأس 7، ثمَّ تركها هيرودس حبًّا بهيروديّا، فحاربه أريتا بثأره فانكسرت عساكر هيرودس)، قد أغفل عن أفعال المسيح وأقواله. ثمَّ عاد يتفطَّن بها، كما لخَّص متّى في مبادئ هذا الفصل، ويظنُّ يوحنّا قام من الأموات. فانتقل يسوع من هناك لسببين: الأوَّل، خوفه من أنَّ هيرودس يقطع رأسه، كما قطع رأس يوحنّا المعمدان، وكما قتل أبوه أطفال بيت لحم. كذا فسَّر فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس*. والثاني، ليريح تلاميذه بعد تعبهم في الرسالة ورجوعهم منها، كما روى مر 6: 31. وكان انتقالُه في سفينة. ليجتاز بها إلى عبر بحر الجليل، كما يظهر من يو 6: 1 ومر 6: 45. ومن ذلك يُبان أنَّ هذا الانتقال نفس الذي ذكره يوحنّا بإسهاب في ف 6. إلى البرِّيَّة منفردًا. وزاد لو 9: 10: إلى بيت صيدا. وارتأى ينسانيوس* وغيره أنَّ هذه البرّيَّة التي أشبع فيها يسوع خمسة آلاف رجل بخمس خبزات، وتسمّى بيت صيدا، لا لأنَّها بالقرب من المدينة المدعوَّة بهذا الاسم أو على جانبها، بل لأنَّها تجاهها في عبر بحر الجليل، بين يوليادا ودلمانوسا. والصحيح أنَّ هذه البرّيَّة حذاء بيت صيدا على الشاطئ نفسه، وموقعها بين هذه المدينة وطيباريَّة لتصريح لوقا بذلك في 9: 10 بقوله: فانطلق بهم وحدهم إلى موضع قفر في بيت صيدا. ولمّا سمعتِ الجموعُ تبعوه من المدنِ ماشين، أي إنَّهم تبعوه ماشين حول بحر طيباريَّة، إلى أن انتهوا إلى بيت صيدا، إذ لم توجد سفن كافية لنقلهم، فكان ابتعاده عنهم مهيِّجًا لهم إلى اتِّباعه.

آ14. وإذ خرجَ يسوع. إمّا من برِّيَّة بيت صيدا التي كان توغَّل فيها، وإمّا من السفينة كما فسَّر ملدوناتوس* وغيره، سندًا على رواية مر 6: 33. فلمّا رآهم الكثيرون منطلقين وقد عرفوهم، فأسرعوا إليهم في البرّ من جميع المدن، وسبقوهم إلى هناك. وأبصرَ كثرةَ الجموع ترأَّفَ عليهم. وزاد مرقس: لأنَّهم كانوا كخراف لا راعي لها، لأنَّ الكتبة لم يكونوا رعاة حقيقة، بل مستأجَرين طالبين ربحهم. وشفى أعلاَّءهم، أي مرضاهم.

آ15. ولمّا كان المساء دنا منه تلاميذُه وقالوا له: المكانُ قفرٌ والوقتُ زال، أي مضى وقت الأكل. أطلِقْ جموعَ الناس ليذهبوا إلى القرى فيبتاعوا لهم طعامًا يلافون به جوعهم، إذ خرجوا باكرًا من بيوتهم صائمين لتعلُّمهم، وقد لبثوا دون أكل حتّى المساء.

آ16. فقال لهم: لا حاجةَ إلى ذهابهم، أعطوهم أنتم مأكلاً. إنَّ المسيح ينهج السبيل لاجتراح الأعجوبة، ولذا أمسك الجموع حتّى المساء. وروى يوحنّا في ف 6 أنَّ يسوع قال لفيلبُّوس: من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء. وهذا قاله لكي يجرِّبه، لأنَّه كان عالمًا ماذا عتيد أن يصنعه. فأجاب فيلبُّوس: إنَّه لا يكفيهم خبز بمئتي دينار إذا تناول كلٌّ منهم ولو قليلاً. فتوفيق ذلك على ما ذكر ملدوناتوس* بأنَّ الرسل طلبوا أوَّلاً إطلاق الجمع، كما روى متّى. ثمَّ سأل المسيح فيلبُّوس ليجرِّبه قائلاً: من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء. ولكن لماذا أراد أن يجرِّبه؟ ولماذا سأله دون غيره؟ ارتأى أغوسطينوس* وبيدا* أنَّه سأله ليبيِّن له قلَّة إيمانه بافتكاره أنَّه لا يكفيهم خبز بمئتي دينار. وارتأى فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وغيرهما أنَّه سأل ليحرِّك إيمان التلاميذ وينبِّههم إلى الأعجوبة وعظمتها، بتأمُّل كثرة الجمع وما يقتضي لإشباعهم. وقد سأل فيلبُّوسَ دون غيره على ما ارتأى فم الذهب*، لأنَّه كان أكثر سذاجة من الباقين، كما يظهر من قوله للمخلِّص: يا سيِّد أرنا الآبَ وحسبُنا (يو 14: 8).

آ17. فقالوا له: ليس لنا ها هنا إلاّ خمسةُ أرغفةٍ وسمكتان. وقد كانت السمكتان معدَّتين للأكل، إذ وزَّعهما الرسل حالاً بأمر المسيح دون شيٍّ أو طبخ، وارتأى فم الذهب* أنَّ الخبزات كانت تخصُّ الرسل. والأحسن ما ارتآه أوتيميوس* وغيره أنَّها كانت معدَّة للبيع.

آ18. فقال لهم يسوع: قدِّموها إلى هنا، لأكثِّرها بالبركة. فقدَّمها الرسل إليه.

آ19. وأمرَ الجموعَ بالجلوس على الأرض، وأخذَ الخبزاتِ الخمسَ والسمكتين، ونظرَ إلى السماء وباركَ وكسرَ وأعطى تلاميذَه، والتلاميذُ أعطَوا الجموع. وروى مر 6: 9 أنَّه أمرهم بإجلاس الجموع أحزابًا أحزابًا على العشب. فذلك ليُجلس الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء وأطفالهنَّ احتشامًا، ولتظهر وفرة عدد الآكلين، وحتّى لا يصير إهمال أحد دون أكل. وقد أبدع المسيح هذا الخبز الوافر من الهواء القريب منهم، أو من مادَّة أخرى تدريجًا، وبنوع غير محسوس، محوِّلاً جوهر ذلك إلى خبز جيِّد، لأنَّ الله لم يعد يُبرز شيئًا مادِّيًّا من العدم، بل يُبدع ما يوجده من المادَّة المخلوقة في يد العالم. وقد لاحظ فم الذهب* وأوتيميوس* وغيرهما، أنَّ يسوع لم ينظر إلى السماء كلَّما صنع أعجوبة، بل عند صنع بعضها فقط، كما نظر هنا وفي إقامة ألعازر (يو 11: 41)، لئلاّ إذا نظر دائمًا إلى السماء ُيظنَّ أنَّه يفعل العجائب بسلطان غيره، وإذا لم ينظر قطعًا يُظنَّ أنَّه لا يعرف الآب.

آ20. فأكل كلُّهم وشبعوا، وأخذوا من فضلاتِ الكسرِ اثنتي عشرة قفَّة مملوءة. يقرب من التصديق أنَّ المسيح كسر أوَّلاً الخبزات بيديه، وأكثرها عند كسرها، ووزَّعها بهذه القفف، وكانت تزداد عند توزيع الرسل لها بأمره. ولذا جمعوا من الكسر اثنتي عشرة قفَّة بمقدار ما أخذوا من يد المسيح. كذا ارتأى ملدوناتوس* وشدرانوس* في مختصر تاريخه. ولماذا لم يذكر أنَّه فضُل شيء من السمك؟ قال ملدوناتوس*: يظهر من كلام الإنجيليّ أنَّه لم يفضل شيء من السمك، وأظنُّ أنَّه فضل كثير منه، وإن لم يذكره الإنجيليّ لاكتفائه بذكر فضلات الخبز إيضاحًا للأعجوبة. وإذا كان لم يفضل شيء من السمك حقيقة، فيكون السبب عدم الاحتياج إلى ذلك في إثبات الأعجوبة.

آ21. وكان الآكلون خمسةَ آلاف. وفي اليونانيَّة: نحو خمسة آلاف، عدا النساء والأطفال. زعم بعضهم أنَّ النساء والأطفال كانوا يساوون الرجال عددًا، إلاّ أنَّ هذا يصعب تصديقه، لأنَّ هذه البرِّيَّة كانت بعيدة عن المدن والقرى، فلا يُظنُّ أنَّه حضر نساء وأطفال بمقدار الرجال، لكنَّ عدد النساء كان وافرًا لأنَّهنَّ غالبًا أكثر نقاوة وفضولاً من الرجال.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM