الفصل الثالث عشر:أمثال الملكوت.

 

الفصل الثالث عشر

فحواه إيضاح المخلِّص قوَّة إنجيله وثمرته وعوائقه بأمثلة عديدة أي مثل الزرع والزؤان وحبَّة الخردل والخمير والدرَّة الثمينة والشبكة التي ألقيت في البحر. ثمَّ كلام أهل الناصرة مدينته عليه.

أمثال الملكوت

آ1. في ذلك اليوم، الذي كان يخطب فيه بالبيت الذي كان استأجره في كفرناحوم. واجتمع إليه جموع كثيرة حتّى لم يعد يمكن إخوته الدخول إليه كما تقدَّم. خرجَ يسوعُ من البيت، لكثرة ازدحام الشعب ليخطب في مكان أكثر اتِّساعًا. وجلس عند سِيف، أي شاطئ، البحر، أي بحر الجليل.

آ2. فاجتمعَ إليه جموعٌ كثيرة حتّى صعدَ للسفينة، لئلاّ تزحمه كثرة الجمع ولا يمكنها أن تسمعه. أو على ما ارتأى فم الذهب* وتاوافيليكتوس*، ليكون جميع سامعيه أمامه صاغين إليه. وجلسَ وكانَ الجمعُ كلُّه قائمًا عند شطِّ البحر يسمع له.

آ3. وكان يكلِّمُهم كثيرًا بالأمثال، بحسب عادة أمَّتهم وعصرهم، قائلاً: ها هوذا خرجَ الزارعُ لِيزرَعَ. حسنًا يشبِّه المخلِّصُ الإنذار والتعليم الإنجيليّ بالزرع والحصاد، فالحصاد الجسديّ يلزمه البذار والأرض والشمس والأمطار والأرياح. وكذا الحصاد الروحيُّ يلزمه البذار أي كلمة الله والإنجيل والإنذار به، ثمَّ الأرض أي حرّيَّة السامع، والشمس أي النعمة السابقة والمنيرة، والأمطار أي النعمة الحافظة والمحرِّكة إلى حركات الحرِّيَّة الصالحة، والأرياح أي التجارب التي بتحريكها المؤمن تزيده تأصُّلاً وقوَّة في الفضيلة، كما تفعل الأرياح بالزرع. والمقصود بهذا المثل أن يوضح المخلِّص أنَّه هو زارع التعليم الإنجيليّ في ضمائر الناس، الذين هم مع ذلك غير متساوين بالإتيان بالثمرة. فليس كلُّ من يسمعون الإنجيل يقبلونه ويؤمنون به، وهو لا يشبِّه الإنذار لهم بالبذار الذي يسقط على قارعة الطريق ويُداس فلا ينبت. وليس جميع الذين يؤمنون يثبتون بالإيمان، وهو لا يشبِّه الإنذار لهم بالبذار الذي يقع في أرض محجّرة. وليس كلُّ من يثبتون بالإيمان يأتون بثمرة الأعمال الصالحة، وهو لا يشبِّه الإنذار لهم بالبذار الذي يقع بين الشوك فلا يعطي غلَّة لخنق الشوك له. وأمّا البذار الذي سقط في أرض جيِّدة فيزيد به التعليم الذي تُنذر به نفس صالحة فتقبله، وينمو بها ويثمر في بعضها أكثر وفي بعضها أقلّ، أي ثلاثين وستّين ومئة. إمّا لزيادة التعليم والتنوير السماويّ وفيضان النعمة، وإمّا لزيادة سعي الاختيار المعتوق مع النعمة. فهذه خلاصة المثل كلِّه، وسيجيء تفسير المخلِّص له.

آ4. وفيما هو يزرعُ سقطَ البعضُ من البذار على قارعةِ الطريقِ، فجاء الطائرُ فأكلَه. قال رابانوس*: يراد بالطريق العقل المطروق بالأفكار الرديئة، فهذا لا يقبل التعليم الإنجيليّ لأنَّه يضادّ شهواته المعتادة.

آ5. والبعضُ سقطَ على صخرةٍ، وإذ لم يكنْ هناك ترابُ كثيرٌ نبَتَ حالاً لعدَمِ عُمقِ الأرض.

آ6. فلمّا أشرقَتِ الشمسُ لفحتْهُ، لنقص الرطوبة من قلَّة التراب وزيادة حرارة الشمس، ثمَّ يبسَ لأنَّه لا أصلَ له.

آ7. والبعضُ سقطَ بين الشوك فصعدَ الشوكُ عليه وخنقَه.

آ8. والبعضُ سقطَ في أرضٍ جيِّدة فأثمرَ بعضٌ مئة وبعضٌ ستّين وبعضٌ ثلاثين، بحسب جودة الأرض وشغلها، ويراد بالأرض الجيِّدة الضمير الأمين والنقيّ.

آ9. مَنْ له أذنان لِيسمعَ فَليسمَعْ. ينبِّه السامعين إلى الإصغاء بهذا القول الذي استعمله مرارًا في الأمور المهمَّة كما تقدَّم (11: 15).

آ10. فتقدَّم إليه تلاميذُه وقالوا له: لماذا تكلِّمُهم بالأمثال، وهم، أي الجموع، سذّج لا يدرون الأمثال؟ لماذا لا تعلِّمهم بإيضاح فيفهمون؟

آ11. فأجابَهم قائلاً: أنتم أُعطيتُم معرفةَ سرِّ ملكوتِ السماء وأولئكَ لم يُعطَوا. إنَّ سبب كلام المسيح للجمع بالأمثال هو أنَّ كثيرين منهم كانوا غير أهل بعد لتعليمه السماويّ، أو لم يكونوا يؤمنون به، بل كان بعضهم يحتقره أيضًا. والحكيم لا يطرح كلامه حيث لا يُسمَع، فيحرِّضهم المسيح مضمَرًا لتكون لهم آذان تسمع ويفحصوا أمثاله ويطالبوه بتفسيرها باتِّضاع، فيصيرون أهلاً لقبول الإنذار الإنجيليّ. ويشير المسيح إلى أنَّ هذه الأهليَّة موهبة من الله وهبها لتلاميذه وأنكرها على غيرهم، وسمح أن يلبثوا على عمائهم وإثمهم، ولذا روى مر 4: 11: وأمّا الخارجون فبالأمثال يكون لهم كلُّ شيء، يعني الخارجين عن الإيمان والكنيسة، فهؤلاء يكلِّمهم بالأمثال أي بنوع ملتبس وغامض لئلاّ يحتقروا المقال. ولماذا أُعطي الرسل ولم يُعطَ غيرهم، فذلك يتعلَّق ببحث الانتخاب والرذل. فالكاثوليكيّون تبّاع رأي مار أغوسطينوس* يزعمون أنَّ الرسل أُعطوا لأنَّهم منتخَبون، وغيرهم لم يُعطَوا لأنَّهم مرذولون. غير أنَّ إيلاريوس* وفم الذهب* ميمر 46 وإيرونيموس* وغيرهم، ارتأَوا أنَّ  الرسل أُعطُوا لأنَّهم كانوا أهلاً، وغيرهم لم يُعطَوا لأنَّهم لم يكونوا أهلاً. فجميع الرسل أُعطُوا ولم يكن جميعهم منتخَبين. فيهوذا الدافع لم يكن منتخَبًا. ولا يصدَّق أنَّ كلّ من كانوا في الجمع غير الرسل كانوا مرذولين. وقد أوضح في آ13 التالي سبب عدم إعطاء الجميع بقوله: لأنَّهم يُبصرون ولا يُبصرون، أي لكونهم لم يشاؤوا أن يفهموا ويؤمنوا، وبالتالي أنَّهم لم يُعطَوا لأنَّهم لم يشاؤوا ولم يكونوا أهلاًَ، لا لأنَّهم كانوا مرذولين.

آ12. لأنَّ مَن له يُعطى ويُزاد ومَن ليس له يُؤخذُ منه الذي له. قال سلميرن* وملدوناتوس* وغيرهما إنَّ ذلك على سبيل المثل وهو كلّيُّ التحقيق. فالأغنياء يُعطَون والفقراء يؤخذ منهم غالبًا. وكذا الله يضاعف نعمه وإحساناته يومًا فيومًا على مؤمنيه ومختاريه كالرسل. ويسلب تدريجًا مواهب نعمته ومواهب الطبيعة من الغير المؤمنين وغامطي النعمة كاليهود. فالمعنى إذًا كأنَّه يقول: مَن كان له الإيمان يُعطى معرفة أسرار ملكوت الله ويزاد تعليمًا ونعمًا، كما أنتم يا رسلي. ومَن ليس له الإيمان يؤخذ منه الخير الذي كان له، كاليهود الذين لم يشاؤوا أن يؤمنوا بي، ولذا ينزع الله منهم المعرفة التي لهم به ويعدمهم المُلك والهيكل إلخ. كذا فسَّر إيرونيموس* وأوتيميوس* وغيرهما.

آ13. ولهذا أكلِّمُهم بالأمثال لأنَّهم يُبصرون ولا يُبصرون ويسمعون ولا يسمعون ولا يفهمون. أي إنَّهم إذ ينظرون بعيونهم ويسمعون بآذانهم الآيات التي هي برهانات أكيدة على ما أقوله، لا يريدون أن يفهموا ولا أن يؤمنوا، ولذا أكلِّمهم بالأمثال بالتباس عقابًا لعدم إيمانهم، فيورد سببًا لمخاطبته اليهود والفرّيسيّين بالأمثال. كذا فسَّر إيلاريوس* وفم الذهب* وغيرهما. ولماذا خاطبهم بالأمثال إذا كان يعرف أنَّهم لا يفهمونها؟ فيجيب فم الذهب* أنَّه قصد أن يوقظ رغبة سامعيه ويحرِّضهم إلى البحث عمّا يسمعونه ليفهموه ويؤمنوا به. وإلى هذا أشار مرقس إذ روى 4: 33. وبهذه الأمثال كان يسوع يكلِّمُهم حسبما يستطيعون أن يفهموا.

آ14. وتتمُّ بهم نبوءة أشعيا القائل: سَمعًا تَسمعون ولا تَفهمون ونظرًا تنظرون ولا تَفهمون. يعني لا تفهمون ما تسمعون وتنظرون في المسيح.

آ15. فقد غلُظَ قلبُ هذا الشعبِ وثقُلَتْ آذانُهم وغمضوا عيونهم، لكي لا ينظروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم. يستشهد هنا أش 6: 9-10، حيث عوضًا عن لفظة "غلظ" في الماضي قرأ المترجم اللاتينيّ "أعمِ" بالأمر. واعلم أنَّ العما وقساوة القلب وغلاظته تنسب إلى الله، لأنَّه يهمل الإنسان المعميّ والمقسّي قلبه ويتركه في عمائه، وإلى الإنسان لأنَّه يعمي قلب نفسه بطواعيَّته ويقسّيه بتشبُّثه بظلماته ورذائله وإغماض عينيه عن النور الإلهيّ.

آ16. فطوبى لعيونِكم لأنَّها تنظرُ ولآذانِكم لأنَّها تَسمَع. يريد بالعيون والآذان عيون الجسد وآذانه وخاصَّة حواسّ النفس، فكأنَّه يقول: طوباكم أيُّها الرسل لأنَّكم تفهمون منّي أسرار ملكوت السماء بعيون جسدكم وآذانه الخارجة، إذ تشاهدون خصالي وأعمالي وعجائبي الباهرة، وتسمعون بآذانكم تعاليمي السماويَّة. والأفضل من ذلك أنَّكم تفهمون هذا وتعتقدون به بضميركم، واليهود لا يصنعون كذلك. وقوله هنا لا يضادّ قوله لتوما في يو 20: 29: الآن إذ رأيتني آمنت؟ فطوبى لمن لا يراني ويؤمن. لأنَّه هنا يفضِّل الرسل على الأنبياء، لأنَّهم نظروا ما كانوا يؤمنون به ويشتهون أن يروه، والأنبياء لم يروه. وأمّا بقوله "طوبى لمن لا يراني ويؤمن"، فيفضِّل من آمنوا به إذ لم يروه على من لم يؤمنوا إلاّ بما رأَوه بأعينهم، كتوما الذي لم يؤمن بقيامته حتّى حسَّ جنبه.

آ17. الحقَّ أقولُ لكم: كثيرٌ من الأنبياء والصدّيقين اشتهَوا أن يَروا ما تَرون فلم يَروا، وأن يسمعوا ما تَسمعون فلم يَسمعوا. يشير إلى رغبة جميع الآباء والأنبياء والقدّيسين في العهد العتيق في أن ينظروا ويسمعوا الماسيّا مخلِّصَ العالم، فلم ينالوا ذلك. وروى لو 10: 14 أنَّ أنبياء كثيرين وملوكًا إلخ، فكأنَّ المسيح ذكر الأنبياء والصدّيقين والملوك، فأهمل متّى ذكر الملوك ولوقا ذكر الصدّيقين. ولاحظ إيرونيموس* وأوتيميوس* أنَّ المسيح لم يقل "جميع الأنبياء" بل كثير منهم، لأنَّ بعضهم رآه، كما قال عن إبراهيم في يو 8: 56: إبراهيم اشتهى أن يرى يومي فرآه وفرح. ولا أظنُّ ذلك صحيحًا، بل الصحيح أنَّه عبَّر بالكثير عن الجميع، كما ورد مثل ذلك في محلاّت عديدة، خاصَّة في روم 5: 9. ذكر هذا ملدوناتوس*.

آ18. اسمعوا أنتم، الذين رأيتم ما لم يرَهُ الأبرار في العهد العتيق تفسير مثَلَ الزرع، وفي اللاتينيَّة "الزارع". وروى مرقس أنَّ المسيح وبَّخهم على عدم فهمهم المثل بقوله 4: 13: أما تعرفون هذا المثل؟ فكيف تعرفون جميع الأمثال؟ وذلك لا لأنَّ المثل سهل الفهم بذاته، بل لتواتر تردُّده بينهم وتعليمه لهم، كذا فسَّر ملدوناتوس*.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM