آية يونان .

 

آية يونان

آ38. حينئذٍ أجابَ قومٌ من السفرة والفرّيسيّين وقالوا له: يا معلِّم نريدُ أنْ تُريَنا آية. وزاد لوقا 11: 16: من السماء. إنَّ هؤلاء كانوا ممَّن ثلبوا المسيح بأنَّه ببعلزبوب يخرج الشياطين، كما يظهر من رواية لوقا في المحلِّ المذكور. ولمّا أفحمهم المسيح بأجوبته عادوا يطلبون آية من السماء: وكأنَّهم يقولون: أنت تزعم أنَّ ما تصنعه ليس بقوَّة الشيطان بل بقوَّة الله، فأثبتْ بأعجوبة باهرة لا من الأرض أو من قلب الأرض كما صنعت حتّى الآن، بل من السماء. مثلاً، اجعلْ نارًا تنزل من السماء أو رعدًا أو برقًا يَظهر فيها، كما أثبت قديمًا موسى وصموئيل وإيليا شهاداتهم بمثل هذه الآيات. وأضمروا أنَّ المخلِّص إذا لم يُجب طلبهم فيتَّخذون سبيلاً إلى رفض تعليمه، كما قال إيرونيموس*. وكان يلزمهم الاكتفاء بالعجائب العديدة التي صنعها أمامهم من شفائه المرضى وإقامته الموتى وغير ذلك من الآيات، التي برهن بها أنَّه المسيح المرسَل من الآب.

آ39. فأجابَهم قائلاً: الجيلُ الشرّيرُ الفاجر، أي الفاسق، المخالف لآبائه وسلفائه، لأنَّه لا يطلب الآية ليعرف الحقّ بل ليقاوم. أو يُدعي الفاجر أي الفاسق لأنَّه ترك المسيح ختنه، ولحق الشيطان. وقد دعا حزقيال وغيره من الأنبياء عبادة الأوثان فسقًا وزنًى. يطلبُ آيةً ولا تُعطى له آية. كيف يقول: لا تعطى له آية، مع أنَّه فعل بعد ذلك آيات كثيرة؟ فيجيب فم الذهب* وأوتيميوس* أنَّ تلك الآيات لم تُصنع للمُصرّين بل لمن يستفيدون منها. وأجاب بعضهم أنَّه صنع بعد ذلك آيات، ولكن لا كما طلبوا، أي آية من السماء كالنار التي أنزلها إيليّا، بل آيات في الأرض، وإلاّ ظهر أنَّ المعنى: لا تُعطى آية لمن يطلبونها بنيَّة رديئة، فهؤلاء وأمثالهم لا يُعطَون آية إلاّ آيةُ يونان النبيّ. فخروج يونان من البحر بعد دفنه ثلاثة أيّام في بطن الحوت كان رسمًا لقيامة المسيح، فكأنَّه يقول هنا: إنَّ أعجوبة قيامتي التي هي آخر ما أصنعه في الأرض، وهي أعظم جميع العجائب، وأؤكِّدها، سوف تُثبت جليًّا للمسكونة كلِّها أنَّني ابن الله وغالب الموت وفادي العالم. كذا فسَّر أوسابيوس الحمصيّ* وفم الذهب* وغيرهما. وكما أنذر يونان أهل نينوى بأنَّه من الآن إلى أربعين يومًا تُخرب نينوى، هكذا متى قمتُ أنا من القبر، سأُنذركم بذاتي وبواسطة تلاميذي، بأنَّه من الآن إلى أربعين يومًا (إفهم باليوم سنة) ُتخرب أورشليم بيد تيطس.

آ40. فكما كان يونانُ في بطنِ الحوتِ ثلاثةَ أيّام وثلاثَ ليال، هكذا يكونُ ابنُ الإنسانِ في قلبِ الأرض، أي في داخل الأرض. إمّا نظرًا إلى الجسد ففي القبر، وإمّا نظرًا إلى النفس ففي الينبوس. ثلاثةَ أيّامٍ وثلاثَ ليال، لكنَّها ليست بكاملة، لأنَّها مؤلَّفة من الجزء الأخير فقط من اليوم الأوَّل، ومن الجزء الأوَّل من اليوم الثالث، ومن كامل اليوم الثاني، وذلك بموجب عادة الرومانيّين أن يبتدئ اليوم عندهم من نصف الليل.

فالمخلِّص مات ودُفن يوم الجمعة، واستمرَّ في القبر جزءًا من يوم الجمعة، ويوم السبت كلَّه وجزءًا من يوم الأحد. هذا نظرًا إلى الثلاثة الأيّام. وأمّا نظرًا إلى الثلاث الليالي، فقد استمرَّ في القبر جزءًا من ليل الجمعة، الذي ينتهي نصف الليل، وليل السبت بجزأيه، أي الجزء الذي يليه صباح السبت، والجزء الذي ينتهي نصف الليل المسفر عن صباح الأحد، ثمَّ الجزء الأوَّل من ليل الأحد بعد نصف الليل. وقد أخذ اليهود هذا الحساب عن الرومانيّين، كما يظهر من قسمتهم الليل إلى أربع هجعات (مت 14: 25). وكذا يحسب النصارى اليوم: من نصف الليل إلى نصف الليل في أيّام الصوم والأعياد، نظرًا إلى الامتناع عن المآكل المحرَّمة وعن الأشغال. وكان اليهود يقسِّمون اليوم المدنيّ من مشرق الشمس إلى مشرقها. ومع ذلك كان يحسبون الأيّام المقدَّسة كالفصح والفطير من المساء إلى المساء. وأهل أثينة وإيطالية كانوا يحسبون اليوم من مغرب الشمس إلى مغربها. والفلكيّون من نصف النهار إلى نصفه.

آ41. رجالُ نينوى يقيمون في الدين مع هذا الجيل، أي مع الكتبة والفرّيسيّين. ويَشجبونَه، لأنَّهم تابوا بإنذارِ يونان. فيشجبونه لا بسلطة الحكم والقضاء بل بالمقابلة، إذ يقابَل أهل نينوى بالكتب. فإنَّ أهل نينوى كانوا برابرة وبعيدين عن الله، وإذ سمعوا إنذار يونان، وهو رجل أجنبيّ ولا يعرفونه ولم يصنع إلاّ أعجوبة واحدة، فتابوا ورجعوا إلى الله. والكتبة والفرّيسيّون، مع أنَّهم من شعب الله الخاصّ الموعود بالمسيح ورأوا وفرة أعاجيبه، فلم يؤمنوا به ولم يتوبوا. ولا ينتج من هنا أنَّ أهل نينوى خلصوا، لأنَّهم عادوا إلى غيِّهم بعد توبتهم، فاجتاحهم أرباك الماديّ (= ماداي) وأخضعهم مع ملكهم سردنابل. ومن بعد يونان أُرسل ناحوم النبيّ إلى أهل نينوى، فهدَّدهم بخراب الكلدانيّين. وبالحقيقة أنَّ يختنصَّر ملك الكلدان أنزل بهم الوبال والدمار. وقد تنبأ يونان أنَّ أيّام يوربعام ملك إسرائيل وعوزيّا ملك يهوذا، اللذين كانا معاصرَين لسردانبال ملك نينوى، وقبل مبادئ رومه بزمن وجيز، إذ كان بروكاس سلفيوس جدّ رومولوس الذي بنى رومة واليًا في لاسبو، كما شهد أوسابيوس، في تاريخه. وها هو أعظم من يونان، كأنَّه يقول بأنَّ أهل نينوى تابوا بإنذار يونان، وأنا الماسيّا وابن الله الأعظم من يونان كثيرًا أنذر الكتبة والفرّيسيّين فيرفضون تعليمي، مع أنَّهم يتظاهرون بأنَّهم عبدة الله، ومهذَّبون بالأسفار المقدَّسة، ورعاةٌ لشعب الله.

آ42. ملكةُ التيمن تقومُ في الدين مع هذا الجيل وتَشجبُه، لأنَّها أتت من أقاصي الأرض لتَسمعَ حكمةَ سليمان. إنَّ هذه الملكة هي ملكة سبأ التي موقعها في التيمن أي الجنوب من اليهوديَّة. وقد ورد تاريخ مجيئها إلى سليمان في 1 مل 10. وسبأ اسم المملكتين، أحداهما في العربيَّة القريبة من اليهوديَّة، والأخرى في أثيوبيا أي الحبشة*، التي سمّاها كمبيس بعد ذلك مروا باسم أخته، كما شهد يوسيفوس* في ك 2 في القدميّات رأس 10، وسترابون في ك 16. ويظهر لكثيرين أنَّ هذه الملكة أتت من سبأ الحبشة*، لأنَّها أبعد من سبأ الأخرى، ولأنَّ يوسيفوس* في ك 8 في القدميّات رأس 20 دعاها ملكة الحبشة ومصر. ولذا استمرَّت شهرة الكتاب المقدَّس وإله العبرانيِّين عند أهل أثيوبيا أي الحبش، وأتى إلى أورشليم منهم خصيّ قنداق ملكتهم، ليسجد لإله العبرانيّين كما ورد في أع 8. فإنَّ الحبش حكم عليهم ملكات يسمَّين قنداق، كما سمِّي ملوك الرومانيّين قيصر. روى ذلك بلينيوس* في ك 6 رأس 29. وملك الحبشة يدَّعي أنَّه من أولاد سليمان. فمن تقليداتهم أنَّ ملكة الحبشة* حبلت من سليمان فولدت ملوكهم. وقد فنَّد بينادا* هذا التقليد في ك 5 في أمور سليمان رأس 14. كذا ارتأى أنَّ هذه الملكة أتت من الحبشة* أوتيميوس* وينسانيوس* وملدوناتوس* وفرنسيس لوقا* هنا، وأغوسطينوس* في خطبة 252 في الزمان، وغريغوريوس النزينزيّ* في خطبة 40، وغريغوريوس نيصص* في ميمر 7 في النشيد. ولكن ارتأى غيرهم باحتمال أنَّها أتت من سبأ، التي هي في العربيَّة السعيدة حيث الحميريّون. ويقال "إنَّها أتت من أقاصي الأرض"، لأنَّ سبأ هذه بعيدة عن أورشليم أيضًا، ولأنَّها آخر مملكة على البحر الهنديّ أي العربيّ. كذا ارتأى إيرونيموس* وكيرلُّس* وسلميرن* وغايطانوس* وغيرهم. ذكرهم واتَّبع رأيهم بينادا* في ك 5 في أمور سليمان رأس 14. فالمخلِّص كأنَّه يقول: إنَّ هذه الملكة، مع كونها امرأة وثنيَّة ومضنوكة بأشغال مملكتها، قد حملها خبر حكمة سليمان على سفر شاقّ مديد لتسمع حكمته ومشوراته. وها هنا أعظمُ من سليمان، أي الحكمة الإلهيَّة ذاته الذي، ما حكمة سليمان بالنظر إليه إلاّ ظلٌّ ومثال، ومع ذلك يُهان بسخريّة، ولكن سوف يعرض لهذا الجيل ما يعرض للمعترَين من الأرواح الرديئة، الذين إذا نجوا من روح السوء فينتهجون له سبيلاً إلى الرجوع إليهم، فيعذَّبون لذلك أشدَّ عذاب، كما أبان قوله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM