يسوع وبعل زبول.

 

يسوع وبعل زبول

آ22. حينئذٍ قدَّموا له مجنونًا أخرسَ وأعمى فشفاه، حتّى تكلَّم وأبصرَ الأخرسُ والأعمى. روى لوقا 11: 14 أنَّ هذا كان أخرس فقط (ولذا ارتأى مار أغوسطينوس* في ك2 في توفيق الأناجيل رأس 27 وملدوناتوس* أنَّ كلام لوقا في متشيطن آخر)، لكنَّ رواية لوقا لا تنفي قول متّى إنَّه كان أعمى أيضًا. فهذا قد كان الشيطان اعتراه، وحجب استعمال عينيه وأذنيه على الأصحّ. ولذا إذ طُرد منه الشيطان، شرع يتكلَّم ويبصر دون افتقار إلى أعجوبة أخرى. كذا فسَّر فم الذهب* وأوتيميوس* وملدوناتوس* وغيرهم. فإذًا الأعجوبة كانت واحدة وهي طرد الشيطان، ولكنَّ مفعولها مثلَّث أي نظرَ الأعمى وتكلَّمَ الأخرس وطُرد الشيطان، كما قال إيرونيموس*. وقال لوقا: إنَّ الشيطان كان أخرس، فذلك لأنَّه أخرس اللسان.

آ23. فتعجَّب كلُّ الجموع قائلين: أما هذا هو ابن داود؟ يعني أليس هذا هو الابن الذي وُعد به داود، وهو الماسيّا؟

آ24. وإذ سمعَ الفرّيسيّون قالوا: إنَّ هذا لا يُخرِجُ الشياطين إلاّ ببعلزبوب أركونِ الشياطين. إنَّ الفرّيسيّين أعماهم حسدُهم وبغضُهم للمسيح ولم يمكّنْهم وضوح عجائبه من إنكارها، فكانوا يثلبونه بأنَّه ساحر وذو دالَّة على الشيطان، وقد تقدَّم الكلام في بعلزبوب (10: 25).

آ25. فلمّا عرفَ يسوعُ أفكارَهم قال لهم: كلُّ مملكةٍ تَنقسمُ على ذاتِها، وكلُّ مدينةٍ وبيتٍ يَنقسِمُ على ذاته لا يثبُت. كأنَّه يقول: كلُّ مملكة أو مدينة أو بيت لا يضمُّها الاتِّحاد والاتِّفاق، بل يقع أفرادها في الخصام والانقسام بينهم، فلا يمكن ثباتها. وخصَّ ذلك بمقصده فقال:

آ26. فإن كان الشيطانُ يُخرِجُ شيطانًا، فقد انقسَمَ على ذاتِه، فكيفَ يَثبُتُ ملكُه؟ كأنَّه يقول: قد رأيتموني أيُّها الفرّيسيّون معاديًا للشيطان باتِّصال، وطاردًا إيّاهم من الناس، فلا يمكن الشيطان أن يعادي الشياطين دائمًا (فقد ورد في التواريخ أنَّ بعض السحرة طرد الشياطين، إلاّ أنَّ ذلك كان عن اتِّفاق مع الشيطان، لا عن عداوة ولا دائمًا)، وإلاّ فلا يثبتُ مُلكه. فإذًا أنا أطرد الشياطين بقوَّة الله لا ببعلزبوب، كما تثلبوني.

آ27. وإن كنتُ أنا أُخرجُ الشياطين ببعلزبوب فأبناؤُكم بماذا يخرجونَها؟ وقد فسَّر إيلاريوس* وفم الذهب* وغيرهما "أبناؤكم" عن الرسل الذين كانوا من اليهود، لاعتبارهم أنَّ هذا الخطاب كان بعد إرسال الرسل الذي فيه طرد الرسل الشياطين وصنعوا آيات، ولكن من حيث إنَّ الأحقَّ أنَّ هذا الخطاب كان قبل إرسال الرسل، كما يظهر من بشارتَي مرقس ولوقا، وكما ارتأى يانسانيوس* وفرنسيس لوقا*، فلهذا يُفهَم بأبنائكم المقسِّمون الذين كانوا بين اليهود يطردون الشياطين بالطريقة التي سلَّمها سليمان، كما شهد يوسيفوس* في ك 18 رأس . والمعنى: لماذا تقولون إنّي أُخرج الشياطين ببعلزبوب ولا تقولون كذلك عن أبنائكم؟ فلماذا تحكمون عليَّ بالشرِّ وعليهم بالخير؟ أو أنَّ المعنى على ما استحسن ملدوناتوس*: إذا كان تلاميذي يُخرجون الشياطين باسمي، فأنا أعظم من الشيطان، ولا أحتاج أن أخرجها ببعلزبوب، كما تجدِّفون. فلهذا هم، أي أبناؤكم، يقضون عليكم. كأنَّه يقول: ولهذا أبناؤكم يشجبونكم يوم الدينونة على حكمكم الفاسد بأنَّهم يُخرجون الشياطين بقوَّة الله، وأنّي أُخرجها ببعلزبوب، مع أنَّكم تروني أعظم من مقسِّميكم باجتراح الآيات والقداسة والتعليم. وعلى رأي من فهموا بأبنائكم الرسل، يكون قوله هنا "هم يقضون عليكم"، إشارة إلى ما قاله في محلٍّ آخر: إنَّهم يجلسون على اثني عشر كرسيًّا ويدينون اثني عشر سبط إسرائيل. وعلى التفسيرين يكون قوله "يقضون عليكم" بالمعنى الذي قال به: إنَّ ملكة التيمن وأهل نينوى يقومون للدين مع هذا الجيل ويشجبونه.

آ28. وإنْ كنتُ أنا أُخرجُ الشياطين بروحِ الله، فقدَ قرُبَ منكم ملكوتُ الله. كأنَّه يقول: إن كنت أطرد الشياطين بقوَّة الله والروح القدس، كما برهنت لكم، فإذًا قد صحَّ وثبت بمساعدة الروح القدس لي على عمل العجائب وطرد الشياطين، ما أنذرتُ به أنا ويوحنّا المعمدان عن اقتراب ملكوت السماوات. إذ ترون انحلال مُلك الشيطان من النفوس والأجساد تدريجًا، وكذا ابتدأ ملكوت الله بالنعمة ويَكمُل بالمجد في السماء.

آ29. أو كيف يستطيعُ أحدٌ أنْ يَدخلَ بيتَ القويّ وينهبَ أمتعتَه من غيرِ أنْ يَربُطَ القويّ أوَّلاً ثمَّ ينهُبَ بيتَه؟ يورد المخلِّص برهانًا آخر على أنَّ طرده الشياطين بقوَّة الله لا ببعلزبوب قائلاً: كما أنَّ من يريد أن يَنهب بيت أحد الأقوياء لا يستطيع نهبه، ما لم يربط ربَّ البيت أوّلاً، وإلاّ فيدافع عن نفسه ولا يدع أمتعته تُسلَب، هكذا أنا المسيح الذي أريد نهب مملكة الشيطان، إذ أردُّ الخطأة مسوديه إلى التوبة والخلاص، من الضرورة أن أربط الشيطان أوَّلاً، وإلاّ فلا يدعني أسلب منه. فإذًا هو عدوٌّ لي لا صديق بطرد الشياطين كما تثلبوني. فيُراد بالقويّ هنا الشيطان، وبالبيت العالم، وبسلاح الشيطان حِيله التي يجذب الناس بها إلى الرذائل، وبالأمتعة نفوس الخطأة والأجساد المعتراة ونفوس الآباء المسجونة في المطهر. فهذه جميعها سلبها المسيح وربط الشيطان في جهنَّم.

آ30. مَن ليس هو معي فهو هو عليَّ، ومَن لا يجمعُ معي فهو يُبدِّد. ارتأى إيلاريوس* رأس 21 وفم الذهب* ميمر 42 وإيرونيموس* وغيرهم أنَّ الكلام هنا على الشيطان كأنَّه يقول: حاشا أن يكون الشيطان صديقًا لي وباسمه أطرد الشياطين، بل هو خصمي وعدوِّي. فليس هو معي، بل هو عليَّ ويبدِّد ما جمعتُ. والأظهر تفسير فم الذهب* الآخر وتاوافيلكتوس*، وهو أنَّ كلامه هنا يلاحظ الجميع والفرِّيسيّين خاصَّة، كأنَّه يقول: كما أنَّه إذا نشأت ثورة في مملكة، فمن اللازم أنَّ أهل المملكة الأخيار يحامون الجماعة. هكذا أنا قد أشهرت حربًا عامَّة ضدَّ الشيطان الذي استحوذ بظلمه على العالم، ليلزم جميع الناس أن يهبُّوا لإنجادي، لأنّي بمنزلة ملك شرعيّ لهم. ومن لا يكون معي في هذه الحرب فيكون ضدِّي وأعاقبه. وأنتم أيُّها الفرّيسيّون، من حيث إنَّكم أعلم من الباقين، كان يلزمكم أن تقبلوني قبل الجميع وترشدوهم إليّ أنّي أنا الماسيّا، ومع هذا تضادّوني خفية وتتظاهرون بمنزلة قضاة تفحصون عن سيرتي وتعليمي، ولذا أعتبركم أعداء لي متَّفقين مع الشيطان على تبديد مَن أجمعُهم إلى الله. وقول المسيح هنا لا يضادُّ قوله في لو 9: 50: من ليس هو ضدَّكم هو معكم، لأنَّ الكلام هناك في من يتَّفق معهم بالتعليم، وبالتالي هو معهم ويحاميهم وإن أخفى ذلك لداع صوابيّ.

آ31. من أجل هذا أقولُ لكم إنَّ كلَّ خطأ وتجديف، كالتجديف الذي يُظنُّ به أنَّ المسيح إنسان محض، كما كان يظنُّ الرسول إذ كان بعد مجدِّفًا، يُتركُ للناس، إذ له معذرة ولو كان إهانة للمسيح، فيستحقُّ الغفران لجهل المجدِّف الذي يمكن، والحالة هذه، تعليمه بسهولة واقتياده إلى معرفة ضلاله والندامة عليه. وأمّا التجديفُ على الروح القدس، فلا يُتركُ للناس. إنَّ بين الآباء والعلماء اختلافًا على تفسير ذلك. ارتأى فيلاسطريوس* أنَّ هذا التجديف هو الأرطقة، لاسيَّما أرطقة الأنوميّين الذين كانوا ينكرون أنَّ الروح القدس إله. وارتأى إيلاريوس* أنَّه إنكار كون المسيح إلهًا. وارتأى أمبروسيوس* في ك2 في التوبة رأس 4 أنَّه الانشقاق والسيمونيَّة. وزعم أوريجانوس* أنَّه كلُّ خطيئة مميتة تُرتكب بعد قبول نعمة الروح القدس في المعموديَّة. وقال كبريانوس* في ك 3 لكويرينوس* إنَّه كلُّ خطيئة ضدَّ الله، وإنَّ التجديف على ابن الإنسان هو كلُّ خطيئة ضدَّ البشر. والصحيح على رأي إيرونيموس* وفم الذهب* وباسيليوس* ويانسانيوس* وملدوناتوس* وغيرهم أنَّ التجديف على الروح القدس هو الذي يحتقر به المجدِّف تعمُّدًا الأفعال الإلهيَّة والعجائب، وينسب أعمال الروح القدس الواضحة إلى الشياطين، كما كان يصنع الفرّيسيّون بنسبتهم طْردَ المسيحِ الشياطينَ إلى بعلزبوب. فتجديف كذا لا يُترَك للناس، يعني لا يُغفر بسهولة ومن ذات طبعه إذ لا معذرة به. فمن كانوا كذلك لا يقبلون إرشادًا ولا يفتكرون بالتوبة، بل يضادُّون على وجه الاستقامة ما لا يمكنهم بدونه أن يتوبوا، كصنع الآيات المُثبِتة حقيقةَ تعليم المسيح، وكالصلاح والإحسان الإلهيّين. وكان تنوير داخل وخارج للعقل، وبابتعادهم عن ذلك، يزدادون عماءً وتقسو قلوبهم يومًا فيومًا، فيهلكون أخيرًا. فكذا يقال عمَّن يأبى استعمال العلاج: إنَّ مرضه لا يبرأ. وينسى هذا التجديف ضدَّ الروح القدس، مع أنَّه ضدَّ الآب والابن أيضًا، لأنَّه يضادُّ على وجه الاستقامة صلاح الله وقداسته المختصَّين بالروح القدس، كما تختصُّ القدرة بالآب والحكمة بالابن.

آ32. ومَنْ يقُلْ كلمةً على ابن الإنسان يُغفَرْ له. ومَن يقُلْ على الروح القدس فلا يُغفَرْ له لا في هذا الدهرِ ولا في الآتي. يكرِّر المسيح قوله السابق بألفاظ أوضح وأقوى من السابقة. ويفنِّد بها زعم أوريجانوس* بأنَّ جميع الساقطين يُعطَون بعد هذه الحياة التوبة والمغفرة والخلاص، فيخلص يهوذا الدافع ويُردُّ لوسيفوروس* والشياطين والهالكون إلى السماء. ثمَّ لو لم تكن بعض خطايا أو عقوبات الخطايا تُغفر بعد الموت في المطهر، كما تعلِّم الكنيسة، لكان عبثًا قوله "لا في هذا الدهر ولا في الآتي". كما أنَّه عبثًا يقال: لا أتزوَّج في هذا الدهر ولا في الآتي. فإذًا هذه الآية تُثبت وجود المطهر كما أثبته بها أغوسطينوس* في ك21 في مدينة الله رأس 24 وغريغوريوس* في ك4 خطاب 39 وإيسيدوروس* وبيدا* وغيرهم، ذكرهم بلرمينوس* في ك2 في المطهر رأس 4. وإي نعم. إنَّ مرقس روى في 3: 29 أنَّ ليس له غفران إلى الأبد. ولكنّ متّى صرَّح بذلك وقسم الأبد إلى قسمين: هذا الدهر والآتي. على أنَّ الخطايا الميِّتة يوفى عنها في المطهر نظرًا إلى العقاب فقط، والعرضيَّة نظرًا إلى الذنب والعقاب

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM