الفصل الحادي عشر:سؤال المعمدان وكلام يسوع.

 

الفصل الحادي عشر

فحواه إرسال يوحنّا تلاميذه وهو في السجن إلى المسيح. وتفضيل المخلِّص يوحنّا على جميع الأنبياء. وتأنيب اليهود وتهديد المُصرّين منهم. وتهنئة الأطفال أي المتواضعين. ودعوته المتعوبين وثقيلي الأحمال.

سؤال المعمدان وكلام يسوع

آ1. وكان لمّا أكملَ يسوعُ أمرَه لتلاميذِه الاثني عشر أي لمّا انتهى ممّا أمر تلامذته به، وأرشدهم إليه بوصاياه ومشوراته، انتقلَ من هناك، منفصلاً عن الرسل الذين كان أرسلهم للتبشير، وقد أهمل متّي ذكر ما فعله الرسل في مدَّة إنذارهم هذه، ورواه بإيجاز مر 6: 12 ولو 9: 6، ليُعلِّمَ ويَكرزَ في مدنِهم، أي في مدن اليهود. فالضمير عائد إلى الخراف التي ضلَّت من بيت إسرائيل، أو إلى ما قاله في آ23 من الفصل السابق، أنَّكم لا تكمِّلون مدائن إسرائيل.

آ2. وإذ سمعَ يوحنّا وهو في السجن بأعمالِ المسيح. إنَّ يوحنّا سمع بذلك من تلاميذه، كما روى لو 7: 18 الذي يَظهر من بشارته أيضًا أنَّ ما رواه متّى هنا عن يوحنّا من آ2-20، حدث قبل إرسال الرسل الذي ذكره لو 10. أرسل بواسطة تلاميذه فقال له. كذا قرأت النسخة السريانيَّة .وفي اللاتينيَّة والعربيَّة القديمة: أرسل اثنين من تلاميذه. وفي لو 7: 19: ودعا يوحنّا اثنين من تلاميذه وأرسلهما إلى يسوع.

آ3. أأنت هو الآتي أم ننتظرُ آخر؟ أي أأنت هو الماسيّا الآتي إلى المسكونة بموجب نبوءات الأنبياء جميعًا أم ننتظر غيرك؟ فيوحنّا لم يكن مرتابًا بذلك (خلافًا لما ارتآه يوستينوس* وترتوليانوس*)، لأنَّه كان شهد قبلاً علانيَّة أنَّه المسيح وحمل الله، كما روى يو 1: 26. وكان رأى الروح حلَّ عليه بشكل حمامة، وسمع صوت الآب من السماء، كما روى مت 3: 17. لكنَّه شعر بأنَّ كثيرًا من تلاميذه بعيدون عن المسيح، ويريدون تفضيل يوحنّا عليه، ويزعمون أنَّ يوحنّا هو الماسيّا. فأراد يوحنّا عند دُنوِّه من المنون، أن يشاهد تلاميذُه المسيحَ بهذه الرسالة المصنَّعة وأن يُرشَدوا بأقواله وأفعاله وينقادوا إليه. وقد سأل يوحنّا باسمه، ملافاة لخجل تلاميذه وتجريئًا لهم، على سؤال المسيح. كذا فسَّر إيلاريوس* وفم الذهب* وكيرلُّس* وغيرهم. وارتأى البعض، منهم إيرونيموس*، أنَّ يوحنّا لم يرتَبْ بأنَّ يسوع هو المسيح، ولم يسأله عن ذلك. بل يسأله: هل هو الآتي بعد الموت إلى اليمبوس يزور الآباء فيه ويخلِّصهم، أو ينتظرون غيره؟ والصحيح هو الرأي المارّ ذكره.

آ4. فأجاب يسوعُ وقالَ لهم: اذْهَبوا وأعلِموا يوحنّا بما تسمعون وترَون. كذا قرأت نسختنا السريانيَّة ثمَّ اليونانيَّة. وقرأت اللاتينيَّة: بما سمعتما ورأيتما، بالزمان الماضي. فالمسيح شفى بحضرتهم كثيرين، كما روى لو 7: 21: ففي تلك الساعة شفى كثيرين من الأمراض والضربات ومن الأرواح الشرّيرة، ووهب عميانًا كثيرين النظر. فإذًا المخلِّص يجيب رسولَي يوحنّا لا بالألفاظ وحدها (فما يشهد الإنسان به لنفسه قولاً لا ينفي التهمة عنه)، بل بالأعمال أيضًا، كهذه العجائب والمعجزات التي تنبّأ أش 35: 5 و61: 1 أنَّ الماسيّا يُعرف بها بمنزلة علامات وأدلَّة أكيدة.

آ5. العميانُ يُبصرون، والعرجُ يمشون، والبُرصُ يَطهرون، والصمُّ يَسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشَّرون. يشير إلى أنَّ ما تنبَّأ عليه أشعيا النبيّ في 35: 4 بقوله: إنَّ الله يأتي ويخلِّصنا، حينئذٍ تنفتح أعين العمي وآذان الصمُّ، حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيِّل، وينحلُّ لسان البكم. وقد فهم تاوافيلكتوس* وأوتيميوس* قوله "يبشَّرون" مبنيًّا للفاعل، فيكون المعنى أنَّ المساكين الأذلاّء العديمي العلم يبشَّرون بالإنجيل، ويشار بذلك إلى الرسل. والصحيح أنَّه مبنيّ للمفعول. فالمعنى أنَّ المساكين يبشَّرون بنعمة الإنجيل، ويوعَدون بالمُلك السماويُّ فيصيرون ملوكًا. ويشير به إلى نبوءة أشعيا (61: 4): روح الربِّ عليَّ، ولهذا مسحني وأرسلني لأبشرَّ المساكين.

آ6. طوبى لمَنْ لا يَشكُّ فيّ، أي لا يعثر بأعمالي وتعليمي. فهنا يوبِّخ المسيح تلاميذَ يوحنّا توبيخًا مضمَرًا، مبيِّنًا لهم أنَّه عليم بما تكنُّه قلوبهم، كما ارتأى فم الذهب* وإيرونيموس*، ولئلاّ يظنَّ أحد أنَّ المسيح يؤنِّب يوحنّا، كأنَّه يشكُّ بأنَّه الماسيّا، مع أنَّ يوحنّا أثبت ذلك إثباتًا قاطعًا.

آ7. فلمّا ذهبوا، أي تلاميذ يوحنّا، ابتدأ يسوعُ يقولُ للجموع في شأنِ يوحنّا: لماذا خرجتُم إلى البرِّيَّة لتنظروا قصبة يحرِّكُها الريح؟ يعني إنسانًا متقلِّبًا يغيِّر رأيه وتعليمه لكلِّ سبب. فقد مدحه وأثبت أنَّه لم يغيِّر رأيه ولا شهادته، إذ قال: هذا هو حمل الله، وذلك لئلاّ يظنَّ اليهود من قدوم تلميذَي يوحنّا أنَّه غيَّر شهادته السابقة. كذا فسَّر فم الذهب* وغيره. ولم يمدح يوحنّا بحضرة تلاميذه، لئلاّ يظهر أنَّه يملِّق يوحنّا أو يبتغي رضاه عنه، كما فسَّر فم الذهب* وأوتيميوس*. وإلاَّ لماذا خرجتم لتنظروا؟

آ8. رجلاً لابسًا لباسًا ناعمًا؟ أي عائشًا بالملذّات والرغد؟ فلو ظننتموه كذلك لما خرجتم إلى البرِّيَّة لسماع إنذاره، كما قال فم الذهب* وكيرلُّس* وغيرهما. ولو ابتغى هو هذه الملذّات، لما طلب السكنى في القفار والفيافي، واكتسى وبر الإبل، واقتات الجراد وعسل البرّ، بل لتوطَّن في قصور الملوك. إنَّ الذين عليهم الملابسُ الناعمة هم في بيوت الملوك.

آ9. ولكن لماذا خرجتم لتنظروا نبيًّا؟ نعم أقولُ لكم إنَّه لأفضلُ من نبيّ. فيوحنّا كان أفضل من نبيّ، لأنَّه رأى عيانًا من تنبَّأ عليه، خلافًا لباقي الأنبياء. ولأنَّه كان يشير سابقًا للمسيح ومعمِّدًا له. وإن قيل إنَّ يوحنّا أنكر كونه نبيًّا، إذ سأله اليهود: أنت النبيّ؟ فقال: كلاّ (يو 1: 21)؛ فالجواب أنَّه قال ذلك اتِّضاعًا، ولكن بمعنًى حقيقيّ، لأنَّ النبيّ حقيقة هو من ينذر بالمستقبلات كأشعيا وإرميا وسائر الأنبياء، ويوحنّا دلَّ على المسيح حاضرًا.

آ10. هذا هو الذي كُتِبَ من أجلِه في نبوءة ملا 3: 1: ها أنا مرسِلٌ ملاكي أمامَ وجهِك ليُسهِّل الطريقَ قدّامَك. يعني قاصدي ورسولي الذي يدلُّكم بإصبعه على الماسيّا الملك الآتي، لا من بعد كباقي الأنبياء، بل عن قرب وفي الحضرة. وقد أشار ملاخيا والمسيح إلى عادة الملوك، في أنَّ المتقدِّم في بلاطهم يحمل الصولجان الملوكيّ والسيف مكشوف الرأس، ويتقدَّم الملك عن قرب منذرًا بوفوده.

آ11. الحقَّ أقول لكم إنَّه لم يقُمْ في مواليدِ النساء نبيّ (كما زاد مار لوقا، غير أنَّ اليهود كانوا يدعون جميع القدّيسين باسم نبيّ) أعظمُ من يوحنّا المعمدان. فالمسيح يتكلَّم هنا في الأناس الذين وُجدوا في العهد العتيق والأجيال السالفة، فلا يفضِّل يوحنّا على نفسه وعلى مريم العذراء والرسل، كأنَّه أعظم منهم، بل يفضِّله على الرجال القدّيسين في العهد العتيق، إذ استحقَّ أن يدلَّ عليه بإصبعه وأن يعمِّده. وقد تفاضل يوحنّا على جميع هؤلاء: أوَّلاً، بموهبة النبوءة كما تقدَّم. ثانيًا، بباقي المواهب وإنعامات النعمة والروح القدس، إذ حُبل به بالبشارة من والدين عاقرين، وتقدَّس وسجد للمسيح وأنذر به أمَّه وهو في حشائها، وأُرسل ليكون قاصدًا سابقًا للمسيح بصفة ملاك أمامه، وأنذر بالتوبة وملكوت السماء، كما فسَّر إيلاريوس* وأمبروسيوس*. ثالثًا، قد تفاضل بقداسة سيرته واستحقاقاته، إذ عاش في البرِّيَّة بسيرة نسكيَّة ملائكيَّة مذهلة، كما قال إيرونيموس* وأوغسطينوس*. الصغيرُ في ملكوتِ السماء أعظمُ منه. يراد بالصغير المسيح، لأنَّه أصغر منه سنًّا ومتأخِّر عنه بالإنذار. وزاد ذلك لئلاّ يظهر أنَّه يفضّل يوحنّا على نفسه أيضًا. ويوحنّا نفسه شهد أنَّ المسيح أعظم منه كثيرًا. ويريد بملكوت السماء الكنيسة، التي من حيث هي مجاهدة، تبدأ وتسبِّب المُلك السماويّ، ومن حيث هي منتصرة تنهيه وتكمِّله. وفسَّر ملدوناتوس* وتوليتوس* هذا القول بمعنى أنَّ بني بيعة المسيح والعهد الجديد أعظم من أولاد بيعة اليهود والناموس العتيق، لأنَّ أصغر البنين أعظم من أكبر العبيد. ويوحنّا قُتل قبل موت المسيح، فلم تكن الحال الإنجيليَّة كاملة. وقد فسَّر إيرونيموس* وبيدا* وغيرهما بمعنى أنَّ أصغر الطوباويّين في السماء هو أعظم أي أوفر سعادة وكمالاً ومجدًا من يوحنّا المعمدان، الذي ما زال في هذه الحياة الزائلة. وقال المسيح ذلك، ليحرِّض به السامعين على تحصيل السعادة والخلاص بالشريعة الإنجيليَّة، ولذلك أردفه بقوله التالي.

آ12. من أيّام يوحنّا المعمدان حتّى الآن ملكوتُ السماء يُغصَبُ والمغتصبون يَختطفونَه. إنَّ هذا القول عائد إلى مديح يوحنّا، وبه يوضح أنَّه أعظم من نبيّ. فكأنَّه يقول: إنَّ يوحنّا أوَّل من شرع ينذر بملكوت السماء، وكان إنذاره المقرون بمثال سيرته الملائكيَّة فعّالاً، حتّى اعتمد منه كثيرون، وغيَّروا سيرتهم بالتوبة، وجدُّوا في طريق السماء برغبة وقّادة. وهذه الرغبة، أنا أحرِّض عليها، وسوف يحرِّض عليها رسلي، ولذا ملكوت السماء يُغصَب أي يطلب وينال بالقوَّة، أوَّلاً، لأنَّ البشر شرعوا يتلهَّفون إليه بعدد وافر ورغبة حارَّة، وما يتوق إليه الكثيرون يقال إنَّه يُغصَب ويُخطف. ثانيًا، لأنَّ الذين كان يبان أنَّ لا حقَّ لهم على الملكوت كالخطأة والعشّارين والزواني والوثنيّين، يمتلكونه ويجدُّون ليدخلوه بالتفضيل على أبناء الملكوت، كما قال القدّيسان إيلاريوس* وأمبروسيوس*. ولأنَّ هذا الملكوت يرغب فيه الجميع، لا بقوَّة الطبيعة والتناسل، كما كان اليهود يزعمون، بل بقوَّة النعمة الفائقة الطبيعة. ثالثًا، لأنَّ الناس الأرضيّين، حبًّا بهذا الملكوت يغتصبون رذائلهم بالتوبة والفقر والعفَّة والأمانة. ولذا روى لو 16: 1: وكلٌّ يَغتصب ليدخله. كذا فسَّر فم الذهب* وإيرونيموس* وغيرهما.

آ13. لأنَّ جميع الأنبياء والناموس تنبَّأوا إلى يوحنّا. إنَّ لوقا ذكر في 16: 16 هذه الآية قبل التي تقدِّمها فقال: الناموس والأنبياء إلى يوحنّا. ومنه حينئذٍ يبشَّر بملكوت الله، وكلٌّ يَغتصب ليدخله. فإن وُضعت هذه الآية بعد آ11 المارّ ذكرها، وقيل: لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنّا، والصغير في ملكوت السماء أعظم منه، لأنَّ جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنّا، ومن يوحنّا المعمدان حتّى الآن، ملكوت السماء يُغصب إلخ، فيظهر المعنى جيِّدًا، ويكون المقصود من قوله هنا، هو أنَّ الأنبياء والناموس تنبَّأوا ووعدوا ولخَّصوا بالرموز عن مُلك المسيح، واعدين بخير أرضيّ ومُلك زمنيّ آمن وغنيّ، هو صورة لملكوت السماء. وأمّا يوحنّا وأنا، فقد أبنّا أنَّ ملكوت السماء حاضر، وكأنَّه نصب الأعين، ولذا لا بدَّ أنَّ غُصب هذا الملكوت وخُطف الآن بأعظم قوَّة ممّا مضى، كذا فسَّر تاوافيلكتوس* والسواريّ* وغيرهما. أو المعنى كأنَّه يقول: إنَّ كتبة أسفار العهد القديم علَّموا اليهود أنَّ الله، يلزم أن يُخاف منه أكثر من أن يُحبّ، وذلك للأمل بخير أرضيّ ومُلك زمنيّ، وأنَّه يجب أن يُعبَد بالمحرقات والطقوس الخارجة. وأمّا يوحنّا فابتدأ يُنذر بتعليم التوبة ومحبَّة الله، رجاء بملك سماويّ وخير أبديّ يُكتسب بأفعال التوبة والتقوى والسجود الباطنة، فيقابل بين تعليم يوحنّا ونبوءات الأنبياء والناموس، ويفضّل تعليم يوحنّا عليها. كذا فسَّر ينسانيوس* وغيره.

آ14. فإنْ أردتُم فاقبلوه، فهو إيليّا العتيدُ مجيئُه، متقدِّمًا المسيح الذي يُعتلن بواسطته، فهو إيليّا لا التسبيتيّ (التشبيّ) بشخصه (لأنَّ نبوءة ملاخي 3: 23 تلاحظ مجيء إيليّا قبل يوم الدينونة الأخيرة)، بل بالروح والحقّ، أي أنَّه يشبه إيليّا بغيرته وملبسه وتقشُّفه وطهارته، ليردَّكم إلى المسيح كما يردُّ التسبيتيّ أولاد أولادكم في آخر العالم. كذا فسَّر مار إيرونيموس*. وذكر فم الذهب* لقوله "فإن أردتم" وجهين: الأوَّل، أنَّه لا أحد يجبر على الإيمان، والإيمان المجبر عليه ليس بإيمان. والثاني، أنَّه قصد أن يبيِّن أنَّ يوحنّا هو إيليّا، إن أرادوا أن يُمعنوا النظر بوظيفتهما وتشابههما.

آ15. مَن له آذان ليسمَع فليَسمَع. كذا قرأت النسخة السريانيَّة: وقرأت العربيَّة القديمة: من له أذنان سامعتان فليسمع. و"سمع" هنا، بمعنى "فهم وطاع"، وقد ورد بهذا المعنى مرارًا. من يسمع منكم يسمع منّي (لو 10: 16). إن سمع منك فقد ربحت أخاك (مت 18: 15). والمعنى كأنَّه يقول: من له أذنان وعقل مطيع فليفهم ما أقوله ويُطعْه. وقد استعمل المسيح هذه العبارة مرّات في الأمور المهمَّة ليستدعي إلى إمعان النظر بها.

آ16. بمَن أشبِّهُ هذا الجيل. جيل الكتبة والفرّيسيّين الذين احتقروا مشورة الله ومعموديَّة يوحنّا وإنذاره، كما روى لو 7: 29-30. يشبه صبيانًا جلوسًا في السوق قائلين:

آ17. زمَّرنا لكم ولم ترقصوا ونحنا لكم ولم تبكوا. ذكر تاوافيلكتوس* في لو 7، أنَّه كان نوع من اللعب ينقسم به الصبيان إلى فئتين، مصوِّرين حياة الناس بالفرح والحزن: ففئة كانت تنوح وفئة كانت تزمِّر، وكلٌّ من الفئتين ومن المشاهدين لم يكن يتحرَّك لا إلى الفرح ولا إلى الحزن، ولا إلى الرقص ولا إلى البكاء، بل كانوا يصنعون ذلك لأجل الانشراح فقط. فالمعنى كما يظهر من آ18-19 أنَّ الكتبة والفرّيسيّين يصير فيهم ما ذُكر عن الصبيان المذكورين، أي لا يتحرَّكون إلى تغيير سيرتهم والخلاص لا بالنوح، يعني حياة يوحنّا القشفة، ولا بالتزمير يعني سيرة المسيح السهلة والعذبة. كذا فسَّر أمبروسيوس* وكيرلُّس* وتاوافيلكتوس*. وارتاب ملدوناتوس* بحقيقة وجود نوع هذا اللعب عند اليهود وقال: ليس ضروريًّا أن يكون المخلِّص أخذ المثل من شيء دارج، فيكفي أن يكون من أمر ممكن حدوثه. وفي تطبيق المثل صعوبة، والذي ارتآه إيرونيموس* وغيره أنَّه يراد بالأولاد المسيح ويوحنّا، فالمخلِّص بعيشته الغير البعيدة عن عيشة عامَّة الناس يظهر أنَّه يزمِّر، ويوحنّا بلبسه المسح وانفراده في البرِّيَّة يظهر أنَّه ينوح. والكتبة والفرّيسيّون لم يؤثِّر بهم أحد الطرفين. فيقابل كلّ المثل بكلِّ الشيء الممثَّل لا جزءًا بجزء، وهذا يكون غالبًا في الأمثال، فلا تطبَّق كلُّ أجزائها.

آ18. جاء يوحنّا لا يأكلُ ولا يشربُ. يعني لا يأكل ولا يشرب برغد أو كعادة باقي الناس، بل يصوم ويقتات الجراد، حتّى ظهر كأنَّه ملاك، ليحمل الكتبة بمثله على التوبة. ومع ذلك، قالوا: إنَّ فيه شيطانًا، أي هو معتَّر ويحتمل بقوَّة الشيطان صرامة سيرته.

آ19. وجاء ابنُ الإنسان، أي المسيح، يأكلُ ويشربُ كعادة الناس، ويتردَّد معهم ويؤانسهم. فإنَّ المخلِّص أتى إلى هذا العالم ليعطي جميع الناس مثالاً كاملاً للاتِّضاع وكلِّ فضيلة، وخاصَّة ليردَّ الخطأة عن آثامهم إلى الله. فكان ضروريًّا أن يؤانسهم ويأكل ويشرب معهم، ليحملهم على محبَّته واتِّباعه. ومع ذلك، الكتبة والفرّيسيّون قالوا: هذا الرجل أكولٌ شرّيبُ الخمر، عشيرُ العشّارين والخطأة. لقد تبرَّرتِ الحكمة الإلهيَّة من أعمالِها. كذا قرأت نسختنا السريانيَّة، وقرأت اللاتينيَّة وبعض النسخ اليونانيَّة: "من بنيها". وقال إيرونيموس* هنا وأمبروسيوس* في لو 7: 35:  إنَّ بعض النسخ اليونانيَّة قرأت "من أعمالها". (وروى الحجريّ أنَّ السريانيَّة قرأت "من عبيدها".  ولعلَّ ذلك خطأ من مترجم السريانيَّة إلى اللاتينيَّة). وبالمعنى أنَّ المخلِّص كأنَّه يقول: إنَّ الحكمة الإلهيَّة التي أيَّدت بيوحنّا وبي كمال الرغبة في خلاص البشر بجميع السبل والأساليب، إن كان بسيرة يوحنّا القشفة، أو بسيرتي الغير المقشفة، فهذه الحكمة قد تبرَّرت، أي ظهرت وثبت أنَّها بارَّة وغير ملومة من بنيها أو عبيدها، أي من جميع الحكماء والأنبياء، وإن لامها واحتقرها الكتبةُ والفرّيسيّون. كذا فسَّر إيلاريوس* وإيرونيموس8 وأغوسطينوس* وفم الذهب* وغيرهم. أو تبرَّرت من أعمالها، أي إنّ أعمالها برَّرتها، إذ قال إيرونيموس: إنَّ الحكمة لا تطلب شهادة الفم بل شهادة الأعمال.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM