دعوة متّى.

 

دعوة متّى

آ9. فلمّا اجتازَ يسوعُ من هناك أبصرَ إنسانًا جالسًا لجبايةِ العِشر في مدينة كفرناحوم، اسمُه متّى. وهو متّى بن حلفى كما روى مر 2، وكان أصله يهوديًّا بلا مراء، لكنَّه كان مستأجَرًا من الرومانيّين كغيره لجباية الضرائب والمكوس، وكانت خدمة الأمم والالتصاق بهم عارًا عند اليهود، وإجباء الضرائب ممقوتًا لديهم، ولذا كان العشّارون مفضوحي الصيت، ولم يكن لهم محلٌّ بين الأشراف، وكانوا يُمنعون من تعاطى الأحكام. وقد ذكر متّى اسمه رغبة في الاتِّضاع، ليعترف بأنَّه كان عشّارًا وخاطئًا، وإيضاحًا لعظمة نعمة المسيح نحوه. وسمّاه مرقس في 2: 14 ولو 5: 27 لاوي، إذ كان له اسمان ككثير من اليهود. فقال له: اتبعني. أي دعاه من التعشير لا إلى النعمة والإيمان فقط، بل إلى خدمته وإلى أن يكون من رسله أيضًا. وأمّا متّى، فقام حالاً عن مائدة التعشير، وتبعه ملبِّيًا دعوته. وقد ذكرنا في ف 5 أنَّ محلَّ هذه الدعوة نظرًا إلى نظام التاريخ هو هناك.

آ10. وفيما هم متِّكئون في البيت، أي بيت متّى الذي دعا المسيح إلى الوليمة عنده، كما يظهر من رواية مرقس، ولم يذكر متّى أنَّ البيت بيته اتِّضاعًا. جاء عشّارون وخطأةٌ كثيرون فاتَّكأوا مع يسوعَ ومعَ تلاميذِه. قد كان هؤلاء من العشّارين رفاق متّى، فدعاهم مع يسوع إلى الوليمة ليجذبهم المسيح إلى اتِّباعه برقَّته وتعليمه، ثمَّ من الخطأة المشتهرين، ويظهر أنَّ هؤلاء الخطأة كانوا من اليهود القليلي الاعتبار للسنَّة، أو على الأقلّ من أصحاب السيرة المتراخية الذين كانوا يشتركون مع الجميع ومع الأمم أيضًا، وإن كان هذا الاشتراك محرَّمًا عليهم.

آ11. فلمّا رأى ذلك الفرّيسيّون قالوا لتلاميذِه: ما بالُ معلِّمِكم يأكلُ مع العشّارين والخطأة؟ قالوا ذلك لا استفهامًا بل شكاية، فكأنَّهم يقولون: إنَّ معلِّمكم يصنع ضدَّ السنَّة وتقليدات الآباء، فلماذا تسمعون له وتتبعونه فتصيرون مفضوحين لمعاشرتكم الخطأة؟ ففنَّد يسوع زعمهم كما يأتي:

آ12. فلمّا سمعَ يسوع ذلك من إخبار تلاميذه له به، لأنَّ الفرّيسيّين ما تجرّأوا أن يعترضوه به، قال لهم، أيّ الفرّيسيّين، لأنَّه يظهر أنَّه التفت إلى المتشكِّين فقال: إنَّ الأصحّاء لا يحتاجون إلى طبيبٍ لكن المرضى. فالطبيب غالبًا لا يصاب بالمرض بل يُزيله، ولذا لا يُحتقَر بمعاشرته المرضى واهتمامه بهم، بل ينال شرفًا، هكذا أنا الذي نزلتُ من السماء إلى الأرض لأكون طبيب الخطأة لا أصاب بمرضهم وخطاياهم، بل أعالجها وأشفيها، وهذا مشرِّف لي ومفيد لهم وهم محتاجون إليه. ومقياس هذا الاحتياج عظمة خطاياهم. فأنا طبيب الخطأة لا رفيقهم، وأنتم أيُّها الفرّيسيّون رفاق الخطأة لا أطبّاؤهم.

آ13. اذهبوا فاعلموا، أي افحصوا بأفكاركم ما هو، أي ما يعني ما قيل في هو 6: 6 : إنّي أريد. يعني أريد بالأحرى رحمة، أي إحسانًا إلى المحتاجين واهتمامًا بتخليص الخطأة كما أفعل أنا، لا ذبيحة. معناه أنّي أشاء الرحمة والرأفة على الخطأة أكثر من تقديم الذبائح معكم لله. وهذه العبارة من اصطلاحات العبرانيّين، فمن عادتهم أن يستعملوا النفي عوضًا عن التفضيل. ومن أمثالها قوله: إنَّ تعليمي ليس هو لي بل للآب، أي الآب أحرى به وأولى. وقوله: لستم أنتم بالمتكلِّمين لكن روح أبيكم هو المتكلِّم فيكم. وقول الرسول في روم 9: 16: ليس الأمر الآن بيد من يشاء ولا بيد من يسعى بل بيد الله الرحيم، أي ليس الأمر بيد من يسعى بمقدار ما هو بيد الله. لأنّي ما جئت لأدعو الصدِّيقين بل الخطأة. وزادت النسخة اليونانيَّة والعربيَّة القديمة هنا ولوقا في المحلّ المذكور: إلى التوبة. قد أنكر اللوثاريّون* والكلفينيّون* أنَّ المسيح وجد إذ أتى أو بعد ذلك صدّيقين أو أبرارًا، لأنَّهم يزعمون أنَّه لا يمكن أن يوجد من يحفظ الشريعة بالتمام، مع أنَّه أوضح من لو 1: 6 أنَّ زكريّا وإليصابات كانا بارَّين أمام الله وسائرين بجميع وصاياه وبحقوق الربِّ بغير لوم. وبأعظم من ذلك كانت مريم العذراء ونتنائيل الذي قال فيه المخلِّص في يو 1: 47: هذا إسرائيليّ لا غشَّ فيه، وهذه العبارة من عادة الكتاب المقدَّس أن يعبِّر بها عن البرارة التامَّة، كقول المرتِّل مز 15: 3 : وليس في فمه غشّ. ومع ذلك جميع الذين تبرَّروا قبل مجيء المسيح أو بعده، لم يتبرَّروا ولا يتبرَّر أحد إلاّ بنعمته، والإيمان بأنَّه عتيد أن يأتي أو أتى، إذ لا خلاص بغيره كما قال مار بطرس الرسول. وكيف يقول المسيح إنَّه ما جاء ليدعو الصدِّيقين؟ ارتأى إيلاريوس* وإيرونيموس* وبيدا* وغيرهم أنَّ المعنى، أنَّه ما جاء ليدعو المدَّعين بالبرِّ وأنَّهم صدّيقون، مع أنَّهم خطأة حقيقة ومراؤون كما كان الكتبة والفرّيسيّون. وارتأى ملدوناتوس* أنَّ قوله هنا كقوله عن النعجة الضالَّة، أنَّه ترك التسع والتسعين ومضى منشدًا لها، يشير بذلك إلى أنَّه رحوم حتّى إذا لم يوجد إلاّ مئة إنسان، تسعة وتسعون بارًّا وواحد خاطئ، فيترك التسعة والتسعين بارًّا ويفتِّش على الخاطئ. فكذا هنا، ليس المعنى أنَّه يوجد بعد أبرار خلوًّا من نعمة مجيئه ولم يأتِ ليدعوهم، بل المعنى أنَّه يَنشد الخطأة حتّى ولو وَجد بعض أبرار لَما أتى لأجلهم بل لأجل الخطأة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM