الفصل التاسع: شفاء المخلع.

 

 

الفصل التاسع

فحواه شفاء المخلِّص للمخلَّع وتركه له خطاياه. ودعوته متّى والخطأة. وإقامته ابنة يائيروس من الموت. وإبراؤه النازفة. وتفتيحه أعين الأعميين. وإبراء الأخرس والمجنون معًا.

شفاء المخلّع

آ1. وصعدَ إلى السفينة ومرَّ مجتازًا إلى مدينتِه. يريد بمدينته على الأصحِّ كفرناحوم، كما ارتأى فم الذهب* ويانسانيوس* وغيرهما، لأنَّه كان قاطنًا فيها في ذلك الوقت كما ورد في مت 4: 13. وروى مر 3: 3 أنَّ هذه الأعجوبة حدثت في كفرناحوم.

آ2. فقدَّموا إليه هناك مخلَّعًا ملقًى على سرير.، إذ ثقبوا السطح وأنزلوه كما روى مرقس في المحلِّ المذكور ولو 5: 19. فالمخلَّع يشنِّج الأعصاب التي في آلات الحركة فلا يمكن الأعضاء أن تتحرَّك. فنظرَ يسوعُ إلى أمانتِهم، أي أمانة المخلَّع وحامليه. وقال للمخلَّع، لأنَّه كان تائبًا حقًّا: ثقْ يا ابني، مغفورةٌ لك خطاياك، التي من جرّائها عاقبك الله بهذا المرض. قال ملدوناتوس* إنَّ الكلفينيّين* ينتجون من هذه الآية أنَّ الخطايا تغفر بالإيمان وحده، إذ قال: فنظر يسوع إلى أمانتهم لا إلى أعمالهم. وقد اعتادوا أن يثبِّتوا ذلك بآيات عديدة كقوله في آ22 هنا: ثقي يا ابنتي إيمانك خلَّصك. وفي لو 7: 19: قم فاذهب إيمانك خلَّصك، وما أشبه. فيمكنني أن أجيب بما أجاب به الكاثوليكيّون حتّى الآن. وهو أنَّنا لا نُنكر بل نعلِّم أنَّ التبرير المتكلَّم عنه في جميع الآيات المشار إليها لا يصير لأجل الأعمال، وهم لا يبرهنون أنَّه يصير دائمًا بالإيمان وحده. إذ بين الإيمان والأعمال المحبَّة التي أثبت مار بطرس أنَّها تغطّي كثرة الخطايا في 1بط 4: 8. وقال المخلِّص في لو 7: 47: إنَّ خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنّها أحبَّت كثيرًا. ولهذا إذ يقال إنَّ الخطايا تُغفر بالإيمان دون ذكر للمحبَّة، يجب أن يُفهم من باقي الآيات أنَّها تُغفر بالمحبَّة أيضًا، إذ توجد آيات يقال فيها إنَّ الخطايا تغفر بالمحبَّة دون ذكر للإيمان. فكما أنَّه من عدم ذكر الإيمان لا يمكن أن ينتج أنَّها تُغفر بالمحبَّة دون الإيمان، هكذا عبثًا ينتج أنَّها تُغفر بالإيمان وحده دون المحبَّة حيث لا تُذكر المحبَّة. خاصَّة لأنَّهم يعلمون أنَّ المحبَّة لا يمكن أن تكون دون الإيمان، والإيمان لا يمكن أن يكون دون المحبَّة. ومع هذا لا أكتفي بما تقدَّم بل أقول إنَّ هؤلاء اللاهوتيّين العظام يقسمون الإيمان ثلاثة أقسام: تاريخيّ، وهو ما نعتقد به أنَّ كلَّ ما قاله الله صحيح؛ وعجائبيّ، وهو ما نعتقد به أنَّ الله قادر على كلِّ شيء؛ ومبرِّر، وهو ما نعتقد به أنَّ خطايانا تُغفر لنا باستحقاقات المسيح. ويقولون إنَّنا لا نتبرَّر بقسمَي الإيمان الأوَّل والثاني، بل بالثالث وحده. وهذا وإن كان كاذبًا، فيفنِّد ضلالهم ويكشف غباوتهم. ففي جميع الآيات التي يجمعونها لا يوجد أدنى إشارة إلى الإيمان المبرِّر. فقوله هنا: نظر يسوع إلى أمانتهم، أيّ إيمان يريد به إلاّ الإيمان العجائبيّ، أي الاعتقاد بأنَّ المسيح قادر أن يبرئ المخلَّع؟ وقوله للنازفة: إيمانك خلَّصك، أيَّ إيمان يريد به إلاّ اعتقادها أنَّها إن لمست طرف ردائه تشفى؟ وقوله لقائد المئة في الفصل السابق: اذهب فليكن لك حسبما آمنت، هل يراد به إلاّ قوله: قل كلمة فيبرأ فتاي؟ وهلمَّ جرًّا. وتظهر حماقتُهم من أنَّهم لم يلاحظوا أنَّ أكثر هذه الآيات ليس الكلام فيها على إيمان الشخص المُبرأ، بل على إيمان غيره. ففي الفصل السابق، ليس الكلام في إيمان عبد قائد المئة بل في إيمان سيِّده. وفي لو 8: 5، ليس الكلام على إيمان ابنة رئيس المجمع بل على إيمان أبيها. وهنا يقال: أمانتهم، أي أمانة حاملي المخلَّع أيضًا، وهلمَّ جرّا. والحال أنَّه على موجب رأي الكلفينيّين* لا يتبرَّر البالغون بإيمان غيرهم بل بإيمانهم الشخصيّ.

آ3. فقالَ قومٌ من الكتّاب في نفوسِهم، لا سرًّا بينهم، بل في أفكارهم، كما تظهر من قوله في الآية الثانية. فعلم يسوع أفكارهم، أي افتكروا بأنَّ هذا يجدِّف، أي يتكلَّم بنفاق، إذ ينسب إلى نفسه ما يخصُّ الله وحده وهو غفران الخطايا. فكانوا يحسبونه إنسانًا محضًا. وزاد مر 2: 7 ولو 5: 21: من يمكنه أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده؟

آ4. فعلِمَ يسوعُ أفكارَهم حالاً، وزاد مرقس: "بروحه"، أي بقوَّة لاهوته. وبهذا أوضح لهم أنَّه يخصُّه حقيقة ما يخصُّ الله وحده، أي معرفة الغيب وفحص القلوب، وبالتالي أنَّه إله، ولذا حسنًا قد برهن الآباء من هذه الآية ضدَّ الأريوسيّين* أنَّ المسيح إله حقيقيّ. فقال لهم: لماذا تفكِّرون في قلبِكم بالشرّ؟ أي تثلبوني وتدينوني باطلاً، لا غيرة على إكرام الله بل رغبة في مضرَّتي وثلبي؟

آ5. أيُّما أيسرُ، القولُ: مغفورةٌ لك خطاياك أم القولُ: قمْ فامْشِ. إنَّ غفران الخطايا هو بذات طبعه أعسر كثيرًا من القول قم فامشِ، لأنَّه أسمى رتبة من جميع أمور الطبيعة ويلاحظ مرتبة النعمة، ولذا خلقُ السماء والأرض أيسر منه بذاته، كما قال فم الذهب* وأوغوسطينوس*. ومع ذلك قال المسيح هنا إنَّ غفران الخطايا أيسر من القول: قم فامشِ. ولكنَّ هذا على موجب حكمنا الكثير الضلال الذي، كما يفهم الأمور المحسوسة أكثر من الأمور الروحيَّة والأدبيَّة، هكذا يعتبرها. وأضف إلى ذلك أنَّ القول: مغفورة لك خطاياك، لا يمكن سامعه أن يؤنِّب قائله على الكذب أو الادِّعاء إذا لم يتمَّ حقيقة لأنَّه خفيّ. وأمّا القول: قم فامشِ، فمفعوله لا يَخفى على أحد، وإلاّ فيُعتبَر قائله كذّابًا ومكّارًا. ولذا قد برهن بكلِّ مناسبة من اجتراح الأعجوبة المحسوسة، التي هي أعسر بموجب رأيهم، شفاءه الإنسان داخلاً وبالنوع الروحيّ، وكانوا يرون هذا الأخير أيسر من الأوَّل. وكلّ أعجوبة برهان أكيد على حقيقة ما صنعت لإثباته، لأنَّها ختم الله على حقيقة الأمر، وهو وحده يمكنه صنعها، ولا يمكنه أن يكذب أو أن يشهد بالكذب.

آ6. لكي تعرفوا أنَّ لابنِ البشرِ سلطانًا في الأرض أن يغفرَ الخطايا. قال "لابن البشر"، لأنَّ المسيح لم يغفر الخطايا بما أنَّه إله فقط بقدرته على كلِّ شيء، بل بما أنَّه إنسان أيضًا. فبسبب اتِّحاد ناسوته مع أقنوم الكلمة أمكنه أن يستحقَّ ويفي عن خطايا العالم كلِّه. ولذا أُعطيَت له السلطة السامية على مغفرة الخطايا، ويمنحها للكهنة بصفة خدّام له. ثمَّ قال للمخلَّع. هذا من كلام الإنجيليّ: قمْ فاحمِلْ سريرَك، أي فراشك، واذهبْ إلى بيتك. قال المسيح: قم واحمل واذهب، إثباتًا لإعجوبة برئه.

آ7. فقامَ وانطلقَ إلى بيتِه. حاملاٍ سريره، لأنَّ قول المسيح فعلٌ.

آ8. ولمّا شاهدتِ الجموعُ، خافوا ومجَّدوا الله الذي أعطى الناس، يريدون بالناس "المسيح"، إذ لبثوا يحتسبونه إنسانًا محضًا، وإن آمنوا بأنَّه منح هذا السلطان من السماء، مِثْلَ هذا السلطان، أي مغفرة الخطايا وإثبات ذلك بالآيات الباهرة. وهذا المخلَّع غير الذي ذكره يوحنّا في 5: 2. فذاك شفاه في أورشليم في بركة الضأن، وهذا شفاه في كفرناحوم. وذاك لم يكن له أحد، وهذا كان محمولاً بين أربعة كما روى مرقس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM