الصلاةالربيَة:الأبانا.

الصلاةالربيَة:الأبانا.

 

آ8. لأنَّ أباكم عالمٌ بما تحتاجون إليه من قبل أن تسألوه. كأنَّه يقول إنَّ الوثنيّين يظنُّون الله يجهل احتياجاتهم فيكثرون الكلام كأنَّهم ليعلِّموه ذلك وهذا ضلال. فالله أعلم من الناس باحتياجاتهم، ويريد أن يصلُّوا ليقرُّوا بشقاوتهم ورحمته ويستحقُّوا إحسانه فيعلَموا أنَّهم لم ينجوا باستحقاقهم بل بنعمة الله ومواهبه. وهكذا أنتم صلُّوا:

آ9. أبانا الذي في السماوات. قد علَّم المسيح هنا نوع الصلاة، لكنَّه لم يأمر أن نصلّي بهذه الألفاظ دون غيرها، بل علَّمنا ما يلزم أن نلتمسه من الله، وبأيِّ نظام وأجاز نسأله. ومع هذا قد أحسنت الكنيسة كثيرًا باستعمالها في الصلاة ألفاظ المسيح ذاتها، لأنَّها إلهيَّة وموجزة وواضحة وفعّالة جدًّا. وهذه الصلاة تتضمَّن بإيجاز كلَّ ما ينبغي أن نطلبه من الله، حتّى دعيت "مختصر الإنجيل"، كما دعاها ترتوليانوس* في كتابه في الصلاة رأس 1، وعنه كبريانوس* في كتابه في الصلاة أيضًا، ثمَّ إنَّ مار أغوسطينوس* في رسالته 121 وفي كتابه 2 في خطبة الربِّ في الجبل، ومن بعده كثيرون قد قسَّموا هذه الصلاة إلى سبع طلبات: الثلاث الأولى منها تلاحظ إكرام الله، والأربع الباقية تلاحظ منافعنا. وقوله "أبانا" قد فهم به كبريانوس* وفم الذهب* وروبرتوس* أوَّل أقنوم من الثالوس الأقدس أي الآب. والأحسن رأى غيرهم أنَّه يُفهم به الثالوث الأقدس كلَّه أي الله المثلَّث الأقانيم. ثمَّ إنَّ الله هو أبونا بالخلق لأنَّه أتى بنا من العدم إلى الوجود، وبالفداء لأنَّه أنقذنا بموت المسيح من الموت وجهنَّم، وبالميلاد الثاني لأنَّه يلدنا بالمعموديَّة لحياة جديدة، وبالتبنّي لأنَّه اتَّخذنا بنين له بالنعمة، وبالدعوة لأنَّه دعانا إلى الميراث معه بالسماء. وقال "أبانا" بالإضافة إلى ضمير جمع المتكلِّمين ليعلِّمنا أنَّ الله أبو جميعنا وبالتالي أنَّنا جميعًا إخوة يجب أن يحبَّ بعضنا بعضًا ويصلّي بعضنا عن بعض. وبقوله "في السماوات" يشير إلى قدرة الله واستيلائه السامي، فيمكنه أن يصنع كلَّ ما نسأله، وإلى أنَّ إرثنا الذي نترجّاه سندًا على هذه النبوءة هو سماويّ لا أرضيّ، وإلى أنَّه يلزم المصلّي أن يحوِّل عقله عن الأرضيّات إلى السماويّات. ليتقدَّس اسمك. هذه هي الطلبة الأولى والمعنى بها أن يُعرف اسم الله ويُعبد ويمجَّد من جميع الخلائق، أو أن يُعبد ويُكرَّم بما أنَّه مقدَّس. قال مار أغوسطينوس* في ك2 في خطبة الربِّ في الجبل: "إنَّه لا يطلب ليتقدَّس اسمه كأنَّ اسم الله غير مقدَّس، بل أن يعتبره الناس مقدَّسًا.

آ10. ليأتِ ملكوتك. هذه هي الطلبة الثانية وبها نطلب لله المُلك. وملكوته تعالى هو أوَّلاً استيلاؤه على جميع الخلائق. ثانيًا استيلاؤه بالإيمان والنعمة على نفوس المؤمنين والقدّيسين، وارتأى إيرونيموس* وأمبروسيوس* وغيرهما أنَّ هذا هو الملكوت الذي نطلبه لله هنا. ثالثًا، ملكه في السماوات إذ يملك بالمجد على الطوباويّين، وارتأى ترتوليانوس* وكبريانوس* أنَّ هذا هو المُلك المطلوب لله هنا. رابعًا، ُملكه الكلّيّ الكمال وهو الذي يستأصل به مُلك الشيطان والموت والخطيئة، ويضع أعداءه تحت موطئ قدميه، ويملك على مختاريه بالمجد وعلى أعدائه بالعقاب، وهذا يكون بعد القيامة ويوم الدين ويدوم إلى الأبد. وارتأى أغوسطينوس* وفم الذهب* وغيرهما أنَّ هذا المُلك المطلوب لله هنا، ورأيهم هو الأحسن، لأنَّ هذه الطلبة تلاحظ إكرام الله لا نفعنا، بأن يملك بقلوبنا أو بأن يملك مع الطوباويِّين.

لتكنْ مشيئتُك كما في السماء كذلك على الأرض. هذه هي الطلبة الثالثة ونطلب بها أنَّ كلَّ ما يريده الله ويأمر به، يتمِّمه الناس على الأرض بكمال واتِّفاق وسرعة كما يتمِّمه الملائكة والقدّيسون في السماء. ثمَّ إنَّ إرادة الله أي مشيئته على قسمين: إرادة السرور وإرادة الدلالة. فإرادة السرور هي التي يريد الله بها شيئًا ما بالإطلاق، وهذه تكمل في كلِّ شيء ولا يصدُّها شيء وفيها قال المرتِّل: كلَّ ما أراد الله صنع في السماء والأرض مز 115. وأمّا إرادة الدلالة فهي التي يدلُّنا بها تعالى بشرائعه ووصاياه على ما يلزم أن نفعله، وهذه لا تكمل دائمًا ويمكن إرادتنا أن تقاومها، كقول مار بطرس في أع: أنتم دائمًا تقاومون إرادة الروح القدس. وجميع الآباء يفهمون هذه الطلبة عن هذه الإرادة الثانية، لأنَّ إرادة السرور تكمل دائمًا ولا شيء يصدُّها فلا حاجة إلى أن نطلب تكميلها. ثمَّ إنَّ مطابقة إرادتنا لإرادة الله لا تمنع من أن نتوسَّل إلى الله ليزيل بعض مصائب يكون أنزلها بنا أو سمح بها عقابًا لخطايانا، فالله كان يريد دمار صادوم، ومع ذلك كان إبراهيم يتوسَّل إليه أن لا يصنع بها ذلك. ولهذا أمثال عديدة.

آ11. أعطنا خبزنا احتياجنا اليوم. كذا قرأت النسخة السريانيَّة وقرأت العربيَّة القديمة. أعطنا الخبز كفاف يومنا. واختلفت قراءات النسخ اللاتينيَّة للاختلاف على تفسير الكلمة اليونانيَّة بين أن يكون معناها الجوهريّ أو اليوميّ. ولا اختلاف جوهريّ في المعنى في كلٍّ من القراءات لأنَّ المعنى هو أنَّنا بهذه الطلبة التي هي الرابعة بين الطلبات السبع والأولى من الطلبات الموجَّهة إلى نفعنا، نطلب من الله الخبز الذي يراد به كلُّ ما هو ضروريّ للقوت الخبز الذي هو جوهريّ لقوتنا، أو الذي نطلبه كلَّ يوم بمقدار ما يكفي لقوتنا في ذلك اليوم. وهل المراد بذلك القوت الروحيّ أو الجسديّ؟ فكلفينوس* في ك3 من رسومه رأس 20 ورأس 44 ومالنطون* يفهمان بذلك القوت الجسديّ وحده. وبعض الكاثوليكيّين يفهمون به القوت الروحيّ وحده. والصحيح أنَّه يطلب هنا الخبز المادّيَّ الضروريّ للقيام بالجسد وخبز النفس الروحي كلام الله والإفخارستيّا لأنَّنا نحتاج إلى كليهما، ولذا نطلب كليهما لاسيَّما الخبز الروحيّ الذي يفوق المادّيّ فوق النفس على الجسد. كذا فسَّر ذلك عن نوعَي الخبز فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس* وأغوسطينوس* وغيرهم.

آ12. واغفِرْ لنا ذنوبَنا كما غفرْنا لمَنْ أخطأ إلينا. هذه هي الطلبة الخامسة من الطلبات السبع وبها نطلب من الله مغفرة خطايانا. وغفران الخطايا ليس عدم احتسابها فقط أو تغطيتها أو عدم المعاقبة عليها لا غير، كما يزعم المحدِّثون، بل هو رفعها وإزالتها ومحوها وإلقاؤها في عمق البحر، كما يتكلَّم الكتاب المقدَّس خاصَّة في يو 1: 9 وأش 43: 25 ومي 7: 19. وقد برهن الآباء من هذه الآية ضدَّ البيلاجيّين* أن ليس أحد من الناس دون خطيئة. وكان البيلاجيّون* يجيبون أنَّ الأبرار يقولون: اغفر لنا ذنوبنا لا من أجل ذاتهم بل من أجل الآخرين الذين أخطأوا، أو أنَّهم يقولون ذلك اتِّضاعًا واحتشامًا. وقد فنَّد قوليهما مار أغوسطينوس* في ك2 في استحقاقات الخطأة رأس 10 وفي ك2 ضدَّ رسالة برميتيانوس* رأس 10 إذ لا نقول: اغفر لغيرنا بل لنا وحاشا أن نكذب أمام الله فلذلك لا يكون اتِّضاعًا بل كذبًا ورياء. وقوله "كما غفرنا" فلفظة "كما" لا تدلُّ فيه على أنّ غفراننا لمن أخطأ إلينا هو قاعدة أو مقياس يتبعه الله في غفرانه الخطايا لنا، بل أنَّ ذلك محرِّض يحرِّك الله الغفور إلى المغفرة لنا، وهو بصفة شرط يطلبه الله منّا، وإذا أتممناه يغفر لنا بسهولة كما سيجيء من قوله: إن تغفروا للناس جهالاتهم يغفر لكم أبوكم السماويّ.

آ13. ولا تدخلنا للتجارب. هذه هي الطلبة السادسة. زعم كلفينوس* وأتباعه أنَّ الله يُدخلنا للتجارب لأنَّه يحملنا على الخطيئة، ويكذِّبه يعقوب الرسول إذ قال في يع 13: إنَّ الله لا يجرِّب بالشرّور وهو لا يجرِّب أحدًا. بل يُدخلنا للتجارب بسماحه أن تثب علينا. كذا علَّم الآباء والكاثوليكيّون أجمع. فالمعنى إذًا كأنَّه يقول: أوَّلا، لا تسمح أن ندخل التجارب حتّى تقوى علينا وتظفر بنا. ثانيًا، لا تسمح أن تفاجئنا التجارب لأنَّه وإن قرأنا أنَّ بعض القدّيسين طلبوا التجارب لزيادة فضيلتهم، فمع ذلك الأسلم اعتياديًّا الفرار من التجارب. كذا فسَّر ترتوليانوس* وكبريانوس* وأمبروسيوس* وغيرهم. واعلم أنَّ الشيطان لا يمكنه أن يعمل شيئًا بالتجارب ما لم يسمح له الله به، كما قال مار كبريانوس*، وقد طلب الشيطان الإجازة من الله ثلاث دفعات ليجرِّب أيّوب كما ورد في أي 1. وإنَّه لا يمكننا أن ننتصر على التجارب لاسيَّما الثقيلة دون نعمة الله ومعونته، ولذا يلزمنا أن نطلب بتواتر نعمة الانتصار على التجارب عند ورودها. لكن نجِّنا من الشرّير. آمين. ذهب ترتوليانوس* وفم الذهب* أنَّ المُراد بالشرّير الشيطان وذهب كبريانوس* إلى أنَّ المُراد به كلُّ شرٍّ يجذب إلى الخطيئة أو يصدُّ عن الفضيلة والكمال. ومن ذلك يظهر جليًّا أنَّ هذه الطلبة تمتاز عن التي قبلها وهي السابعة والأخيرة. وقد زادت النسخ اليونانيَّة: لأنَّ لك الملك والقوَّة والسلطة إلى أبد الآبدين (وكذا يقرأ في آخر الصلاة الربيَّة في فروضنا ولا وجود لذلك في النسخة السريانيَّة في هذا المحلّ). وكذا قرأ فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس*. ويظهر أنَّ الروم زادوا ذلك بعادة تقويَّة عامَّة، كما زادوا على السلام الملائكيّ: لأنَّكِ ولدتِ مخلِّصنا. وعلى المزمورات: المجد للآب والابن والروح القدس. فإنَّ النسخة اليونانيَّة والفاتيكانيَّة ونسخة روبرتوس إسطفانوس* خاليتان من هذه الزيادة، التي لم يقرأها أيضًا ترتوليانوس* وكبريانوس* وإيرونيموس* وأغوسطينوس*.

آ14. فإن تغفروا للناسِ جهالاتِهم يَغفرُ لكم أبوكم السماويّ.

آ15. وإن لم تغفروا للناس فلا يغفرُ لكم أبوكم جهالاتِكم. يحرِّض المسيح الناس على أن يغفر بعضهم لبعض وإلاّ فلا يُغفَر لهم. على أنَّ عدم ترك الحقِّ أو طلب تعويض الخسارة أو الشرف إلخ، مع مغفرة الإهانة، لا ينافي نوال الغفران من الله.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM