القتل والمصالحة.

 

القتل والمصالحة

آ21. سمعتُم ما قيل للأوَّلينَ: لا تقتل. أي علَّمكم الكتبة أنَّه كان محرَّمًا في الوصيَّة الأولى من اللوح الثاني على الآباء الأوَّلين القتل الفعليّ فقط. ومَن يَقتُلْ يُشجَبْ بالقضاء. يعني يخضع إثمُه للفحص في القضاء والحكم عليه بالموت إن لم يوجد ما يبرِّره. كذا فسَّر أغوسطينوس* في ك1 في خطبة الربِّ في الجبل، وغريغوريوس* في ك 21 في أي 14 . والمعنى: يُشجَب بالقضاء ويُحكم عليه بقطع الرأس والموت، كما رسمت الشريعة في أح 27: 17، حيث قيل موتًا يموت. فالمسيح يبيِّن هنا أنَّه لا يحلُّ الشريعةَ بل يكمِّلها، وإنَّ برَّ المسيحيّين يجب أن يسمو برَّ اليهود والفرّيسيّين. فيقابل هنا ويفضِّل تعليمه على تقليدات الكتبة والفرّيسيّين التي كانوا يفسِّرون بها الناموس سوء التفسير، ثمَّ على الشريعة نفسها. فإنَّ المسيح أزاد على الناموس الموسويّ وصايا الإيمان الصريح بأنَّ الله واحد ذو ثلاثة أقانيم وبأنَّ المسيح تجسَّد وتألَّم وافتدانا إلخ. ثمَّ زاد المشورات الإنجيليَّة والتفسير الصريح لوصايا الشريعة الطبيعيَّة. فإنَّ هذه الشريعة وإن وُجدت وألزمت الجميع دائمًا، فقد لبثت غير مصرَّحة بالتمام إلى أن أتى المسيح معلِّمُ الحقّ والبرِّ والكمال ففسَّرها بكلِّ إيضاح. كذا ارتأى أغوسطينوس* وإيلاريوس* وفم الذهب* وغيرهم، وإن ارتأى بعضهم مع ملدوناتوس* الذي أوضح ببرهانات عديدة أنَّ المسيح يناقش هنا على تفسيرات الفرّيسيّين الذميمة للشريعة لا على الشريعة نفسها.

آ22. وأنا أقول لكم: مَنْ يغضَبْ على أخيه باطلاً يُشجَبْ بالقضاء. إنَّ المسيح يفسِّر ويمدُّ وصيَّة لا تقتل معلِّمًا أنَّه لا يُنهى بها عن القتل فقط، بل عن الغضب الداخل والخارج أيضًا. ولفظة باطلاً التي معناها هنا بجسارة ودون سبب لا وجود لها هنا في اللاتينيَّة. والغضب هو الرغبة في الانتقام. وهو إثم مميت، حيث إن أُنزل أو اشتُهي به عمدًا شرّ ثقيل للقريب أو سُرّ به. وهو إثم عرضيّ إن اشتُهي به شرٌّ خفيف. ولا إثم به إن صدر عن غيرة للعدل أو ضدَّ الشرِّ أو الأشرار. وقوله بالقضاء يختلف معناه هنا قليلاً عمّا تقدَّم في الآية السابقة. فهناك يُفهم به القضاء البشريّ، وهنا يُفهم به حكم الله الذي يعاقب به الغضب الخفيف في عقاب زمنيّ، كما هو المطهر، والغضب ذا الشرّ الثقيل في عقاب أبديّ كما هي جهنَّم. ومن قال لأخيه رقا. ارتأى تاوافيلكتوس* أنَّ رقا بمعنى مستحقّ البصاق. وارتأى أغوسطينوس* وروبرتوس* وغيرهما أنَّ رقا من الأصوات الدالَّة على الاحتقار والنزاع. وارتأى إيرونيموس* وأنجلوس كانينيوس* في الأسماء العبرانيَّة في العهد الجديد، أنَّ رقا لفظ عبرانيّ أو سريانيّ مأخوذ عن العبرانيَّة معناه الفارغ لا من العقل، بل في القنية والعلم، يعني المحتاج والصعلوك. وأخيرًا ارتأى جرجس ميخائيل* المارونيّ (هو البطريرك جرجس عميره) في مقدِّمة غراماطيقه السريانيّ أنَّ رقا لفظة سريانيَّة معناها أوَّلاً السلحفاة، ثانيًا البصاق، فالسريان إذ يريدون أن يهينوا أحدًا يسمُّونه رقا. ثالثًا، المُهان والمحتقَر والوغد والدنيّ. يُشجبُ من المجمع. قد علَّم علماء التلمود وعنهم فرنسيس لوقا* وملدوناتوس* وغيرهما أنَّه كان عند العبرانيّين ثلاث محاكم: الأولى تسمّى دين مامونا، أي قضاء الدعاوى الماليَّة، وكانت مؤلَّفة من ثلاثة قضاة. والثانية دين ميط أي محكمة الجنايات، وكان يُحكَم بها في دعاوى القتل، وكانت مؤلَّفة من ثلاثة وعشرين قاضيًا. والثالثة السانادريم أي المجمع، وكان مؤلَّفًا من اثنين وسبعين قاضيًا تُفحَص به الدعاوى والجرائم الثقيلة كالأراطقة وعبادة الأوثان. فالمسيح أشار هنا إلى المحكمتين الأخيرتين مبيِّنًا أنَّ ذنب الإهانة يعلو ذنب الغضب المجرَّد، كما تعلو محكمة المجمع على محكمة القضاء في الجنايات. ومن يقول له: أحمق، يُشجَب في جهنَّم. يذكر المسيح إهانة أخرى أكثر ثقلاً ويفرض لها أثقل عقاب. وهي إذا دعا الإنسانُ قريبَه أحمق أي مجنونًا، بنيَّة أن يلحق به إهانة ثقيلة أو ضررًا باهظًا، أو يشنِّع صيته ويصمه بالكفر والتقاعد عن حفظ الشريعة الإلهيَّة (لأنَّ هذا هو الحماقة الحقيقيَّة المنافية العقل المستقيم) بحيث يكون المقول فيه ذلك أهلاً للاعتبار. وهذا هو أوَّل محلّ استُعملت فيه لفظة جهنَّم في العهد الجديد ولم ترد بهذا المعنى في العهد العتيق، كما لاحظ مار إيرونيموس*. ومن تمييز المسيح هنا بين الخطايا نظرًا إلى الثقل يظهر ضدَّ يوفنيانوس* وغيره أن ليس جميع الخطايا متساوية، بل يوجد خطيئة أثقل من خطيئة وتستحقُّ أكثر عقاب، وبالتالي أنَّه يوجد فرق بين الخطايا العرضيَّة والمميتة. ويظهر أيضًا ضدَّ كلفينوس* أنَّه يوجد فرق بين جهنَّم والمطهر. إنَّ البعض مع بلرمينوس* في ك1 في فقدان النعمة رأس 9 جعلوا هنا ثلاث درجات للخطايا، فعلَّموا أنَّه بالغضب المستحقّ القضاء يشار إلى الذنب العرضيّ وعقوبته الخفيفة. وبرَقا المتوجِّب بسببها الشجب في المجمع، يشار إلى إثم أثقل من السابق يرتاب به أهو عرضيّ أو مميت ويلزم الحكم بذلك من المجمع. وبأحمق المتوجِّب بسببه عقاب جهنَّم، يشار إلى ذنب مؤكَّد ثقله وهذه الملاحظة محتملة ومناسبة.

آ23. إن كنتَ تُقدِّمُ قربانَك، أي محرقتك وذبيحتك، على المذبح، وهناك تتذكَّر أنَّ أخاك واجد عليك حقدًا ما. وفي اللاتينيَّة الدارجة: وهناك تتذكَّر أنَّ لأخيك شيئًا عليك، أي إذا كان يشكو منك ويخاصمك على شيء ويطلب منك تعويضًا عن إهانة ألحقتَها به.

آ24. فدَعْ هناك قربانَك أمام المذبح وامضِ أوَّلاً فصالِحْ أخاك. لأنَّ المصالحة التي هي إصلاح المحبَّة أو العدل المنثلم، هي من الوصايا الإلهيَّة الوضعيَّة والطبيعيَّة. وتقدمة القربان ليست إلاّ من الوصايا المفروضة على اليهود، فلا يمكن أن ترضي الله مع مخالفة الوصايا الطبيعيَّة، خلافًا لما كان يعلِّمه الفرِّيسيّون، زاعمين أنَّ كلَّ ما يفعله الإنسان من الشرّ ضدَّ القريب يطهَّر منه بالقربان وحده. وأمّا المسيح فيعلِّم بموجب إصلاح السلامة والمحبَّة قبل تقديم القربان أيضًا. كذا فسَّر صاحب التأليف الناقص. على أنَّه يجب فهم ذلك فيما إذا كان مقام الشخص والمكان والزمان والفطنة تسمح بالذهاب إلى المُهان. وإلاّ فيجب إتمام ذلك لا على الأرجل بل بالمَيل والإرادة (كما قال مار أغوسطينوس*) أعني بترك الضغينة والاعتزال عن نيَّة تجديد الإهانة والتعويض على المهان بقدر الإمكان. ذهب فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس* أنَّ هذا يشمل المُهان والمُهين وسواء حصلت الإهانة بحقٍّ أو دونه. غير أنَّ ذلك على هذه الصورة مشورة لا وصيَّة. وسندًا على هذه الآية اندرجت العادة القديمة في الكنيسة بأن تصير القُبلة المقدَّسة في القدّاس قبل المناولة وإعطاء السلام.

آ25. كُنْ مؤتلَفًا، أي متَّفِقًا مع خصمِك عاجلاً ما دُمتَ معه في الطريق، لئلاّ يدفعَكَ خصمُك إلى الحاكم، ويدفعَك الحاكمُ إلى المُستخرَج وتُلقى في السجن.

آ26. الحقَّ أقولُ لكَ إنَّك لا تخرُجُ من هناك حتّى تفيَ آخِرَ فَلس. قال ترتليانوس* في كتابه في النفس إنَّ المُراد بالخصم هنا الشيطان. وقيل في كتاب مباحث الأسفار المقدَّسة المنسوب إلى أثناسيوس* إنَّ المُراد به الجسد. وقال أثناسيوس* أيضًا إنَّه يراد به الضمير الذي يؤنِّبنا على الخطايا. وارتأى أغوسطينوس* وأنسلموس* وغيرهما أنَّه يراد به الله أو شريعته لأنَّها تُخاصم شهواتنا. والصحيح تبعًا لإيرونيموس* وإيلاريوس* وأمبروسيوس* وغيرهم أنَّ المُراد بالخصم من نهينه ظلمًا، ولذا يشكونا أمام الله وهو الذي أمرنا في الآية السابقة أن نصالحه قبل أن نقدِّم القربان. وهذه عبارة عبرانيَّة على سبيل المثل ولا حاجة إلى تطبيق كلِّ أجزائه على الممثِّل، بل يراعي المقصود به. فالمعنى إذًا كأنَّه يقول: إنَّ من يصالح خصمه دون أن يكتسب الفضيحة ويفي العقاب الذي يفرضه القاضي حسنًا يصنع. فاتَّفِقْ أنت مع قريبك الذي أهنتَه بقولِكَ له: رقا أو أحمق، قبل أن يُلقيك الله في سجن العذاب حتّى تَفيَ كلَّ دين الجريمة، التي إن كانت مميتة فالعقاب عنها في جهنَّم، وإن عرضيَّة ففي المطهر. فإنَّ بلفظة "حتّى" قوَّة لإثبات المطهر إذ تشير إلى إمكان نهاية العذاب مع أنَّ عذابَ جهنَّم لا نهاية له، وتكون "حتّى" نظرًا إلى جهنَّم للتأييد. فما دام الذنب فتدوم جهنَّم، والحال أنَّ إهانة الله بالذنب المميت غير متناهية. كذا لاحظ إيرونيموس* في هذا المحلّ وأوريجانوس* ميمر 21 في لوقا وأمبروسيوس* في لو 12 وغيرهم. ويمكن تطبيق كلِّ أجزاء المثل هكذا: الخصم هو المُهان، والطريق هذه الحياة، والحاكم هو المسيح، والمستخرج هو الشيطان، والسجن هو جهنَّم أو المطهر، والفلس هو الذنب الخفيف. وبذكره يبيِّن صرامة وجوب الوفاء عن الذنوب وإن خفيفة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM