التطويبات.

 

التطويبات

آ3. طوبى للمساكين. الطوبى معناها السعادة والغبطة. ويُفهم بها هنا طوبى هذه الحياة، بداية الطوبى أي السعادة الكاملة بمجموع كلِّ خير في السماء والرجاء بنوال ذلك. وبقول الطوبى لا للأغنياء ولا للمتنعِّمين بالولائم والملذّات المحرَّمة والشرف كما يتوهَّم العالم (لأنَّ هؤلاء جميعًا أعطاهم المسيح الويل في لو 6: 34)، بل الطوبى للمساكين. وُيفهم بالمساكين، بموجب النسخة اليونانيَّة، المتسوِّلون والفقراء الخالون من المقتنى والمال. وليس الطوبى لكلِّ المساكين، بل للمساكين بالروح، يعني بالإرادة الطوعيَّة الممدوحة والملهَمة من الروح القدس، والتي تقبل المسكنة وتحتملها من أجل الله. كما قال القدّيسون إيرونيموس* وباسيليوس* وبرنردوس*. وقوله بالروح ينفي زعم ديوجان* ومن أشبهه من الفلاسفة، الذين احتقروا الغنى حبًّا بالمجد الباطل، أو رغبة في محبَّة الحكمة، لا لأجل الله أو ملكوت الله. فإذًا كما أنَّ محبَّة الغنى أصل جميع الشرور فهكذا الفقر الإنجيليّ هو أصل كلِّ خير وكمال وسعادة وأساسها، لأنَّه يعتق الإنسان من كلِّ اهتمام بالأمور الأرضيَّة، ويرسِّخ رجاءه واهتمامه ومحبَّته كلَّها في الله وحده. ولذا كان الفقر كلّيّ المناسبة للتبشير والإنذار بملكوت الله في المسكونة كلِّها، كما أحسن إيرونيموس* ببرهان ذلك، على أنَّه لا يقتضي ترك كلَّ شيء فعلاً وحقيقة كما صنع الرسل ويصنع الرهبان، لأنَّ هذا وإن حوى كمالاً ساميًا فهو من المشورة فقط، بل يجب ترك كلِّ شيء نيَّة وقصدًا حتّى يريد الإنسان أن يفقد كلَّ شيء أحرى من أن ينكر الإيمان أو يضرّ للقريب أو يهين الله بخطيئة أخرى أيَّة كانت، وعلى هذا النحو يكون الفقر وصيَّة. فإنَّ لهم ملكوتَ السماء. إذ من الإنصاف أنَّ من يحتقر غنى الملك الأرضيّ حبًّا بالمسيح يكافأ بغنى الملك السماويّ. ولم يقل فإنَّه سيكون لهم ملكوت السماء، بل فإنَّ لهم ملكوت السماء. فكأنَّه يقول: إنَّ لهم الملكوت مذ الآن من قبل وعدي ورسم الله حتّى كأنَّهم حاصلون عليه.

آ4. طوبى للحزانى. إنَّ النسخة اللاتينيَّة الدارجة التي اتَّبعها إيرونيموس* وأغوسطينوس* وباقي اللاتينيّين قرأت هذه الآية بعد الآية التابعة، أي قرأت طوبى للودعاء أي المتواضعين قبل طوبى للحزانى إلخ. وأمّا النسخ اليونانيَّة والسريانيَّة والعربيَّة القديمة والآباء الروم فقرأوا كما ذكرنا هنا. والمعنى كأنَّه يقول، الطوبى للمحزونين في هذه الحياة التعيسة والمفعمة بالمصائب والنكبات، وهم محتقِرون ملذّات العالم وأفراحه وشهواته، كما قال القدّيسان أغوسطينوس* وغريغوريوس نيصص*. إنَّ المحزونين بسبب النفي من الوطن السماويّ وفقْد الخير السامي الغير المتناهي، كما قال غريغوريوس نيصص* أيضًا وينسانيوس*، أو المحزونين من قبل خطاياهم وخطايا غيرهم وعلى انتقاص مجد الله الخارج، كما قال فم الذهب* وأمبروسيوس* وإيلاريوس*. فإنَّهم، أي المحزونين، كما تقدَّم، يعزَّون غالبًا في هذه الحياة، ودائمًا في الحياة الأخرى، بالتعزية التي لا تزول.

آ5. طوبى للمتواضعين. وفي اللاتينيَّة للودعاء، ولا فرق جوهريّ بين اللفظتين، فإنَّ المسيح قال: تعلَّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب. فإنَّهم يرثون، أي يملكون كأنّ ملكهم بحقِّ الإرث. الأرض، والمراد بالأرض هنا أرض الأحياء أي السماء كما ورد في مز 26: وأبناء عبيدك يسكنون الأرض لأنَّ أرضنا هذه أرض الموتى وهي زهيدة الاعتبار. كذا فسَّر إيرونيموس* وباسيليوس* وغيرهما. وإن ارتأى فم الذهب* وأغوسطينوس* في ك1 في خطبة الربِّ في الجبل أنَّه يوعَد هنا بالأرض الحاضرة، فكأنَّه يقول إنَّ العالم يعتبر المقتدرين والمتنعِّمين بأموالهم والمنتقمين لنفوسهم سعداء، وأمّا أنا فأقول: طوبى للودعاء والمتواضعين الذين يحتملون الإهانات بصبر، فهم لا يتمتَّعون بما قسم لهم في هذه الأرض براحة وهدوء. وهذا حدوثه متواتر في أرض الموتى بتدبير الحكمة الإلهيَّة وفيه قال المرتِّل: وأمّا المتواضعون فيرثون الأرض ويتنعَّمون بكثرة السلامة (مز 3: 11).

آ6. طوبى للجياع والعطاش جوعًا وعطشًا جسديَّين أو روحيّين، أي طوبى للذين يتوقون بحرارة ويكابدون الجوع والعطش ومشقّات الاهتمام بذاتهم وبواسطة غيرهم من أجل المحاماة والإثبات للبرّ، الذي يراد به كلُّ ما هو صالح ومطابق للاستقامة والإنصاف ومقبول لدى الله. كذا فسَّر الآباء المذكورون آنفًا، فإنَّهم يُشبعون، إذا ما ظهر لهم مجد الله (كما يقول المرتِّل) الذي كانوا يتوقون إليه برغبة وقَّادة.

آ7. طوبى للرحماء فإنَّهم يُرحمون. إنَّ هذا يمكن أن يُفهَم به كلُّ نوع من أفعال الرحمة، كما ارتأى إيرونيموس* وفم الذهب* وغيرهما. ولكن ارتأى غريغوريوس نيصص* وأغوسطينوس* في ك1 في خطبة الربِّ في الجبل أنَّه يُفهَم به الصدقة خاصَّة.

آ8. طوبى للنقيَّة قلوبهم. ارتأى فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيموس* أنَّ النقيَّة قلوبهم بمعنى الأطهار والأنقياء من كلِّ شهوة ولذّة لحميَّة. وارتأى إيرونيموس* وإيلاريوس* وغيرهما أنَّ النقيَّة قلوبهم بمعنى الذين طهَّروا نفوسهم من كلِّ خطيئة ومن الأفكار والرغبات الرديئة خاصَّة من الرياء والمكر. فالنقيَّة قلوبهم على ذلك كناية عن أصحاب الضمير الساذج والنقيّ. لكنَّ الأعمَّ والأظهر أنَّه يراد بالنقيَّة قلوبهم من نقُّوا قلبهم من كلِّ محبَّة للخليقة، وحوَّلوا انعطاف قلبهم كلِّه إلى الخالق، فإنَّهم يعاينون الله وجهًا بأزاوجه جزاء انعطافهم إليه جلَّ ثناؤه. ويمكن فهم معاينة الله هذه بمعنى معرفة الله ذات المحبَّة التي يمنُّ بها تعالى في هذه الحياة أيضًا غالبًا على النقيَّة قلوبهم أكثر من غيرهم.

آ9. طوبى لفاعلي السلام. يريد بفاعلي السلام من يجدُّون بإزالة الخصومات وإصلاح المتخاصمين وإرجاعهم إلى الاتِّفاق ومرضاة الله. هذا أمر شاقّ لكنَّه مرضٍ لله جدًّا. كذا فسَّر فم الذهب* وأوتيميوس* وغيرهما. فإنَّهم أبناءَ الله يُدعَون، لأنَّهم يتشبَّهون بالله ويكونون أعزّاء لديه لأنَّه يحبُّ السلام جدًّا، أو يُدعَون أبناء الله لأنَّهم يشتركون بوظيفة المسيح التي هي إصلاح الناس بعضهم مع بعض ومع الله.

آ10. طوبى للمطرودين من أجل البرّ. هذه هي الطوبى الثامنة القائمة بالصبر والاحتمال لأجل البرّ، أي لأجل كلِّ عمل عادل وصالح ومستقيم. فالطوبى إذًا للمضطهدين من أجل البرّ، لأنَّ الاضطهاد يُبعدنا عن العالم ويُدنينا من الله فنشابه المسيح الذي احتمل الاضطهاد والآلام في كلِّ حياته حتّى الموت بالصليب. فإنَّ لهم ملكوتَ السماوات. فيختتم التطويبات بما افتتحها به إذ ابتدأ بها بقوله طوبى للمساكين بالروح فإنَّ لهم ملكوت السماء، وختمها بقوله هذا. على أنَّه في جميع هذه المواعيد تُعيَّن السماء أي المجد السماويّ أجرة وجزاء لكنَّ هذا الجزاء، يعبَّر عنه بألفاظ مختلفة حسبما يناسب كلاًّ من الأعمال الصالحة المذكورة. والفضائل المعيَّنة لها هذه التطويبات الثمانية هي مرتبطة مع بعضها، حتّى إنَّ من لم يحصل على جميعها معًا (ولو بالاستعداد وعلى قدر الإمكان)، فلا يكون مطوَّبًا أي سعيدًا. ولذا إذ يقال في كلٍّ منها: طوبى، فيُضمر بذلك أنَّه إذًا لم يَنقص شيء ممّا يُطلَب للسعادة الحقيقيَّة. وهذا أمر عامّ في جميع القضايا الموجبة، أي يجب أن تفسَّر دائمًا مع إضمار الشروط المطلوبة.

آ11. طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم وقالوا عنكم كلَّ كلمة شرّيرة كاذبة من أجلي، يعني من أجل أنَّكم تتبعون إيماني وتعليمي وسيرتي. فإذًا الطوبى لمن يحتمل التهم والمشقّات والاضطهاد من أجل المسيح والتقوى بصبر، لاسيَّما إذا احتملها بفرح.

آ12. حينئذٍ سُرُّوا وافرحوا فإنَّ أجرَكم عظيمٌ في السماء. هكذا طردوا الأنبياءَ الذين كانوا قبلَكم. أي حينئذٍ سرُّوا بالاضطهاد، لأنَّكم به تُضحون سعداء، أو لأنَّه يورثكم أجرًا عظيمًا في السماء، ولأنَّكم تشبهون بذلك الأنبياء القدّيسين الذين اضطُهدوا. ولاحظْ قوله: فإنَّ أجركم عظيم في السماء ضدَّ المحدثين الذين ينكرون استحقاق الأعمال الصالحة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM