الفصل الثالث:يوحنا المعمدان.

 

الفصل الثالث

فحواه إنذار يوحنّا المعمدان. وتعميده. وإعداده نفوس الشعب لقبول المسيح. وتوبيخه الفرّيسيّين والزنادقة. واعتماد المخلِّص منه وحلول الروح القدس عليه بشكل حمامة وصوت الآب من السماء هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.

يوحنّا المعمدان

آ1. في تلك الأيّام، التي كان يسوع فيها ساكنًا الناصرة وكان أكمل ثلاثين سنة من عمره معاونًا يوسف في حرفة النجارة، وحضر زمانُ ظهوره للعالم في بداية الأسبوع السبعينيّ من أسابيع دانيال. فإنَّ يسوع لم يبتدئ بالإنذار قبل سنة الثلاثين من عمره ليسلك بموجب عوائد اليهود وشرائعهم، إذ لم يكن يحلُّ لأحد عندهم أن يباشر وظائف التعليم والكهنوت قبل سنة 30 من عمره كما يظهر من سفر الأيّام الأوَّل 23: 3 ومن تقليد اليهود. فحينئذٍ جاء قاصده ومتقدِّمه كنجمة الصبح للشمس يوحنّا المعمدان، من مغاور البراري والجبال حيث كان سار سيرة ملائكيَّة مذ نعومة أظفاره. فقد أتى يوحنّا من البرِّيَّة حيث كان عائشًا بالوحدة، لا من بيت والديه الذي كان في جبال اليهوديَّة حيث عاش يوحنّا برغد وتنعَّم، كما يزعم المحدثون لينقضوا البرهان المأخوذ من ذلك لمحاماة الرهبانيَّة. وتدلُّ على عيشته بالانفراد نبوءة أشعيا عليه في 40: 3، أنَّه صوت صارخ في البرِّيَّة، حيث يُفهَم بالبرِّيَّة محلَّ السياحة كما يظهر من قرائن الحال هناك، وكما يشهد لذلك لبسه من وبر الجمال وطعامه من الجراد وعسل البرّ كما سيجيء. وممّا قاله المسيح عنه في مت 11: لماذا خرجتم إلى البرِّيَّة لتنظروا قصبة يحرِّكها الريح. فلم يقرن القصبة مع البرِّيَّة إلاّ لأنَّه من عادتها أن تنبت في المحلاّت القفرة لا في البيوت، كما قال ملدوناتوس*. وكذا علَّم كثير من الآباء الروم واللاتينيّين وقد دعوا كثيرًا مار يوحنّا المعمدان رئيس الرهبان والسوّاح، ومنهم مار إيرونيموس* في رسالة 22 إلى أوسطوخيوس*. وبالمعنى الأدبيّ يعلِّم مار يوحنّا المرسلين والمنذرين أن ينفصلوا عن أسجاس العالم أوَّلاً وينفردوا للصلاة والتأمُّل ليكتسبوا قوَّة الروح ويسكبوها بعد ذلك في سامعيهم. ولذا قال مار أغوسطينوس* في رسالة 76: "من لم يكن راهبًا (أي متوحِّدًا) صالحًا لا يكون إكليريكيًّا صالحًا". ثمَّ شرع يوحنّا يكرز على السكّان المجاورين له في برِّيَّة يهوذا. وهذه البرِّيَّة هي محل فسيح متَّسع حذاء الأردنّ بالقرب من أنون وساليم كما يظهر من بشارة يوحنّا 3: 23، قائلاً:

آ2. توبوا فقد اقتربَ ملكوتُ السماء. يعني الملكوت السماويّ الذي انتظره آباؤكم في جميع الأجيال الماضية، وأنذر الأنبياءُ بتواتر أنَّه مُلك الماسيّا الموعود به. وبالتالي قد اقترب مجيء شخص الماسيّا (لأنَّ الملكوت لا يكون دون ملك)، وهذا الملكوت ليس أرضيًّا كما تُوهمون بل سماويّ وروحيّ: يُنال بالإيمان والرجاء والمحبَّة والنعمة والمواهب السماويَّة، ويملك في نفوسكم في الأرض بالنعمة مبتدئًا، ويكمَّل في السماء بالمجد، ولذا أعدُّوا نفوسكم له بالتوبة النصوحة ليفيض المسيح عليها مواهبه فيبتدئ أن يملك عليها ثمَّ يُشركها بملكه الخالد. ثمَّ يذكر الإنجيليّ أنَّه قد تمَّ بيوحنّا نبوءة أشعيا عليه بقوله.

آ3. هذا هو الذي قيل عنه في أشعيا النبيّ (40: 3): صوتُ صارخٍ في البرِّيَّة أعدُّوا طريقَ الربِّ وسهِّلوا سبله إلى قلوبكم بواسطة التوبة النصوحة.

آ4. وكان لباسُ يوحنّا من شَعرِ الإبل، أي صوف الجمال، والقدّيس أنسلموس* وأوسابيوس الحمصيّ* يدعون لباسه مسحًا شعريًّا. ومنطقة جلد، يعني زنّارًا من جلد، على حقويه. كما فعل إيليّا قبله، وكما فعل كثير من النسّاك والحبساء تقشُّفًا وإماتة لأجسادهم فإنَّ ذلك يروِّض الجسد ويقمع آلامه. وكان طعامُه الجراد. إنَّ المحدثين يتأوَّلون كلَّ ما قيل عن يوحنّا إلى ما يبعد عن الانفراد والوحدة ليقاوموا الرهبانيَّة، فيجعلون البرِّيَّة مدنًا كما تقدَّم ويفهمون بشعر الإبل لباسًا ثمينًا. وبالجراد السرطان البحريّ، مع أنَّ آيات الإنجيليّين بهذا المعنى وتفسيرات الآباء لها واضحة ضدَّهم. فمن يظنُّ أنَّ متى قصد أن يبيِّن هنا أنَّ يوحنّا كان متنعِّمًا، وهو الذي روى أنَّ المسيح قال عنه إنَّ الذين عليهم لباس التنعُّم هم في بيوت الملوك؟ فالصحيح إذًا أنَّ المراد بالجراد هنا الطائر المعلوم الذي كان مسموحًا بأكله لليهود في أح 11: 21. لكنَّه كان طعام الفقراء والأدنياء وكان يؤكل (كما تؤكل الضفادع الآن) إمّا مشويًّا إمّا مقليًّا أو مسلوقًا أو مكبوسًا بالملح ومجفَّفًا بالدخان. وعلى هذا النحو كان يمكن حفظه مؤونة السنة كلِّها كما شهد بلينيوس* في ك 11 رأس 29. وكان أكل الجراد بعيدًا عن ولائم اليهود المنمَّقة بل الدارجة أيضًا حتّى قيل في يوحنّا إنَّه لم يكن يأكل: جاء يوحنّا لا يأكل ولا يشرب (مت 11: 18)، لأنَّه كان ممتنعًا من الخمر والمسكر وقانعًا لمشربه بالماء ولمأكله بالجراد. وعسل البرّ، وهو على الأصحّ العسل الذي يصنعه النحل البرّيّ في البرِّيَّة. وبالتالي كان عائشًا بالإمساك أيضًا كما قال فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وإيسيدوروس الفرميّ* وغيرهم.

آ5. حينئذٍ خرجَ إليه. جمع وافر من أورشليم ومن اليهوديَّة كلِّها وجميع الكوَر المحدقةِ بالأردنّ، لانتشار صيت قداسته وتقشُّفه.

آ6. وكانوا يعتمدون منه في نهرِ الأردنِّ معترفين بخطاياهم. إنَّ اليهود كانوا يلتزمون في بعض حوادث أن يعترفوا للكاهن بخطيئتهم كما يظهر من لا 5: 5-7، وعد 5: 7 حيث أمر بالاعتراف ببعض الخطايا وتقديم الكفّارة عنها على يدي الكاهن. إلاّ إن ذاك الاعتراف ومعموديَّة يوحنّا لم يكونا سرًّا تُغفَر به الخطايا (إذ كانت تغفر حينئذ بالندامة وحدها)، بل كان ذلك طقسًا عاريًا يشهدون به على التوجُّه الباطن من جرَّاء الخطايا، وعلى الرغبة في تطهير نفوسهم وبالتوبة كما يطهِّر الماء أوساخ الجسد. وكانوا يستعدُّون بذلك لقبول الندامة والمغفرة الحقيقيَّة وغير إحسانات من المسيح، إذ كان يوحنّا يأمرهم بالإيمان به، كما ورد في أع 19: 4 وفي يو 1: 26.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM