مقتل أطفال بيت لحم.

مقتل أطفال بيت لحم.

16. وأمّا هيرودسُ فإذ شاهدَ سخريةَ المجوس به غضبَ جدًّا. إنَّ هيرودس كان وقتئذٍ يطلب الطفل ليُهلكه، وكان كثير من عشرائه وأعوانه يساعدونه بذلك، ولمّا لم يتمكَّنوا من وجدانه لاختفائه كما كانوا يظنُّون ولسخرية المجوس بهيرودس احتدم غيظًا وأبدى قساوة لم يُسمَع مثلها. وأرسلَ فقتلَ جميعَ أطفالِ بيتَ لحم وكلِّ تخومِها، إذ عيَّنوا لكلِّ محلٍّ جُندًا يثبتون جميعًا في وقت واحد على كلٍّ من البيوت ويخطفون الأطفال الذكور ويقتلونهم. ولئلاّ يخدع الجنود مكر آباء الأولاد أو نشوء الجسم أكثر ممّا يقتضيه السنّ طبعًا أو بأعجوبة ويظهر المسيح أكبر ممّا يقتضيه عمره فينجو من القتل، قد مدَّ الظالمُ الزمان بأمره أن يقتلوا الصبيان، من ابنِ سنتين فما دون. ولماذا أمر بقتلهم من ابن سنتين فما دون، مع أنَّ عمر المسيح لم يكن أكثر من ثلاثة أشهر، إذ ارتأى بعضهم أنَّ قتل الأطفال صار في قرب عيد الفصح بعد أن عرف هيرودس تقديم المسيح إلى الهيكل؟ فيجيب يانسانيوس* وبارونيوس* وملدوناتُوس* وغيرهم أنَّ هيرودس مدَّ الزمان خشية أن يفلت المسيح من القتل كما تقدَّم. وإن اعتُرض بأنَّ الإنجيليّ قال: من ابن سنتين فما دون، حسب الزمان الذي تحقَّقه عن الصبيّ من المجوس، فيجيبون أنَّ قوله حسب الزمان لا ينسب إلى قوله ابن سنتين بل إلى قوله ما دون. فكأنَّه يقول إنَّ هيرودس أمر بقتل الأطفال من ابن سنتين لمزيد الاحتراص على قتل المسيح، وأمر بقتل من كانوا دون السنتين حسب الزمان الذي تحقَّقه من المجوس، لئلاّ يَقتل من وُلدوا بعد ذلك. على أنَّ الصحيح أنَّ هيرودس لم يقتل الأطفال حالاً، ولا في السنة نفسها التي أتى ورجع فيها المجوس، بل في السنة التابعة التي هي الثانية لميلاد المخلِّص، وعلى ذلك ينسب قوله حسب الزمان إلى قوله ابن سنتين، ويكون المعنى أنَّ هيرودس قتل الأطفال الذين بلغوا السنتين والذين لم يبلغوا إلاّ سنة واحدة أو بعض أشهر، وكان قتلهم إذ كان عمر المسيح خمسة عشر شهرًا، وقد علّم بذلك أوسابيوس** في التاريخ وإبيفانيوس** في أرطقة 30 وأوغسطينوس* وشدرانُوس* وغيرهم كثيرون. وإن كان بعضهم من رأي من قالوا إنَّ النجم ظهر قبل ميلاد المسيح بسنتين أو إنَّ المجوس أتوا بيت لحم بعد سنتين من مولده لبعد مسافة طريقهم. والكنيسة تعيِّد لقتل الأطفال بعد عيد ميلاد المسيح لأنَّهم قُتلوا من أجله، وإن ارتأى براديوس** وعمّانويل* صا أنَّهم قُتلوا يوم عيدهم في السنة التابعة. وقد ذُكر في رتبة قدّاس الأحباش أنَّ عدد الأطفال القتلى كان أربعة عشر ألفًا. وقد قُتلوا بضوضاء كبرى من الجنود وعويل شديد من أمَّهاتهم حتّى سُمع من الرامة صوت البكاء والنحيب، وإلى ذلك أشار الإنجيليّ إذ قال:

17. فتمَّ حينئذٍ ما قيل بإرميا النبيّ القائل (31: 15) من نبوءته.

18. صوتٌ سُمع في الرامة بكاءٌ ونَوحٌ كثير. والرامة مدينة في سهم سبط بنيامينُ محلُّها مرتفع ولذا دُعيَت الرامة أي المرتفعة (كما شهد مار إيرونيمُوس*)، وكانت راحيل، أي مقاطعة بيت لحم كلُّها التي دعيت كذلك لأنَّ راحيل امرأة يعقوب دُفنت فيها (كما ورد في تك 35: 19)، تبكي على أولادِها ولا تريدُ أن تتعزّى لفقدِهم. لأنَّ الأولاد هم تعزية كبرى للوالدين وقد خُطفوا وقُتلوا حالاً. فلاحظ هنا أنَّ العناية الإلهيَّة قد عاقبت من جهة باستئهال سكّان بيت لحم بقتل أولادهم لأنَّهم لم يريدوا أن يأووا العذراء عند ولادتها، وزيَّنت من جهة أخرى الأطفال الأبرار بإكليل الشهادة. وأضحى المسيح ومولده أكثر شهرة بهذه المقتلة القاسية، وهيرودس الذي كان يريد إثبات المُلك له ولخلفائه بهذه الطريقة مات بعد أيّام قلائل من قتل الأطفال أشنع الميتات، معذَّبًا بأوجاع حادَّة في جسمه كلِّه، وبانبعاث نتانة لا تطاق من جسده، ومضى بهذه الأوجاع إلى العذاب المؤبَّد. وأمّا أولاده فبالكدِّ حصلوا على جزء من المُلك بسبيل التوسُّل. ولمّا مات هيرودس ملك اليهوديَّة والسامرة مات أيضًا عوباد ملك دمشق في سورية في وقت واحد، فتمَّت نبوءة أشعيا الذي قال في 7: 16 عن عمّانوئيل: من قبل أن يعلم الصبيّ أن يرذل الشرَّ ويختار الخير تُترك السامرة ودمشق من ملكيهما.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM