الفصل الحادي والأربعون: أصلُ الحكمة ومخافةُ الله.

 

الفصل الحادي والأربعون

أصلُ الحكمة ومخافةُ الله (1:1 - 20)

أوّل صفحة من ابن سيراخ صفحة لافتة. حتّى الآن، لم نجد النصَّ العبريّ. فبقي لنا النصّ اليونانيّ. ونحن نأخذ هنا بالنسخة القصيرة (لا الطويلة) التي هي أفضل شاهدٍ لفكر هذا الحكيم. والإضافات نضعها بين قوسين دون أن نشرحها. نشير هنا إلى أنّ الترقيم يتبع النسخة الطويلة، وحين نأخذ بالنسخة القصيرة تكون فجوات. مثلاً، في هذا المقطع، لا يرد رقم 5، 7.

إبن سيراخ هو كتاب حكمة، لهذا فهو يبدأ كلامه عن الحكمة التي هي فنّ الحياة مع الله ومع الناس. هذه الحكمة التي هي قريبة من الله، وُجدت مع الله فبدت أزليّة مثله. ونحن نقترب منها كما نقترب من الله بعاطفة المخافة. هذه المخافة توجز موقفَ المؤمن أمام الله. وهو موقف من الحبّ والطاعة. فلا حكمة حقّة بدون مخافة الربّ، والمخافة تقود في النهاية إلى بداية الحكمة وقمّتها. وبسببها يبارَك الإنسان في هذه الدنيا وبعد موته.

ونقرأ النصّ:

1 كلّ حكمة هي من الربّ،

وتبقى معه إلى الأبد.

2 رملُ البحار وقطرات المطر،

وأيّام الدهر من يعدّها.

3 إرتفاع السماء واتّساع الأرض،

وعمق الغمار من يَقيسها؟

4 قبل كلّ شيء تكوّنت الحكمة،

ومن أقدم الدهور الفطنة والفهم.

5 (ينبوع الحكمة كلمةُ العليّ،

والطريق إليها الوصايا الأزليّة).

6 لمن انكشف أصلُ الحكمة،

ومن تبيّن صوابَ أمرها؟

7 (لمن تجلّت معرفة الحكمة،

ومن أحاط بكثرة أساليبها؟).

8 واحدٌ هو الحكيم المهيب،

الربُّ الجالسُ على عرشه.

9 أوجدها، تأمّلها، وقدرها

عل كلّ أعماله.

10 وعلى البشر أفاضها،

وبكثرة على الذين يحبّونه.

(محبّةُ الربِّ فخر وحكمة،

تتجلّى فيمنحها ليروا وجهه).

11 مخافة الربّ شرفٌ ومجد،

وفرح وإكليل ابتهاج.

12 مخافةُ الربّ تُسرُّ القلب،

تطيل العمرَ، تُفرحه وتُسعده.

(مخافة الربّ عطيّة من الربّ

تجعل الإنسان في طريق المحبّة).

13 من يخاف الربّ تطيبُ آخرته،

وفي يوم موته ينال البركة

14 رأس الحكمة مخافة الربّ،

نشأت مع المؤمنين في الرحم.

15 ومن القِدَم أقامت بين الناس،

وأمينةً ستبقى لذرّيتهم.

16 كمالُ الحكمة مخافةُ الربّ،

بثمارها تُشبعُ بني البشر،

17 بما يشتهون تملأ بيوتهم،

وبغلاّتها مخازنهم.

18 تاجُ الحكمة مخافة الربّ،

وبها السلام والشفاء التامّ،

(هي عطيّة الله للسعادة،

والذين يحبّون الله بها يفتخرون).

19 الحكمة تسكبُ المعرفة والفهم،

وتُعلي مجدَ الذين يملكونها.

20 أصل الحكمة مخافة الربّ،

وفروعُها حياة طويلة.

1 - الحكمة هي من الربّ (1:1 - 10)

بدأ ابن سيراخ كتابه، بقصيدة جُعلت في ثماني آيات. ونحن نقسمها مقطعين اثنين.

أ - المقطع الأوّل (آ 1 - 4)

تحدّثت الآيات الأربع الأولى عن الحكمة التي تصل أصولها، جذورها في الله. وهي لا تكون في متناول الإنسان إن تُرك وحاله (آ 1). إختلف ابن سيراخ عن سابقيه، فما انطلق من الخبرة اليوميّة ومن الواقع الذي نكتشفُه في العالم. كلمتُه الأولى كلمة لاهوتيّة. ففي نظره، لا حكمة بين البشر، إلاّ ومصدرها الربّ. فإن كان هناك بعضُ حكمة على الأرض، فهذا يعني أنّ الربّ ينبوعها. عَرف الكتابُ بفضل أم 1 - 9، أنّ أصل الحكمة في ا؟ (أم 8:22 - 23)، وأنّه هو الذي يعطيها (أم 2:6).

لا يستطيع الإنسان أن يعرف الكون معرفة تامّة (آ 2 - 3). وبالأحرى الحكمة. ذاك هو البرهان الضمنيّ عند ابن سيراخ: من عرف الكون استطاع أن يعدّ عناصره، كما حبوب الرمل على الشاطئ، وقطرات المطر الساقطة على الأرض والبحر. بل تلك التي سقطتْ مُنذ وُجد العالم. والإنسان لا يستطيع أيضًا أنّ يعرف كم مرّة أشرقت الشمس على عالمنا منذ وُجد. فوساعة الكون تتجاوز الإنسان. ويتطلّع الحكيم إلى الكلّ، بعد الجزئيّات، حين يتحدّث عن بُعدَي المدى: العموديّ والأفقيّ (أف 3:8). وحتّى في أيّامنا، من يعتبر أنّه قاس طول الكون وعرضه؟

في آ 3ب، قرأت السريانيّة واللاتينيّة: عمق الغمر (ت هـ و م. ر ب ا: الغمر العظيم). في اليونانيّة: البحار والحكمة. ذكرُ الحكمة يُوضح فكر ابن سيراخ. إذا كان الكون يُفلت من تفكيرنا، فبالأولى الحكمة. والأسئلة البلاغيّة في آ 2 - 3 لا تنتظر سوى جواب واحد، يستطيع القارئ أن يقوله: لا يستطيع أحدٌ أن يعدّ، ولا أن يكشف ما هو فوق متناولنا على مستوى الكميّة والمدى (آ 4). فبالأحرى الحكمةُ تتجاوز إمكانيّاتنا لأنّها قبل العالم الذي لا نعرفه كلَّ المعرفة (أم 8:22 - 26): وُجدت الحكمة قبل الكون. قالت النسخة اليونانيّة: الحكمة خُلقت. ولكن قد يكون ابن سيراخ استعمل في خطّ أم 8:22، صورةً، لا كلمة مجرّدة: ولَدَ، كوّن. وفي أيّ حال، العبارة التي تلجأ إلى صيغة المجهول، تدلّ على عمل ا؟ (كُوِّنت، خُلقت، أي كوّنها ا؟، خلقها). والحكمة هي أيضًا فطنة وفهم. وُجدت قبل الكون، منذ الأزل.

ب - المقطع الثاني (آ 6 - 10)

يَشرح المقطعُ الثاني كيف أنّ الحكمة أعطيَتْ للبشر (آ 6، 8). ويقدّم أيضًا سؤالين بلاغيّين ينتظران الجواب الواحد. من يعرف؟ ما من إنسان. أمّا هنا فنحن أمام وحي عن هذه الحكمة التي أتت من عند ا؟ وتقيم معه إلى الأبد (آ 1). بل إنّ السؤال يدور حول الكشف عن جذور الحكمة وأسرارها. تحدّث اليونانيّ عن »ميلها« (الحكمة)، عن كلّ ما تستطيع أن تحقّقه. أمّا في العبريّة (42:18؛ 51:19) فيبدو أنّ الكاتب يشدّد على ما في الحكمة من حميميّة (في السريانيّة: س ك و ل ت ن و ت ا، الفهم)، في هذه الحالة، يكون الشطران متوازيين:

لمن كُشف (أي ا؟ كشفه) أصلُ الحكمة،

ومن تبيّن أسرارها؟

إذن، من يستطيع أن يعرف الأعماق الخفيّة في الحكمة؟ والجواب يأتي فيما بعد. والأسئلة المطروحة في آ 6 ليست بجديدة في البيبليا، ونحن نفهمها في إطار كشفٍ روحيّ. في زمن ابن سيراخ، استلهمت قصيدة باروك (3:9 - 4:14)؛ تث 30:11 - 14، فقالت الشيء عينه عن الحكمة (با 3:29 - 30).

من صعد إلى السماء فتناولها (الحكمة)

ونزل بها من الغيوم؛

من عبرَ البحرَ فوجدها

وفضّلها على الذهب الإبريز؟

لا أحد استطاع. ولكنّ الربّ كشفها في شعبه. ففي زمن المنفى البابليّ، في القرن السادس، تحدّث أشعيا الثاني عن الربّ الذي يعرف كلّ شيء (إش 40:14):

من لقّن الربَّ معرفةً،

وأراه طريق الفهم؟

وشدّد ابن سيراخ هو أيضًا على تسامي الربّ: هو المهيب والمتعالي، الجالس على العرش السماويّ. بحيث لا يصل إليه أحد. في هذا المعنى قال ميخا بن يملة في 1مل 22:13: »رأيتُ الربَّ جالسًا على عرشه، وجميع ملائكة السماء وقوفٌ لديه. على يمينه وشماله«. وقال إش 6:1ي في رؤياه: »رأيت السيّد الربّ جالسًا على عرش عالٍ رفيع«. رأى ابن سيراخ أنّ الربّ وحده حكيم (روم 16:27). كان أشعيا في القرن الثامن قد تحدّث عن حكمة الربّ (أش 31:2). أمّا عند ابن سيراخ، فالربّ وحده يمتلك ملء الحكمة. هو وحده يعرف أسرارها الخفيّة. وهذا التسامي الإلهيّ هو ينبوع كلّ اتّصال بين الربّ والإنسان، لكي يعطيه أعزَّ ما عنده.

»هو الذي خلقها (أوجدها)«. إستلهم الحكيم هنا أي 28:27 (فرأى الحكمة وأخبر عنها). لقد توخّى أي 28:1ي أن يفهمنا أنّ ا؟ وحده يعرف الحكمة معرفة تامّة: حين كوّنها، رآها، قدّرها حقّ قدرها (في اليونانيّة: عدّها كما في آ 2. ما أغفلها). وما يلي من النصّ له المدلول الكبير. فالفكرة القائمة بأنّ ا؟ »يفيض الحكمة على كلّ بشر« تذكّرنا بنصٍّ معروف في يوء 3:1، استعاره بطرس في خطبته، يومَ العنصرة (أع 2:17): »أفيض روحيّ على كلّ بشر، على كلّ لحم ودم، على كلّ جسد«. كان إش 11:2 قد قارب بين الروح والحكمة، فقال: »على جذع يسَّى، يحلّ روح الربّ، روح الحكمة والفهم«. وراح ابن سيراخ أبعد من ذلك، فرأى الحكمة على مستوى الروح. هي حكمة روحيّة (حك 1:4 - 6؛ 7:22؛ 9:17).

وحدّد ابن سيراخ أولئك الذين ينعمون بعطيّة الربّ هذه. أفاض حكمته »على كلِّ أعماله«: ففيها كلّها تقيم الحكمة، في شكل من الأشكال. نستعيد هنا فكرة تقول إنّ في الكون نظامًا أراده ا؟ (أم 3:19 - 20: الربّ بالحكمة أسّس الأرض، وبالفهم ثبَّت السماوات. بمعرفته تفجرّت الينابيعُ، وأمطرت السحائبُ ندًى). فالربّ أفاض أيضًا حكمته على كلّ بشر، وكلّ إنسان ينال. قال أم 8:31: إنّ الحكمة وجدت نعيمها بين البشر. هو الربّ يفيض بمقدارِ العطيّة التي يمنح. نجد هنا أيضًا البُعد الكونيّ لكلّ حكمة. كان موسى نفسه قد تمنّى أن يكون شعب الربّ كلُّه أنبياء، وتحدّث يوئيل عن الروح الذي سيُعطى لكلّ أعضاء الشعب المختار، من رجال ونساء، من عبيد وأحرار. وراح ابن سيراخ في هذا الخطّ وتجاوزه، فأكَّد أنّ الربّ منح حكمتَه بوفرة لخائفيه. قال اليونانيّ: »للذين يحبّونه«. أمّا السريانيّة وبعض المخطوطات اليونانيّة. فقالت: »للذين يخافونه« (د ح ل و هـ ي). هي تمثِّل النصّ الأصيل فتتيح لنا بأن نفهم لماذا تكلّم الكاتب بعد ذلك حالاً، عن مخافة الربّ. فالذين يخافون الربّ، أو الذين يحبّونه، هم مؤمنو الشعب الذين اختارهم الربّ، هم المؤمنون الذين يكرمون الربّ.

وهناك اختلاف آخر بين يوئيل وابن سيراخ: تطلّع النبيّ إلى المستقبل، أمّا الحكيم فتطلّع إلى عطيّة وهبها الربّ منذ الآن.

نستعيد الآن بعض الخطوط اللافتة في فكر ابن سيراخ. ففي هذه القطعة الأولى، جاء تفكيره لاهوتيٌّا قبل كلّ شيء. في آ 1 - 4، تحدّث عن الخلق. كانت الحكمة قبله، وما من إنسان يصل إليها بقواه الخاصّة. وفي آ 6، 8 - 10، بيّن أنّه إن وُجدت الحكمة في وسط البشر، وخصوصًا في إسرائيل، فهذا يعود إلى وحي من ا؟ وكشف: فالمؤمن لا يستطيع أن ينعم بالحكمة ويعرفها إن لم يمنحْه الربّ إيّاها بسخاء. وقدّم ابن سيراخ نظرة شاملة، أصيلة، عمّا قاله الكتَّاب الملهمون قبله، في شكل أو آخر، وفي منظار مختلف. إستلهم أم 8، أي 28، أش، يوء 3:1. لقد وعى هذا الحكيم أنّه أخذ المشعل من الأنبياء، فواصل تعليمَهم (24 - 33):

أمنحه بما يماثل النبوءة،

وأورثه إلى مدى الأجيال.

2 - مخافة الربّ والحكمة (1:11 - 20)

توسّعت قصيدة ابن سيراخ الثانية، في مخافة الربّ، وفي علاقتها بالحكمة.

أ - مخافة الربّ

ما اهتمّ الحكيمُ في هذه الآيات القليلة، أن يحدِّد ما يعني بمخافة الربّ. فإنْ نظرنا إلى مجمل تعليمه، نستطيع القول إنّ هذه المخافة هي موقف الإنسان الأساسيّ أمام ا؟. نحن هنا أمام طواعيّة وجهوزيّة، أمام انفتاح وتقبُّل مليء بحبّ ا؟ وبمتطلّباته. هي علاقة شخصيّة قبل أن تكون خوفًا ورعدة. هذا الموقفُ الأساسيّ هو الشرط الأوّل لتقبّل فيض النعمة الإلهيّة (آ 1). وفي الوقت عينه، هي تحثّ المؤمن على ممارسة فرائض الحكمة (1:25 - 27):

25 في خزائن الحكمة أقوالٌ مأثورة،

لكنّ مخافة الربّ (= التقوى) رجسٌ عند الخاطئ.

26 إن شئتَ الحكمة، فاحفظ الوصايا

وبها يجود الربُّ عليك.

27 مخافةُ الربّ حكمة وتأديب،

والإيمان والوداعة يرضيانه.

إذن، نحن لا نماهي بسهولة بين الحكمة ومخافة الربّ. فالمخافة تفترض تقبّل الحكمة. ولا نظنّ أيضًا أنّ ابن سيراخ لم يتطلّع إلى مخافة الربّ، إلاّ لكي يدعو المؤمنين إلى اتّباع فرائضها. ليس ابن سيراخ ذاك الذي يتعلّق تعلّقًا مفرطًا بالشريعة. ولكن من يخاف الربّ يحبّ الشريعة (آ 10). وبالتالي يخضع طوعًا لمشيئة ا؟ (2:15 - 17):

15 الذين يخافون الربّ لا يعصون أوامره،

والذين يحبّونه يسلكون طرقه.

16 الذين يخافون الربّ يطلبون رضاه،

والذين يحبّونه ينعمون بشريعته.

17 الذين يخافون الربّ يهيّئون قلوبهم،

وفي حضرته يقفون متّضعين.

ب - حسنات مخافة الربّ (آ 11 - 13)

قبل أن يشرح ابن سيراخ كلّ هذا، بيّن الحسنات التي تحملها مخافةُ الربّ. فمخافة الربّ هي نعيم بركاتٍ. وقد ذكر ابن سيراخ ثلاثًا. الأولى، هي الشعور بأنّنا نحيا حياة كريمة ومنفتحة. فالمؤمن لا يحسّ بنفسه عائشًا في الضيق أو في العار. بل هو يشعر بالفخر لأنّه يقف أمام إله في موقف من الجهوزيّة والمحبّة، وهذا له مبعث فرح عميق وفيّاض. ذاك هو فرح المؤمن. وتلك هي البركة الثانية. والبركة الثالثة، العمر الطويل. أعلن تث 4:40؛ 11:20 أنّه يكون للشعب أيّام كثيرة في أرض الموعد شرط حفظ وصايا ا؟. ورأى تث 6:2 أنّ الموقف الذي يؤسِّس حفظ الوصايا، هو مخافة الربّ. واعتبر ابن سيراخ أيضًا أن مخافة الربّ، كما ينظر إليها، هي عربون الحياة الطويلة.

هل نجد ما يؤكّد هذا القول في الواقع؟ تفلّت هذا الحكيم من اعتراض بتحدّث عن موت البارّ قبل أوانه. أمّا في حك 4:6 - 7، فقد تحوّلت المعطيات في منظار آخرةٍ بعد الموت. فابن سيراخ لا يعرف سوى شيء واحد، وهو أنّ الربّ لا يتخلّى، على الأرض، عن الذي يحبّه ويعيش في مخافته: هو يمضي مثل الآباء بعد أن تعب من الأيّام. وترك وراءه ذكرًا صالحًا، واسمًا مبارًكًا.

ج - العلاقة بين الحكمة ومخافة الربّ

هذا ما نقرأه في آ 14 - 15: مبدأ الحكمة مخافة الربّ. إستعاد ابن سيراخ أم 1:7 (رأس المعرفة مخافة الربّ، والحمقى يحتقرون الحكمة والفهم)؛ 9:10 (بدء الحكمة أن تخاف الربّ، وتتبيّن معرفةَ القدّوس. أو: الفطنة هي معرفة القدّيسين). فقدّم توسعًا فيه تحدّث أيضًا عن البركات، وبيّن أنّ الحكمة هي ينبوع هذه البركات. لهذا، انطلق من مبدأ (بدء، أصل) الحكمة في الإنسان. فوصل إلى تفتّحها التامّ (آ 16 - 17، 18 - 19)، قبل أن يستعيد في النهاية، البداية والنضوج (آ 20). أمّا الصوَر فأخُذت من عالم الزراعة.

إنتقلت آ 14 - 15 (رغم بعض الصعوبات النصوصيّة) من الفرد (آ 11 - 13) إلى الجماعة. فكما في آ 10ب، فكّر هذا الحكيمُ بشعبه الذي منحه الربُّ الحكمة. فكلّ مؤمن نالها وهو في حشا أمّه. يكرِّر اليونانيّ هذه الفكرة مع صورة عشِّ الطير وأساس البيت. أمّا العبريّ فيبدو أنّه قال: »مع المؤمنين وُلدت في ما مضى« (آ 4). أو: »في الماضي أعطاها الربّ لتكون مع مؤمنيه«. قالت السريانيّة في آ 15: »مع البشر هي حقّ، وكوِّنت قبل العوالم«، ضاعت صورة العشّ والأساس. يبدو أنّ ابن سيراخ فكّر بالآباء، بموسى وبجيله. وأكمل الفكرة فأضاف أنّ الحكمة الإلهيّة تُقيم مع نسلهم (اليوم كما في الماضي)، ومعهم تقيم علاقة من الثقة.

واكتملت آ 14 - 15 بما في آ 16 - 17. وهكذا ننتقل من وصف أصل الحكمة في إسرائيل، إلى ملء نضوجها. هي صورة الغلّة والمخازن كما في فصل الحصاد أو القطاف. فالذين يخافون الربّ ينالون ما تَغلّه الحكمة من أجلهم. يتقبّلونها بسخاء فينعمون بخيرات غير عاديّة تقدّمها لهم بوفرة. وما هي هذه الخيرات؟ هذا ما تقوله آ 18 - 19. إنّ مخافة الربّ تُعدّ المؤمنين لتقبّل أجمل البركات من الحكمة. أوّلاً، السلام أي الراحة والوفاق والهدوء، وتفتّح النفس والجسد. ثمّ الفهم العميق الذي يتيح لنا أن نفهم معنى الحياة والنشاط الذي يقومون به. وأخيرًا، المجد الذي هو افتخار بما أغدقت علينا الحكمة (آ 11)، واسم مبارك بعد الموت (44:1 - 15).

وفي الختام، استعاد ابن سيراخ موضوعي الآيات السابقة: البداية أو المبدأ الأساسيّ (آ 14) وزمن النضوج (آ 16، 18). فعاد إلى صور نباتيّة مثل جذر الشجرة وفروعها. في آ 6، تساءل الحكيم: لمن كُشف أصل الحكمة؟ وكان الجواب: وحده الربّ يعرف أسرارها. وفي آ 20، تتبدّل النظرة: يعرف المؤمنون منذ الآن أنّ مخافة الربّ هي أساس العطيّة التي جاءتهم من الحكمة. فحين نضجت فيهم، حملت للذين تقبّلوها الحياة الطويلة والبركة التي أشارت إليها آ 12.

بين آ 1 - 10 وبين آ 11 - 20، هناك تكامل. من جهة، تتجاوز الحكمةُ المجهود البشريّ، فالربّ الذي يمتلكها هو الذي يمنحها للذين يخافونه. وهكذا انطلق ابن سيراخ من العلاء (لا من الأرض) ليصل إلى البشر. من جهة ثانية إذا أراد البشر أن يتقبّلوا الحكمة، وجب عليهم أن يكونوا في موقف قبول مهيب لعطيّة ا؟: تُطلَبُ مخافةُ الربّ وحدها لكي تنغرس الحكمة فينا وتنمو. عندئذ يعرفون خيرات الربّ، والبركات التي تحملها الحكمة تجاوبًا مع ما فعله الذين تقبّلوها. هذه البركة هي تلك التي تعطيها الحكمة، وتلك التي تستحقّها مخافةُ الربّ التي يعيشها المؤمن باستمرار طوال حياته (آ 11 - 20).

3 - الإضافة السريانيّة والأزمنة الأخيرة

في الترجمة السريانيّة، في البسيطة، وفي العربيّة التي ترتبط بها (كما نقرأ في البوليغلوتة الفرنسيّة)، ألغي 1:26 - 27 الذي أوردناه، وحلّ محلّه النصّ التالي:

أ طوبى للرجل الذي يتأمّل فيها (= الحكمة)،

فهي خيرٌ له من كلّ الكنوز.

ب طوبى للرجل الذي يقتربُ منها،

ويخدم وصاياها.

ج تضعُ عليه إكليلاً أبديٌّا،

ونصر الأبد مع القدّيسين.

د يَفرحُ بها وتفرحُ به،

ولا تهملُه إلى أبد الأبدين.

هـ ملائكة ا؟ يفرحون بها،

ويُعلنون كلّ تسابيح الربّ.

و هذا كتاب، امتلأ كلُّه حياة،

طوبى للرجل الذي يسمع ويعمل به.

ز إسمعوا لي، يا خائفي إله،

وأصغوا، وتبيّنوا أقوالي.

ح من يريدُ أن يرث الحياة،

ميراثًا إلى الأبد وفرحًا كبيرًا؟

ط إسمَعْ كلَّ أقوالي واعمل (بها)،

فتُكتَب في سفر الحياة.

ي أحبب مخافة الربّ

وثبّتْ فيها قلبَك ولا تخف.

ك إقتربْ منها ولا تتردّد

فتجد الحياة لروحك.

ل وحين تقترب (منها)

تكون كالجبّار والمقتدر.

هذا النصّ هو أطول إضافة عرفها ابن سيراخ في النسخة الثانية. وهم مهمّ لأنّه يقدّم أفكارًا جديدة حول الآخرة. تطلّع ابنُ سيراخ وحفيدُه إلى حياة طويلة تكون بركة. وأكّدت هذه الإضافة أنّ البارّ ينال جزاءه بعد الموت. جهل اليونانيّ واللاتينيّ هذا النصّ، ولكنّه يبدو أصيلاً في العبرانيّ. وهو يُقسَم قسمين.

الأوّل (آ أ - و) هو تطويبة، تهنئة بالسعادة. وجَّه الكاتب تهانيَه لمن تعلّق بالحكمة، ومارس ما تفرضه، لأنّه سيُعتَبر إلى الأبد بارٌّا بين القدّيسين. أي بين الملائكة الذين يكوّنون حاشية الربّ في السماء. من تعلّق بالحكمة عاش معها في علاقة، من الفرح والبهجة يشاركُ فيها الملائكة منذ الآن، ويسبّحون الربّ. طوِّب تطويبًا أبديٌّا، من تهمّه الحكمة، لأنّ الحياة التي تعد بها، لا تنتهي إلاّ في الحياة التي وراء الموت.

في القسم الثاني (آ ز - ل)، توجّه الكاتب إلى من يخاف الربّ، فحثّه أن يُحبّ هذه المخافة وأن يتعلّق بها. ما هو جديد هنا، هو أنّ مخافة الربّ، موضوع نداءات ملحّة، تمنحُ الحياة الأبديّة ميراثًا لمن يقترب منها برجولة وعزم، لأنّه يُسجَّلُ في سفر الحياة: في هذا »السفر« يسجِّل ا؟ أعمال البشر الصالحة، يمنح الأبرار الجزاء في الآخرة (مز 69:19؛ دا 12:1؛ لو 10:20؛ رؤ 3:5؛ 20:22 - 15).

وهكذا نرى أنّ هذه الإضافة تندرج اندراجًا في سياق 1:1 - 10 ثمّ 1:11 - 20. فالموضوع دومًا هو موضوع الحكمة ومخافة الربّ. أراد المضيفُ أن يفتح منظارًا جديدًا لم يعرفه ابنُ سيراخ ولا حفيده. وهكذا أعطى فكرة هامّة عن هذه البركة التي حصراها في حياة طويلة على الأرض. وإذ تشدّد، في القسمين، على ضرورة الاقتراب من الحكمة ومن مخافة الربّ، وجدت هذه الإضافة موضعها في بداية الكتاب.

في اليونانيّ واللاتينيّ جاءت إضافات قصيرة في الخطّ عينه. مثلاً، 19:19 (يونانيّ).

معرفةُ وصايا الربّ تأديبُ حياة،

والعامل بما يرضيه يأكل من شجرة الخلود.

قرأنا هنا تلميحًا إلى تك 2:9. وفي سي 24:31 نقرأ عبارة يجب أن تأتي بعد 24:22 (يونانيّ):

من يسيرُ في ضوئي ينال الحياة الأبديّة.

أشارت هذه العبارة إلى معلّم الحكمة وإلى دا 12:13 (ويضيء العقلاء). ما يميّز هذه الإضافات هو أنّها لا تتحدّث حديثًا صريحًا عن القيامة ولا عن الخلود الشخصيّ. بل عن الحياة، السعادة بعد الموت. أمّا الخطأة فينالون عقابهم بعد الموت أيضًا.

خاتمة

ذاك كان تأمّلنا في بداية الطريق مع ابن سيراخ. كلمتان هامّتان عنده كما عند كلّ كتّاب الحكمة. الحكمة هي بحث عن السعادة. هي محاولة للتحكّم بالأمور حتّى تكون لخيرنا ولخير الذين حولنا. وهذه الحكمة ليست أوّلاً من نتاج البشر. بل هي عطيّة من عند ا؟. ونحن ننالها إن جعلنا نفوسنا سامعين لكلامه، عاملين مشيئته. هذا ما تتضمّنه المخافة التي لا تسمح للإنسان بأن يستند إلى نفسه فيحسب حاله في أمان، بل تدعوه إلى الاتّكال على ا؟، وانتظار كلّ شيء من لدنه. فمن كانت عينه على يد سيّده، لا يمكن إلاّ أن ينال منه كلّ خير. وأي خير أعظم من عطيّة الحكمة. وهكذا سارت الحكمة مع المخافة، وارتبطت المخافة بالحكمة على أنّها رأس كلّ حكمة، لأنّها عاطفة تربطنا مباشرة با؟.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM