الفصل الخامس والثلاثون: مديح الآباء الأوّلين.

 

الفصل الخامس والثلاثون

مديح الآباء الأوّلين (44: 1 - 23)

1- المقدّمة

الإله الذي يعبده شعب إسرائيل هو نفسه الإله الواحد الحقيقيّ، خالق الكون. وبعد أنّ تأمّل ابن سيراخ في التسامي الإلهيّ الذي يكشفه العالمُ الطبيعيّ، أنشد عظمةَ الله وسيادته كما تُكشفان في تاريخ الشعب المختار. وإذ امتدح الآباء منذ أخنوخ إلى سمعان عظيم الكهنة في أيّامه، وجّه مديحه إلى الله ذاته الذي بيّن حبَّه وعنايته لهؤلاء المؤمنين الذين أقامت فيهم حكمته (ف 24)، وحيث اختار عددًا من الرجال الفضلاء.

هذه الخاتمة الطويلة التي تتكيّف مع هدف الكتاب، تشكّل لوحات مأخوذة من التاريخ المقدّس، التي عُرضت لتثبّت المؤمنين المعاصرين في الاعتقاد وتدعوهم إلى الشجاعة. فإن وجب على تلميذ ابن سيراخ أن يحفظ تعليم الحكمة الذي أعطي له، ويتعمّق فيه، فلا شيء يمكنه أن يحرّك فيه بشكل فاعل إيمانه بالإله الواحد وفضيلته، مثل إيمان آبائه الملموس الذين امتلكوا الحكمة إلى درجة كبيرة.

إنّ التربية المنطلقة »الأمثلة« المأخوذة من التاريخ المقدّس، صارت معروفة منذ زمن المنفى (587 ق.م.). رج حز 20؛ نح 9: 6ي؛ مز 78؛ 105؛ 106؛ 135؛ 136؛ يه 5؛ حك 10؛ 1 مك 2: 51 - 60؛ عب 11؛ يع 5: 11؛ أع 7. وفي عالم اليونان والرومان جاء المثالُ المأخوذ من التاريخ برهانًا عن طرح يقدّمه الخطيب أو الكاتب. غير أنّ ابن سيراخ ما رسم تاريخ شعب إسرائيل. بل اهتمّ فقط بالأشخاص المعروفين مع توطئة (44: 1 - 15) تدلّ عليهم: هم ملوك ورؤساء ومعلّمون وموسيقيّون وأشخاص بسطاء. وتعداد الأبطال مع ذكر خاصّ لموسى وهارون ويشوع وصموئيل وإيليّا وأليشع، ينتهي بمجدلة (50: 22 - 24): »والآن، باركوا الربّ إله الكون الذي يعمل الأعمال العظيمة في كلّ مكان«.

على المستوى الأدبي، تبدو هذه المتتالية بشكل قصيدة متكاملة، مقسومة إلى أبيات، مع تذكّرات بيبليّة. كلّ هذا يشهد على اهتمام ابن سيراخ بالأسفار المقدّسة. من عرف هذه المدائح، دخل في الكتاب المقدّس.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 1 - 15. هنا يبدأ تأمّل حول ماضي الشعب، والدروس التي نستخلصها. هو موقف معروف في أدب الأنبياء. ونحن نجد في العبريّ واليونانيّ العنوان: مديح الآباء. ما يميّز هؤلاء الآباء هو الحكمة والتقوى (43:33). وما يورد الكاتب ليس تاريخ العهد، بل تاريخ الحكمة في قلب شعب الله. نحن نقرأ في 1 مك 2: 51ي: »تذكّروا أعمال آبائنا واقتدوا بها تنالوا مجدًا عظيمًا واسمًا باقيًا مع الزمن. تذكّروا إبراهيم. جربّه الله. فلمّا وجده مؤمنًا به، برّره لإيمانه. تذكّروا يوسف في ضيقه: حافظ على إيمانه بوصايا الله، فجعله الله سيّدًا على مصر. تذكّروا فنحاس، يشوع، كالب، داود، إيليّا، حننيا وعزريا ودانيال. وهكذا ترون أنّ الغلبة في جميع الأجيال كانت للذين توكّلوا على الله«.

آ 1. المشاهير. في العبريّة: الرجال الطيّبين (آ 10). هم الأتقياء (43: 33)، الحسيديم (1 مك 2:42؛ 7: 13، الغيورين). هؤلاء الناس الغيورون على الشريعة هم أسلاف الفريّسيّين والإسيانيّين. الذين سبقونا. أو: آبائنا بالولادة. في العبريّ: آبائنا في أجيالنا.

آ 2. في العبريّ: وافرةٌ في المجد حصّةُ العليّ، عظمته منذ الأزل. ظهر هذا المجد وهذه العظمة في أبطال فاضلين. يبدو أنّ آ 2 - 9 تتطلّع إلى وثنيّين ذاع صيتُهم فذكرهم الناس. ولكن يبقى أبطالُ الشعب المقدّس متفوّقين عليهم.

آ 3. أسيادًا في طريقة حكمهم.

آ 4. يخاطبون أهلها. هم الكتبة (ماهرون في الكلام بفضل تربيتهم، العبريّ). سواء كانوا في أرض فلسطين أم في مصر وبلاد الرافدين. أضاف العبريّ شطرًا رابعًا: حكّام في وظائفهم.

آ 10. أعمالهم الصالحة. هم رجال خير. رجال طيّبون، رج آ 1. هي أعمال البرّ، الأعمال التي تفرضها الشريعة فتمنح المؤمن وتمنحه.

آ 11أ. في العبريّ: ما أملوا به لا يزول.

آ 15. الشعوب يحدّثون. نلاحظ نظرة التحوّل في النصّ اليونانيّ. في العبريّ: الجماعة تردّد حكمتهم.

آ 16. سيُذكر أخنوخ في 49: 14. أمّا هنا فأضيف الاسم باكرًا، ودليلنا إلى ذلك وجوده في المخطوطات اليونانيّة. رج تك 5: 24: »وسلك أخنوخ مع الله، ثمّ توارى لأنّ الله أخذه« (العبريّ). في اليونانيّ: »أرضى أخنوخ الله، وما وُجد، لأنّ الله نقله«. تبعَت عب 11:5 النصّ اليونانيّ. إلى أين أُخِذ أخنوخ؟ قال الشرّاح: قرب الله. في الفردوس الأرضيّ. في اليمبس. أمّا الخبر فيدعونا إلى التحفّظ. ومهما يكن من أمر، فأخنوخ صار، في زمن ابن سيراخ، في الأدب الجليانيّ، خليلَ الله وكاشف أسراره. كان مثلاً. حسب العبريّ: معجزة علم، علامة علم (يوب10: 17: شهادة للأجيال). في الأدب الجليانيّ، أخنوخ استنبط الكتابة وعلم النجوم (يوب 4: 17). وعرف الأسرار الطبيعيّ والعلويّة. قال اللاتينيّ، ليحمل التوبة إلى الأمم.

آ 17. في زمن الغضب. العبريّ: حين دُمِّر كلّ شيء. صار جذعًا منه انطلقت البشريّة الجديدة. في آ 7د: وبالعهد معه توقّف الطوفان (18)، وبعلامة دائمة ضُمّ معه. هذه العلامة هي قوس قزح (يوب 6: 10 مع تلميح إلى تك 9:9 - 17).

آ 19ب. في العبريّ: ما وُجد عيبٌ في مجده.

آ 20ج. العهد. حين خُتِن (تك 17: 24)، قبِلَ العهد الذي قطعه الله معه (تك 17: 10).

آ 21د. السريانيّ: يجعل نسلَه يسود الأمم. نحن هنا في أكثر من تفوّق عدديّ. من البحر (المتوسّط) إلى البحر (الميت) ومن النهر (الفرات) إلى أقاصي الأرض. رج مز 72: 8؛ زك 9: 10؛ رج تك 22: 17.

آ 22ب. العبريّ: وأعطى إسحق ابنًا. قرأ اليونانيّ »ك ن« العبريّ: هكذا. أمّا الأصل العبريّ فهو: ب ن: ابن. آ 22 ج. العبريّ: جعله عهدًا لكلّ أوّل، لكلّ سلف.

3 - شرح الآيات (44: 1 - 23)

أ - المطلع (44: 1 - 15)

نشاطات الرجال العظام وأوضاعهم الاجتماعيّة. إقتنوا اسمًا لا مثيل له (آ 10 - 11). وهيّأت آ 12 - 15 مديحَ الذين سوف نحتفل بهم ونذكر أسماءهم.

أعلن ابن سيراخ (آ 1 - 2) ما سوف يقول. ح س د: التقوى، الديانة، الأمانة لله ولشريعته (أش 57: 1؛ هو 6:6). الآباء هم الأسلاف العظام الذين خرج منهم معاصرو ابن سيراخ. كانوا عظامًا »في أجيالهم« كما قال العبريّ. مجدُهم هو من الله (آ 2، العبريّ). وكما أنّ الخالق هو علّة معجزات الطبيعة، كذلك أقام هؤلاء الرجال المعروفين ليدلّ على مجده وعظمته »منذ أيّام الماضي« (العبريّ؛ رج لو 1: 70).

ويعدّ ابن سيراخ (آ 3 - 6)، حسب العبريّ 12 فئة (44: 13 - 17؛ 50: 6 - 10) من الرجال الذين بهم عملَ الله عجائبَ منذ البدء: سادوا الأرض بسلطانهم الملكيّ (العبريّ) اقتنوا صيّتًا بقدرتهم، مثل داود وسليمان. أنبياء ومستشارو الملك، مثل أليشع وأشعيا. أشارت آ 4 إلى يوسف مع فرعون، أو زربّابل ونحميا. هم رؤساء الأمم بفطنتهم (السياسيّة) والحاكمون بتفكيرهم العميق. في اليونانيّ، تشير آ 4 إلى الكتبة ومعلّمي الشريعة، قوّاد الشعب، بعلمهم وتعليمهم. وتشير آ 5 إلى الشعراء الموسيقيّين (داود) وعلماء الأخلاق. ألّفوا مزامير حسب قاعدة الشعر (العبريّ) مع آلات الموسيقى (2 أخ 7: 6؛ 35: 15؛ نح 12: 35). وتذكر آ 6 أيّوب الذي أقام في بيته (بارويكيا) بسلام. رج 41: 5.

كلّ هؤلاء الناس العارفين والفاضلين أُكرموا وهم أحياء (العبريّ)، وأنشدهم معاصروهم (آ 7 - 15). ولكن لم يكن لهم مصير واحد في التاريخ. فذكرى بعضهم ما زالت حيّة بحيث تقدر الأجيال اللاحقة أن تمدحهم (آ 8). ولكنّ آخرين لم يتركوا ذكرى لهم. لسنا أمام وثنيّين ولا أشرار مثل ملوك الشمال الذين لم ينتقل اسمهم إلى الخلف، مقابل حكماء إسرائيل، بل أمام فئتين من الرجال الذين مجدّهم معاصروهم (آ 7). بعضهم سقطوا في عالم النسيان (آ 9)، وآخرون تركوا اسمًا لا يُمَّحى (آ 8). فإلى أشهرهم كرّس ابن سيراخ مديحه: كانوا رجال خير (ح س د، آ 10، الإيوس). ولبثوا أحياء في امتداح فضائلهم واستحقاقاتهم لدى الأحفاد (آ 11) الذين ورثوا تقواهم (آ 12). وظلّوا أمناء لعهود قطعها الآباء مع الربّ (آ 17 - 18؛ 20: 45، 15، 24، 25). ماتوا ودُفنوا في سلام (تك 15:15؛ حك 3:3). وخلد اسمُهم عبر العصور وسط الأمم، كما في وسط شعب المؤمنين (39: 9 - 10).

ب - أخنوخ ونوح (44: 16 - 18)

نلاحظ المركز المرموق لأخنوخ (آ 16). هو أشهر من وُلد من شيت، ووَلد متوشالح. أرضى الله. سلك مع الله، فأخذه الله. نقله. وأضافت الشعبيّة اللاتينيّة: إلى الفردوس. وقال يوسيفوس (العاديّات 1/3: 4): نُقل إلى الله. أخنوخ أعطى مثالاً عن التوبة. هذا لا يعني كما قال فيلون (في حياة إبراهيم 17) أنّ حياة أخنوخ السابقة كانت في الخطيئة فوجب عليه أن يتوب. قال العبريّ: علامة معرفة. في اليونانيّ: ماتانويا: توبة. ولكن أفضل: ديانويا. فهم القبطيّ: إبينويا، تفكير. ولكن نقدر أنّ نفهم »ماتانويا« بشكل تبديل رأي وعواطف.

في أخنوخ تعليم (العبريّ، ا و ت. د ع ت) للأجيال الآتية. مثال ونموذج لمعرفة الله (كما كان إبراهيم نموذجًا لبركة نالها من الله). هنا نشير إلى أنّ الشعبيّة تطلّعت إلى عودة أخنوخ ليكرز بالتوبة للأمم. رج يهو 14. إيريناوس، ردّ على الهراطقة 5/5: 1؛ ترتليانس، النفس 50؛ إيرونيموس، الرسالة 59: 3. والأدب الجليانيّ (ولا سيّما كتاب أخنوخ) يرى في أخنوخ نموذج الحكمة والتقوى، وصديق الله وخليله، وكاشف الأسرار التي أوكله الله بها. ونتذكّر أنّ النموذج الأوّل البابليّ لأخنوخ هو إنمادورنكي، الملك السابع في حقبة قبل الطوفان: كشف المعرفة المخفيّة. هو الماهر. يقف قرب العرش ويلعب دور المتشفّع المصالح بالنسبة إلى شعب إسرائيل.

في هذا السياق الإخباريّ والأدبيّ (ابن سيراخ معاصر لأخنوخ) تكوّن اعتقادٌ بعودة أخنوخ، التي تسبق المجيء المجيد للمسيح، كما كان يوحنّا المعمدانُ السابقَ في مجيء المسيح الأوّل. وماهى تقليدٌ تفسيريّ امتدّ حتّى القرون الوسطى الشاهدين (رؤ 11: 3) مع إيليّا وأخنوخ اللذين يظهران في نهاية العالم.

أمّا نوح (آ 17) فكان بارٌّا وتامٌّا حين أراد غضبُ الله أن يعاقب البشر، بالطوفان. هو هنا من أجل الحوار والمصالحة مع العالم الخاطئ. وقد يكون المجدّد الذي منه تخرج فروع جديدة. معه بدأ تجديد البشريّة. معه بقيت بقيّة (ش ا ر ي ت، كاتالايما) عفا عنها عقابُ الله. نوح، هو، في شكل من الأشكال، مخلّص البشريّة. ولولاه لفنيَتْ كلّها. لهذا يقول 2 أخن (106: 18) إنّ نوحًا يعود إلى فعل »ن و ح« أي بقي حيٌّا. وأخيرًا عقد الله معه عهدًا بعلامة أبديّة (العبريّ، 43: 11؛ تك 19: 12 - 17).

ج - إبراهيم وإسحق ويعقوب (44: 19 - 23)

إسم إبراهيم (آ 19 - 21) يعني أبا جمهور أمم (تك 17:4، 5). تفوّق على الجميع بالمجد الذي ناله. أبرام: الأب رفيع. توقّف المعلّمون عند مقال ابن سيراخ: »حفظ شريعة العليّ« (آ 20). يمكن أن تكون هذه الشريعةُ الشريعة الموسويّة التي وصلت إلى إبراهيم في وحي استبق موسى. قال بعضهم: خلال رؤية تك 15: 12 - 17، رأت عيناه تاريخ نسله وفرحَ فرح الشريعة (براشيت ربه 41). هذه الشريعة التي عُرفت بطريقة عجيبة، حفظها إبراهيم. ونال المجد الذي ينعم به الآن، لا بنعمة من الله، بل باستحقاق أعماله. والبركة التي كانت معدّة للأمم (تك 12: 3؛ 18:18)، حُفظت لشعبه. لهذا شدّد العهد الجديد على شموليّة النعمة التي وُعد بها الآباء. وعلامة العهد كانت الختان. والمحنة التي لبث فيها إبراهيم أمينًا للربّ، هي ذبيحة إسحق، ابن الوعد. تلك كانت ذروة الإيمان عنده. لهذا وعده الله المواعيد المسيحانيّة وأقسم له (آ 21؛ تك 22: 16 - 18؛ غل 3: 8).

كانت كلمة سريعة عن إسحق (آ 22). ثبّت الله له المواعيد التي أعطاها لإبراهيم، واستبعد إسماعيل. به انتقلت البركة إلى يعقوب (آ 23). هنا نكون أمام »البركة« (ب ر ك هـ) أو »البكر« (ب ك ر هـ). فقد يكون هو البكر (عبريّ، خر 4: 22؛ تث 21: 17) الذي ورث أرض الموعد وقسّمها بين أبنائه (تك 49: 1 - 27).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM