الفصل 33: معرفة الله في العالم المنظور

معرفة الله في العالم المنظور

وسط تأمّل حول عمل الحكمة في تاريخ شعب اسرائيل (ف 10 - 19)، اندرج ملحقٌ يعالج مختلفَ ضلالات العالم الوثنيّ. وجاءت مقطوعة أولى ترذل تأليهَ قوى الطبيعة، كما ترفض عبادةَ الكواكب (13:1 - 9). هو نصّ موجز سنجد توسعًا له دقيقًا. وهو غامض، لأن العقل لم يصلْ بعد إلى مسائل يجب أن تُطرح. ونحن نفهمه في إطار بيبليّ لا يحتاج فيه المؤمن أن يطرح سؤالاً فيصله الجواب. كما نفهمه محاولة من الفكر اليونانيّ لتبيان وجود الله تجاه النفي والشكوك والارتياب. نحن لا ننسى أن حك يقف عند ملتقى حضارتين: العالم اليهوديّ الذي يريد أن يُقنعه بالمعنى الذي عنده في التوراة. والعالم اليونانيّ الذي يبرهن له عن وجود ا: فالحكيم يهاجم أولئك الذين يرون في عالم الكواكب وفي عناصر الكون، آلهة تُعبَد. نحن لسنا أمام ملحدين يرفضون الله. بل هم يطلبونه، يبحثون عنه، ويرغبون بأن يلتقوا به. تصوّروه قوّة تسوس الكون سياسة سامية. فأراد الحكيم أن يصحّح نظرتهم، لا أن يجعلهم يكتشفون واقعًا جهلوه أو أنكروه.

نتوقّف هنا عند أربع محطات: عبادة قوى الطبيعة. من الخليقة إلى الخالق. ضلال خاطئ. معرفة العالم تقود إلى الاله الحق.

1 - عبادة قوى الطبيعة

إن الحرب على الضلالات الوثنيّة (ف 13 - 15) تتوزّع في ثلاثة مقاطع تتعلّق، على التوالي، بعبادة القوى الكونيّة (013:1 - 9)، بعبادة الأصنام (13:10 - 15:13)، بعبادة حيوانات حيّة تُضاف إلى عبادة الأصنام (15:14 - 19). يرجع هذا التعداد إلى نصوص بيبليّة سابقة. فإرميا يعدّد في خطبة طويلة، جميعَ الآلهة الكاذبة التي تعبّد لها معاصروه: بعل (7:9). ملكة السماء (7:18. في السبعينية، جيش السماء). الآلهة الغريبة (7:6، 9 - 18). أرجاس (أصنام) لا تُذكر أسماؤها (7:30). الشمس والقمر وكل جند السماء (9:2) ونُقل حزقيال (وهو العائش في بابل) إلى الهيكل، فرأى في الهيكل صنمًا يُثير غيرة الربّ، ثم نقشًا جداريًا يمثل الزحّافات، تلك الحيوانات الكريهة، والأصنام. كما رأى نساء يبكين تموز، وعابدين للشمس (حز 8:3 - 18). نتذكر هنا التوازي بين حك وحز. في حك 1:13 وفي حز 18:32: الله لا يريد موت الخاطئ. في حك 4:4 - 5 وحز 17:9 - 10: كرمة لا نفع منها اقتلعتها الريح. في حك 5:8 وحز 16:49: خطيئةُ الكبرياء وطلبُ الملذات بدون حدود. في حك 11:26 وحز 18:4: كل النفوس هي ...

ونتوقّف عند القطعة التي تنتقد قوى الطبيعة.

أ - هم حمقى (13:1)

إن الذين تعلقوا بديانة تتعبّد لعناصر الكون هم حمقى. عملُهم »باطل«. هذا اللفظ يُوجز اعتبارات الحكماء حول الطابع السطحيّ للعقل البشريّ. وقد اختاره الكاتب أيضًا لأن الأصنام والآلهة الوثنيّة تسمّى كذلك في العبريّة (هـ ب ل، الدخان) وفي اليونانيّة (ماتايون). قبل المنفى، أخذ شعبُ اسرائيل يتبع الباطل فصار هو باطلاً (2 مل 17:15؛ إر 2:5). وهكذا صار العابدُ شبيهًا بالاله الكاذب الذي يعبد (مز 115:8). وطبّق الحكيم على الوثنيين الغرباء ما قاله سابقوه عن عبّاد الأصنام بشكل عام (أش 44:9 حسب السبعينيّة)، كما طبّقه على أبناء شعبه الذين سحرتهم الآلهةُ الآتية من الخارج.

وسببُ هذا الباطل هو جهل الله. سبق الكتاب واتّهم الأمم الوثنيّة بالجهل (إر 10:25؛ مز 79:6). فعابدو القوى الطبيعيّة ما استطاعوا أن يعرفوا الإله الذي هو (13:1)، انطلاقًا من الكائنات المتطورة التي رآها الله حسنة، جميلة (تك 1:27). دُعي الله هنا باسمٍ له رنّة فلسفيّة نجدها عند فيلون، فيلسوف الاسكندريّة. أورده تسعين مرة في مؤلفاته. وكان أفلاطون قد ميّز بين »الذي هو« (ثابت، قائم في ذاته) وبين »الذي يعبر« (بعد أن لم يكن). هو اسم الفاعل »هون« (الكائن). اسم الفاعل في المذكّر، في حك وعند فيلون. لا في صيغة الحياد كما عند الفلاسفة اليونان، وكأنه فكرة لا شخص حيّ. هذا اللفظ ينطبق على إله شخصي، لا على كائن مجرَّد لا وجه له. هو ترجمة السبعينيّة للاسم الإلهيّ »يهوه« كما في خر 3:14. وهي ترجمة صارت قاعدة يهود الاسكندريّة، ونحن نجدها في نصّ إرميا اليونانيّ (1:6؛ 4:10؛ 14:13).

ويتميّز الله أيضًا بأنه صانعٌ صنع الكون. هو »تكنيتيس« (تقنيّ) كما يقول أهل اليونان. ولا تنطبق هذه الصفة على الربّ إلاّ في هذا الموضع من السبعينيّة. غير أن الفكرة ليست غريبة عن البيبليا. فالسماء والكواكب والأرض هي عمل يدي الله (مز 8:4؛ 19:2؛ 95:5؛ 102:26؛ أش 45:12)، وكذلك قوس قزح (سي 43:12). الربُّ وضع علالي مسكنه السماوي (مز 104:3). هو أبو اسرائيل وجابله (يش 64:7؛ رج أش 29:16؛ 43:1؛ 45:9 - 11؛ 18:4 - 6؛ سي 33:13) وابو البشريّة (تك 2:7). بنى المرأة (تك 2:22)، ونسج الولد في حشا أمّه (مز 139:13 - 15. ألغت السبعينيّة الصورة؛ رج أي 10:9 - 11؛ 2 مك 7:22). زيّن بحكمته أعماله العظيمة (سي 42:11). وفي عدد من هذه النصوص، نرى إعجاب المؤمن أمام الجمال الذي حقّقه الصانعُ الإلهيّ. وقد قدّم الحكيم تعبيرًا عامًا ومجرّدًا لفكر ألهم سابقيه. وما دفعه إلى ذلك هو اتّصالُه بالعالم اليونانيّ. ثم هو ترجم فكرة بيبليّة بواسطة لفظ جديد: العناية (برونويا) (14:3).

2 - ظنوا النار... أنها آلهة (13:2)

إن تاليه عناصر الكون وقواه بتأثيرها على الأرض، ولا سيّما الكواكب، هو رجس على مستوى الديانة عرفه العهد القديم. فقبْلَ المنفى، كانت عبادة الشمس والقمر وجندُ السماء تجربة اسرائيل وخطيئته، حين اقتدى بالشعوب الغريبة (تث 4:19؛ 17:3؛ 2 مل 17:16؛ 21:5؛ إر 8:2؛ 19:13؛ صف 1:5؛ أي 31:26). هذه العبادة الفاسدة ما زالت حاضرة لدى الوثنيّين. فلدى المصريين واليونان، كانت الآلهة المختلفة تشخيصًا للكواكب وعناصر الطبيعة وقواها، العاملة في الكون. حاولت الفلسفة الرواقيّة أن تقدِّم تفسيرًا عقلانيٌّا للأخبار الميتولوجيّة، على أنها استعارات تتضمّن تعليمًا حول ترتيب الكون. وغرقت الديانة الشعبيّة المصريّة في الاسترولوجيا وعلم الكواكب.

لمَّح الحكيم بشكل عام إلى هذه التيّارات المختلفة، ولكنه تجنّب ألفاظًا فلسفيّة دقيقة. امتزجت معطيات بيبليّة بما عرف الكاتب من نظرات فلسفيّة ودينيّة انتشرت لدى معاصريه، فأشار إلى »المياه الجامحة« بين الآلهة الكاذبة التي ولّدها الباطلُ البشريّ. وقد يكون تذكّر السطرة البابليّة التي جعلت من البحر الأولاني (تيامات) إلهًا قهره مردوك، الإله الشاب. أو سطرة أوغاريت (راس شمرا) حول الصراع بين بعل والبحر (ي م، اليّم في العربية). وصل صدى كلِّ هذا إلى البيبليّا، فنزع المؤمنون في اسرائيل السطر عنها: صار البحرُ تجمّع مياه تقيم فيه التنانين التي خلقها الله (تك 1:10، 21). والنار والرياح التي أوردها الحكيم في تعداده، صارت خادمات تسبق الربّ أو ترافقه (1 مل 19:11 - 12؛ مز 18:9 - 13؛ 50:3؛ 97:3؛ 104:3 - 6؛ با 6:60 - 61).

لا شك في أن هذه النصوص البيبليّة لا تكفي لكي تعرفّنا إلى الأصل الوثنيّ في المواضيع التي يستغلّها حك، بحيث يرى فيها القارئ مجرّدَ استعارات شعريّة، أو كلامًا حرفيًا عن تكوين الكون (كوسموغونيا). وقد يكون الحكيم عرف السطر اليونانيّة. أمّا التصحيح الأساسيّ الذي قام به الكاتبُ الملهم، فهو حين جعل من آلهة الشواش خدّامًا يطيعون الربّ وحده. وجاء كتّاب متأخّرون، فقدّموا للشعب اليونانيّ عرضًا حول الكوسموغونيا البابلونيّة أو الميتولوجيا الفينيقيّة. وأوجز بيروسيوس، في القرن الثالث ق.م.، صراعَ بال، الاله البابليّ، مع تيامات، وتكوين السماء والأرض مع جزئي الوحش الذي قُطع اثنين. وجمع سنخونياتون الفينيقي عدة معطيات في شعبه، أكّدتها اكتشافاتُ راس شمرا. وصل كلامه إلينا بواسطة أوسابيوس القيصريّ، فامتزج بعدد من الأمور أخذت من الميتولوجيا اليونانيّة.

لن نقوم بفرز هذه المعطيات وتقديرها حقّ قدرها. بل نكتفي بتلميح سريع إليها، لكي نفهم أن الحكيم لم ينحصر في ما عرفه من النظريّات الرواقيّة، بل عرف وجهات دينيّة وثنيّة أخرى، فتوجّه نظرُه إلى تصحيحات قام بها الكاتب الملهم.

نجد تعدادًا لقوى الطبيعة، قريبًا ممّا في حك 13:2، في رسالة إرميا (أو با 6). فهذا المقال يهاجم عبدة الأوثان، لا تأليه عناصر الكون. غير أنه قدّم عددًا من الألفاظ والأفكار التي تلتقي وهذا المقطع الذي فيه ينتقد الحكيم عبادة الأصنام، والنظرات إلى الديانات الكونيّة. فالشمس والقمر والنجوم والبرق والريح والسحب والنار، هي خادمة تخضع  (با 6:59 - 61). هي طريقة أخرى بها نقول إن الله سيّدها (حك 13:3). هذه الكائنات ساطعة، وهي جميلة المنظر. إنها تتجاوز الأصنام بشكلها وعظمتها (با 6:62؛ حك 13:3 - 4).

وإن يكن الحكيم قد نال معلومات صالحة عن التيّارات الدينيّة في الوثنيّة المعاصرة، فقد لعبت الكتابات البيبليّة دورها لتلفت انتباهه إلى انحرافات دينيّة مماثلة وقديمة، ولتلهم اختياره للمعطيات التي أوردها.

3 - من الخليقة إلى الخالق (13:3 - 4)

إن جمال الكائنات المنظورة وعظمتها، هما بالنسبة إلى الحكيم، وسيلة بها نعرف الخالق، وهو يتفوّق عليها بما لا قياس له. فامتداحُ قدرة الله يتواتر في البيبليا، ولن نتوقّف للكلام عنه. وهناك من ينسب إلى تأثير يونانيّ، الإشارةَ إلى الجمال كما في الله 3 - 5. في الواقع، ذكرت النصوص الإخباريّة في البيبليا جمال الأشخاص (تك 24:16؛ 1 صم 16:12؛ رج مز 45:3). وأنشد نشيد الأناشيد جمال الحبيبين، كما تضمّن وصفًا ساحرًا للطبيعة (نش 2:12 - 13؛ 7:12 - 14). وعاد الموضوعُ في مز 104 وفي مقاطع من ابن سيراخ (سي 24:13 - 17؛ 43:1 - 18) لكي يرفع المؤمنُ مديحَه إلى الله. وقدّمت رسالة إرميا بعضًا من هذا الكلام (با 6:59 - 62). ونشيد أيوب المملوء بعظمة الله وسرّه، توخّى أن يفهمنا تسامي الله الذي لا يحدّ، وفي الوقت عينه جعلنا نحسّ بجمال الكواكب (أي 31:26). وهكذا نستنتج أن فكر الحكيم توافق مع فكر اسرائيل القديم. وعملَ الفكرُ الفلسفيّ اليونانيّ، فمنحه تعبيرًا أكثر تجريدًا.

والحركة التي بها انتقل العقل من النظر إلى صفة نجدها عند الكائنات المنظورة، إلى التأكيد على صفة مشابهة، سامية، لدى الخالق، نجدها مرارًا في البيبليا. فثباتُ دورات النهار والسنة، يتيح لنا أن نتصوّر مكانة مخطط الله تجاه شعبه (إر 31:35 - 36؛ 33:20 - 21؛ صف 3:5). إذا كان البحر عجيبًا بعجيج أمواجه، فصوتُ الربّ اقوى (مز 93:4). ووسعُ السماوات يجعل الإنسان يَعي وُسع حكمة الله (أش 55:8 - 9؛ أي 11:8 - 9؛ سي 1:3). تبدو السماوات جامدة، لا تتحرك. ومع ذلك، فهي زائلة وا باقٍ (مز 102:27). وكثرةُ الرمل الذي لا يُحصى، على شاطئ البحر، تتجاوزه كثرةُ أفكار الله (مز 139:17 - 18)، إذا كنّا لا نقدر أن نفهم أفكار قلب الإنسان، فما تكون أفكار الله (يه 8:14؛ رج أم 25:2 - 3؛ 1 كور 2:12)، وحبُّ الله لشعبه يشبه حبّ الأم لاولادها (أش 49:15): هو ثابت ثبات الجبال (أش 54:10) ورفيع ارتفاع السماء في عظمتها (مز 103:11).

هذه النصوص المختلفة تقدِّم تشبيهًا موقتًا يتيح لنا أن نتحدّث عن واقع لا منظور. كما تُعمّق تعميقًا حقيقيٌّا، فكرةً كوّنها الإنسان عن الله، بعد أن رأى فيه الإله الحكيم القدير والصالح. وقدّم الحكيم بشكل »فلسفيّ« مسيرةً قام بها الفكر إلى الآن بشكل طوعيّ. »فبعظمة المخلوقات وجمالها، تُقاسُ عظمةُ الخالق« (13:5). إن الفعل »تيوراين« يعني، في اليونانيّة الكلاسيكيّة، أن نقيس شيئًا بآخر. مثلُ هذا المعنى يصح هنا في الحركة العامة داخل الآيات. لا يستبعد الحكيم »المشاهدة« ولا هو يشدّد عليها: بل نحن أمام نظرة إعجاب فيها الراحة والتنعّم الذي يحرّكه فينا الشيء الذي نتأمّله. ويرد لفظُ »أنالوغوس« في النصّ، فيطرح سؤالاً حول أصله الفلسفيّ. إنه أول استعمال نعرفه في كل الأدب اليونانيّ، بالنسبة إلى معرفة الله. لا مثَل آخر في السبعينيّة، ولا في العهد الجديد. في القرن الثاني ب.م.، ذكر ألبينوس الفيلسوف معرفة الله بالقياس، مع نهج بالنفي وآخر »بالاحرى«. غير أن أفلاطون سبق وأشار إلى بعض اعتبارات حول استعمال القياس خارج الرياضيّات. وفي النهاية استعمل لفظ »أنالوغيا« دون أن يطبّقه، بشكل صريح، على معرفة الله. ونجد أيضًا تعاليم متقاربة من هذا التعليم عند ارسطو والرواقيّين.

إذن، نستطيع أن نستنتج استنتاج اليقين أن الحكيم أخذ هذا اللفظ من اللغة العاديّة، فأعطاه معنى أدقّ من معنى غامض: وكذلك. هذا ما نكتشفه في السياق. وقد تكونُ وصلت إلى الكاتب معلومةٌ حول تعبير فلسفي يتعلّق بهذا النهج العقلانيّ. أما عمقُ فكره، فهو بيبليّ قبل أن يكون يونانيٌّا. غير أن الفلسفة منحته أداة كي يعبّر تعبيرًا دقيقًا وعامًا، عن مسيرة سارها كتّابُ العهد القديم.

إن لفظ »أنالوغيا« يقدّم عملاً فكريٌّا به ننتقل من الخليقة إلى الخالق. هذا ما يحسّ به القارئ العادي. هو يدلّ على »النسبة«. أما لفظ »بالقياس« فقد يبقى غامضًا إلاّ في الفكر الفلسفيّ. قد يضاهي فقط »كذلك« أو يفرض مجهودًا علميًا وغامضًا. أو هو يوجّه العارف بالمسائل الفلسفيّة إلى تفكير نظريّ حول نهج من نهوج المعرفة.

4 - ضلال خاطئ (13:6 - 9)

أوّلاً: هم لا يُلامون (آ 6 - 7)

ما بيّن الحكيم فقط أن هذه الكائنات المنظورة ليست آلهة، بل قدّم قولاً حول ما قاد بعضَ الوثنييّن إلى اعتبار بعض الخلائق آلهة: فالجمال والقدرة يجتذبان الاعجاب. وفي التكريم الذي يؤدّيه الإنسان لقوى تتجاوزه، هناك أمرٌ دينيّ، و »بحثُّ« عن الله، كما يقول العهدُ القديم. انطبق اللفظ أولاً على المؤمن الذي أراد أن يعرف مشيئة الله، فطلب قولاً علويًا أو سأل نبيًا. وانطبق ثانيًا على من يحاول أن يعمل بوعي، بحسب هذه المشيئة. فعابدو العناصر والكواكب كانوا في الخطّ المستقيم.

أنكون هنا أمام اعتراض حقيقيّ طرحه الكاتب على نفسه في رواح فكره ومجيئه؟ أيكون محاورٌ قطع تفكيره ليحرِّك تأكيدًا أقوى ليقين سبق الكاتبُ وعرفه. مهما يكن أمر، فالفكر لا يتوقّف عند نور قدّمه الإنسان.

ثانيًا: لا عذر لهم (آ 8 - 9)

وعبّر الكاتب عن فكره الأخير في تساؤل يُبقينا في بعض الحيرة. سنعود فيما بعد إلى هذ التساؤل. ولكننا نتكلّم قبل ذلك عن »أيون« (مسيرة أبديّة للأشياء) أي »طبيعة الكون«. رأى بعضُهم في هذا اللفظ إشارة إلى الإله »أيون« الذي عرفته الحقبة الهلنستيّة، إلى إله كوني يتماهى مع مجمل الخلائق الموجودة في الزمن كلّه وفي المدى. غير أننا نستصعب مثل هذا المعنى الدقيق في كتاب يتجنّب أسماء العلم: هو لا يتحدّث عن الآباء ولا عن موسى ولا عن شعب اسرائيل، ولا عن المصريين، ولا عن سليمان، إلاّ بعبارة واصفة. وهو ما أورد ألفاظًا تقنيّة رواقيّة لكي يعدّد العناصر المؤلّهة. فقد لا يكون هذا الإله »أيون« معروفًا لدى قراّء حك. أما اسم الجنس »ايون« فيدلّ في حك على العالم، ولا سيّما على البشر المقيمين في العالم (14:6؛ 18:4). ومع المكان، يدلّ على الزمان ومداه الطويل.

هناك نصّ في فيلون الاسكندرانيّ يُشبه حك 13:1 - 9، ويدعونا إلى أن نحافظ على معنى »عالم« في الله 9. ففي »الأحلام«، قابل الفيلسوف اليهوديّ الكون بقطعة قماش جميلة جدًا، جعلته يُعجب بالفنّان الذي نسجها. هو لا يرى من هذا العمل العظيم إلاّ جزءًا صغيرًا، وإن هو قال إنه يراه. ومع ذلك وانطلاقًا من هذا التفصيل الذي يظهر له، يستشفّ الكلّ بدقة بواسطة القياس (10:204). ليست الألفاظ هي هي لدى المفكرّين (فيلون، حك). عند فيلون: آيكازو، إلبيس (أمل، رجاء). في حك: ستوخَستاي، ولكن في الحالين، هو مفهوم الفرضيّة. فعلمُ الكون المنظور علمٌ صعب (9:16). ومع أنه يهتمّ بما يُرى، فهو لا ينحصر في مجموعةِ ما يمكن أن يلاحظ. فهو يتضمّن برهانًا يتجاوز الملاحظة المباشرة. فالمفكران بيّنا، بألفاظ مختلفة، أن هناك بعض اللايقين في البرهان. تأسّف الحكيم لأن الباحثين »الماهرين« عن عمل الله لم يتوصلوا، بقواهم العقليّة، إلى معرفة خالق الكون وسيّد كل جمال فيه.

وطُرح سؤال ثانٍ حول ما نحسبه نسيانًا مدهشًا ومخيّبًا: كيف أن الحكيم لم يقدّم، في نظرته إلى القوى الكونيّة، البرهانَ الذي سوف يستعمله ضد الأصنام المصنوعة؟ هذه المعتبرة آلهة، هي كائنات ميتة لا يمكنها أن تُعين عابديها. فأشياء ماديّة ولا حياة فيها، لا يمكنها أن تُعين الإنسان، ولا أن تعمل عملاً يميِّز الإله الحقيقيّ. هذا البرهان الذي قد يبدو في محلِّه في وقت سار فيه الإنسانُ على القمر، تلك الكتلة الماديّة القاحلة، لم يكن ينفع في محيط حضاريّ هو محيط العالم اليهودي الاسكندراني.

اعتبر الشعراء القدماء في اسرائيل، أن الكواكب كائناتٌ حيّة تستطيع أن تتخذ مبادرة السير والعمل (قض 5:20، 31؛ مز 19:6؛ 104:19؛ أي 38:7؛ نح 9:6؛ سي 43:1 - 5، 10؛ با 3:34). لقد صُوِّرت قوى الكون لخدّامٍ يقومون بالمهمة التي حدّدها الخالق لهم. في مز 148:2 - 8، نجد تقريبًا جميع العناصر المعدّدة في حك 13:2: جند السماء، الشمس، القمر، النجوم، المياه السماوية، اللجج، النار، الريح العاصفة. كل هذه الخلائق تنفّذ كلمةَ الله. جعلت السبعينيّة في صيغة الجميع الفعل العبريّ الذي هو في المفرد ويدلّ على »الريح العاصفة«: أراد النصّ أن يشرح الفكرة، فلم يكن عمله ابتعادًا عن الواقع. في سي 39:28 - 31، لم تُذكر الكواكب، بل الرياح والنار والبرَد والأوبئة والمجاعات والوحوش: كلّها خدام تقوم بوظيفتها، بدقّة، على الخطأة. في أش 40:26 وسي 16:26، تطيع الكواكبُ أوامر الله طاعة دقيقة. والبروق (أي 38:35) والنجوم (با 3:35) تجيب على نداء الرب: »ها نحن«. وتحدّث الحكيم عن كل هذا بشكل  مماثل (5:17 - 21؛ 16:21 - 25؛ 19:6). فالسماوات والأرض شاهدة لنواميس أعلنها الربّ وتعليمات أرسلها (تث 4:26؛ 30:10؛ 31:28؛ 32:1؛ أش 1:2؛ مي 6:1 - 2؛ مز 50:4).

من الواضح أن جند السماء هم مجموعة الكواكب، وهم أيضًا حاشية ملوكيّة تقف أمام الله مثل جوق خدّام يتشاور معهم ويجد بينهم من ينفّذ مقاصده (1 مل 22:19؛ 2 أخ 18:18). هي تعبد الله (نح 9:6؛ صلاة منسّى 15). والنجوم تُنشد، وبنو الله (صاروا في السبعينيّة، الملائكة) يهتفون في وقت الخلق (أي 38:7؛ رج با 3:34). إن جند السماء يخضع لدينونة الله وانتقامه، كما يخضع ملوك الأرض، الشمس والقمر (أش 24:21 - 23: تركت السبعينيّة الشمس والقمر، رج أش 34:5). والقديسون والسماوات هم غير انقياء أمام الله (أي 15:15؛ رج سي 17:32).

ولكن الله جعل جيشَ السماء موضوع عبادة للشعوب الغريبة. أما اسرائيل فهو شعبه الخاص (تث 4:19؛ رج إر 10:16؛ مز 74:1؛ 79:6، 13؛ 95:7؛ 100:3). حين ننطلق من تث 32:8، نفهم أن كلَّ عضو في الحاشية الالهيّة، كل واحد من أبناء الله (السبعينيّة: ملائكة ا) هو سيّد على شعب محدَّد. أما شعب اسرائيل فيتميّز بارتباطه بالربّ السامي، بدون وسيط (سي 17:14).

هذه النصوص التي أوردناها تجعلنا نستشفّ نظرات قديمة ترتبط بالميتولوجيا، من قريب أو بعيد: فالكواكب وقوى الطبيعة لا تتميّز بسهولة عن كائنات شخصيّة، عن خدّام أمناء ، أو عن متمرّدين ركعوا وخضعوا. فالايمان في شعب اسرائيل لم يهتمّ بتقديم المعطيات التقليديّة تقديمًا عقلانيٌّا. ونحن لا نقدر ان نميّز دومًا في النصوص الشعريّة، ما هو لجوءٌ إلى الصُوَر بما فيها من سحر، وما هو تعبير آني عن عالمٍ كلُّ شيء فيه حيّ. أما الكاتب الملهم فاهتمّ بأن يؤكّد أن لا شيء في السماء وعلى الأرض يُقابَل مع الرب، أو يعارضه فيكون فاعلاً في مقاومته. نجد أنه ما اهتمّ أن يميِّز بوضوح ما فيه نفس حيّة وما هو جامد لا حياة فيه.

4 - معرفة العالم تقود إلى الإله الحقّ

وما حاول الحكيم أيضًا أن يعقلن التمثّلات الغامضة التي وجدها في الكتب المقدسة، والتي تكون له معلّمًا ونموذجًا، والتي تجد ما يقابلها تقريبًا في الديانات الوثنيّة التي استطاع أن ينظر إليها بشكل مباشر، وهذا دون أن يقوم بالتصحيح الدقيق في المونوتاويّة، أو عبادة الله الواحد. ما يهمّه، هو أن يعيد إلى الاله الحقيقيّ العلم حول الكون المنظور. هو علم صعب، يتطلّب مجهودًا طويلاً (9:16). ولكنه علمٌ لا يُستهان به. طلب الحكيم هذا العلم في كل امتداده وتفرّعاته (7:17 - 20)، ولكنه اعتبر أن الحكمة وحدها التي يمنحها الله، تؤمّن له (= العالم) ملء الحقيقة، وتحفظه من الضلال (7:17: علم بدون كذب). والضلال الأكثر إساءة يكون في أن نهتمّ بدراسة الأشياء المنظورة، وننسى الهدف الاسمى للحياة البشريّة، الذي هو صداقة الله (7:14، 27) ومحبّته.

وهكذا توقّف نقدُ الديانة الكونيّة عند نظرة إلى السوابق البيبليّة. ما حاول الكاتبُ أن يوصل إلى قوى الطبيعة، البرهانَ الذي سوف يتوسّع فيه في هجومه على أصنام صنعتها اليدُ البشريّة، وذلك في خطّ التقليد النبويّ (حك 13:11 - 19؛ 15:7 - 12؛ رج أش 44:9 - 20). ما أراد الحكيم أن يؤ كّد طبيعة الكواكب والعناصر، إن كانت حيّة أم لا، فاكتفى بأن يشير إلى الهدف الدينيّ الذي يجب أن يصل إليه التأمّلُ في الخيرات المنظورة: نتصوّر بالعقل، جمالَ الله الخالق وعظمته اللذين يتجاوزان كل عظمة وجمال.

ذاك هو مضمون هذا المقطع، حين نتوقّف عندما يقوله، دون أن نكمّله مستعينين بنظرات متقاربة لا تستعيد عناصر مميّزة. فالينبوع الرئيسيّ لفكر الحكيم، هو العهد القديم. وإن دلّ أنه قريب من لغة الفلسفة اليونانيّة حين استعمل الألفاظ التقنيّة، فهو يأخذ بكلمات لم تعد مستعملة في فلسفة عصره، بل تدلّ على بحث عن لغة شعريّة. هو ما طلب أن يُدرج التعاليم الرواقيّة مستعيدًا عبارات كلاسيكيّة. وما بدأ يسير المسيرة الأولى في هذه الفلسفة حول الإله: أن يبرهن عن وجوده منطلقًا من ترتيب العالم المنظور ونظامه. ولا نجد عنده التعليم الرواقيّ وألفاظه، بحيث نستنتج حقٌّا أنه تأثر تأثرًا خاصًا بهذه المدرسة الفلسفيّة.

ما جهل الحكيم جهلاً تامًا المسائل التي طرحها الفكرُ اليونانيّ، بل اكتفى بيقين طوعيّ هو الذي نجده في الكتاب المقدس. هو ما قدّم برهانًا ايجابيٌّا عن وجود الله، لم يجد نموذجًا له في تقليد شعبه. تصرّف كمؤمنٍ، فقدّم حكمًا، باسم يقين إيمانه اليهودي، حول أشكال أخرى من الديانة، وعرض كيف يردّ على مشهد الكائنات المنظورة التي ألّهتها بعضُ العبادات الغريبة. في بداية كتابه، أعلن فقط تعليمه، وما برهن عن الخلود السعيد تجاه المترفّهين المرتابين الذين ينكرون كلَّ شيء (2:1 - 5:23). حين امتدح ابراهيم، أبرز برَّه وأمانته في المحنة ساعة ذبيحة اسحق (10:5). اختلف عن كتاب اليوبيلات (12:1 - 5)، فما قال شيئًا عن براهين قد يكون قدّمها أبو الآباء ليُقنع نفسه أن الأصنام ليست بآلهة. واختلف عن فيلون (ابراهيم 74) ويوسيفوس (العاديات 1:7)، فما نسب إلى نفسه، فكرًا يبيّن أن لا بدّ من وجود علّة لمسيرة الكواكب المنظّمة. فأكّد، وكأن الأمر لا يحتاج إلى برهان، أن إله شعبه، الإله الذي هو، هو خالق كلّ القوى الكونيّة. وأنه يتجلّى عبر صنائعه.

حين يتشرّب الفكرُ الدينيّ السجودَ العميق، فهو لا يحتاج إلى براهين، وكأن مجرّد إعلان التعليم يجعل السامعين يتعلّقون به. قدّم الحكيم المونوتاويّة وكأن الوثنيّين الذين امتزجوا بتلاميذه اليهود يحسّون بسموّ هذه النظرة على نظراتهم دون حاجة إلى الردّ على هذه النظرات.

إن تساؤله الأخير الذي يبدو موزّعًا بين الدهشة والشفقة والحكم، يشير إلى سؤال أكيد طرحه اشعيا الثاني: »أما عرفتم! أما علمتم؟ أما أُخبرتم منذ البدء؟ أما فهمتم أساسات الأرض« (أش 40:21؛ رج الله 26)؟ فايمان شعب اسرائيل القديم بالرب، با الذي لا يُقاوَم، الذي يقدر أن يستعمل قوى الطبيعة لتحقيق مقاصده في شعبه ولتحطيم كلّ مقاومة، من جهة، ومن جهة ثانية، التعليم الذي لم يعبّر عنه أحدٌ بصراحة عن خالق السماوات والأرض الذي يمتلك بسلطانه كل القوى: هما يَبرزان للنبيّ بتماسك عميق وواضح، بحيث يبدو هذان المعتقدان معتقدًا واحدًا في نظره، كما يبدو أن الأمر كان دومًا هكذا. فيجب على أبناء شعبه، على سامعيه، أن يعرفوا هذا كمعطية بدائيّة في التعليم الدينيّ الذي نالوه. وفي نظر الحكيم أيضًا، هناك رباط حميم بين معرفة الاله الحقيقيّ، الإله الذي هو، وبين معرفة العالم المنظور، بحيث يستصعب أن يفهم كيف لا يكون الأمر هكذا لدى عقول واعية فكّرت باللاهوت.

أتراه يحكم على خطأ في البرهان، على بلادة، على فكر متقلّب؟ هو ما اهتمّ بأن يبيّن أين يكمن الضلال، فعاكس ما فعله بدقّة بالنسبة إلى ناحتِ التمثال (13:17 - 19؛ 14:1؛ 15:16 - 1ذ7). إذن، يعبّر التساؤل الاخير عن حيرته أمام أفكار روحيّة مشتّتة جعلت علماءَ نجحوا في معرفة العالم المنظور، فقراءَ على المستوى الدينيّ ومحتاجين. هذا ما قاله أيوب في معرض كلامه عن النعامة التي تنقصها الفطنة رغم جمال ريشها وجريها السريع (أي 79:13 - 18). نشير إلى أننا لا نقرأ هذا النصّ في السبعينيّة الأولى، وقبل أن يضيف إليها اوريجانس ما أضاف. هذا يعني أن حك لم يعرفه.

هل خطئ هؤلاء الوثنيّون لأنهم لم يطلبوا الحكمة التي نالها »سليمان« بالصلاة (7:7)؟ هل من ذنب خلقيّ، هل من كبرياء في أصل نقصان الحكمة؟ هذا ما ظنّه عددٌ من الشرّاح. غير أن مثل هذا التفسير يفترض براهين تنطلق من نصوص مبعثرة في الكتاب، فتربطها بفرضية لم يُفصح عنها الكتاب. نحن نستطيع أن ننال الحكمة بالصلاة (7:7؛ 8:21). والحكمة تستبق الراغبين فيها (6:12 - 13). ولكن يجب أن نضيف أن أولى عطايا الفطنة هي أن تعلّمنا من أين تأتي نعمةُ الحكمة (8:21). وبدا واضحًا في نظر الحكيم أن هذه الفطنة الأولى لم تُعط للوثنيين كما أعطيَتْ لشعب اسرائيل. فما قال الكتاب عن الحكمة التي تمضي إلى لقاء الذين يرغبون فيها (6:12 - 16)، ينطبق بشكل خاص على الشعب المختار. وهكذا، فتساهل الحكيم تجاه البشر الذين لم يقدروا أن يكتشفوا الله في صنائعه، يعود إلى اعتباره أنه من الصعب معرفة الله دون معونة الحكمة (9:13 - 17).

لا يوافق الحكيم على النظرات الدينيّة لدى عابدي الكواكب، وإن وُجد فيها بعض البحث على الله. فإن لم تُدرِكْ ملءَ الحقيقة، فقد تكون أمام عدم إمكانيّة لا دواء لها، لأن الله لم يهتّم بالوثنيّين كما اهتمّ بشعب اسرائيل. فالكاتب الذي حكم حكمًا قاسيًا على صانع الأصنام، واتهمه بالبلادة والفساد (14:8 - 11؛ 15:10 - 13)، كان بالامكان أن يكون واضحًا، لو نسب إلى الديانة الكونيّة مثل هذا الخطأ الكبير.

وما هو تقدير حك لهذه الديانة الكونيّة؟ لا شك في أنه تجاوز التساهل الضمني الذي نجده في تث 4:19. ولكن يصعب علينا أن نعرف إلى أي حدّ. فسفر التثنية يقبل بهدوء أن تنحصر الشعوب الغريبة في عبادة قوى الكون. هو ما تجاوزَ مفهومَ اختيار اسرائيل دون سائر الشعوب. أما في نظر حك، فالامّة المقدسة لأبناء الله معدَّة لكي تنقل إلى العالم نور الشريعة اللافاسد (حك 18:4). وعمى الوثنيين، في نظر حك، هو بالأولى شكٌ وموضوع دهشة وألم. هو أمر غير عادي، ولا بدّ أن نتساءل في شأنه.

وفي النهاية، لا يعتبر هذا المقطعُ أن الوثنيين كان باستطاعتهم أن يعرفوا الله انطلاقًا من العالم المنظور. فالدهشة التي حرّكها التعارض بين اندفاع لدراسة هذا العالم، وعدم امكانيّة التعرّف إلى سيّد هذا العالم، وقفت على مستوى البلاغة. فالبشر الذين جهلوا الله هم باطل في طبعهم، كما قيل بدون مواربة في بداية هذا النصّ حول عبادة القوى الكونيّة (13:1). فالفكر البشريّ الثقيل بوضعه الجسدي، يكتشف بصعوبة ما هو على الأرض ولا يقدر أن يلج أسرار الله من دون موهبة الحكمة التي يمنحها الله (9:14 - 17). فإن غابت هذه الحكمة، حُسب الكاملُ في البشر كلا شيء (9:6).

إذن يرى الحكيم أن على الله أن يعرِّف نفسه إلى الوثنيّين، ويُزيل بموهبة الحكمة جهلَهم  الذي يجعلهم في باطل وُلدوا فيه. عندئذ يتيح لهم مشهدُ الطبيعة المتطور أن يفهموا فهمًا أفضل كمال الخالق السامي. فالكتاب يعكس التردّد أو اللايقين الذي نجده في العهد القديم حول واقع مثل هذا التجلّي. من جهة، نظر تث 4:19 إلى الوثنيين على أنهم ثابتون في عبادة جيش السماء والآلهة، الأدنين المرتبطين به، وإلى شعب اسرائيل الذي كان له وحده الامتياز بأن يعرف الربّ. ومن جهة ثانية، بيّن مز 65 و67 الله وهو  يجلسُ عل الأرض كلّها في خبرة الخصب الزراعيّ. فأشار ارميا إلى أن مشهد العاصفة وما فيه من عظمة، يُفهم عابدي الأوثان بطلانَ صورهم (إر 10:12 - 15؛ 51:15 - 18). لم يتّخذ الحكيم موقعًا واضحًا بين هاتين الفرضيّتين: امكانيّة معرفة الله لدى الوثنيين، أو جهل لا بدّ منه إلى أن ينقل إليهم شعبُ اسرائيل النور الخالد الذي تحمله الشريعة (18:4).

خاتمة

وها نحن نقدم بإيجاز نتائج هذا البحث. اهتمّ الحكيم بمختلف أشكال الديانة التي صادفها. وذلك ليس مجرد فضول نظريّ. بل أراد أن يكشف الضلالات بحيث تشعّ الحقيقة التي تجتذب الإنسان. وفي خلال مسيرته، عرف القيمَ الحضاريّة لدى اليونان، ونجاحهم في البحث عن العالم المنظور (13:7 - 9)، وفنّ النحاتين والرسّامين الباحثين عن الجمال (14:18 - 20).

وبالنسبة إلى معرفة الله لدى الخلائق، حمل حك 13:1 - 9 تعبيرًا فكريٌّا كان النهجَ الطوعيّ في الإيمان البيبلي: نرتفع من العالم المنظور إلى الله، فنعطي الخالق بقدرٍ عظيمٍ لا يُضاهى، صفاتٍ اكتشفناها في صنائعه. وإذ استعاد الكاتب ألفاظًا استعملتها الفلسفة اليونانيّة، دلّ دلالة ضمنيّة على الفائدة التي يجدها الايمان الديني في مواجهة فكر عقلانيّ والتعمّق في هذا الحوار.

وتبقى مسألة ثانية خارج نظرة الكاتب: هل عرف الوثنيّون فعلاً الاله الحقيقيّ؟ فالتنديد القويّ بالضلالات لا يعني أنه لم يكن سوى الضلال في البشريّة، خارج الشعب المختار. فقد كان لدى الوثنيين بحثٌ حقيقيّ عن الله (13:6). فإن هو وصل إلى ضلال لدى البعض، فقد يكون نجح في حالات أخرى. ولكن الحكيم لم يتطرّق إلى هذا السؤال

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM