الفصل 32: سفر الحكمة وبداية سفر التكوين

سفر الحكمة  وبداية سفر التكوين

في هذا المقال، نشرح معنى العودة إلى تك 1 - 3، متتبّعين سفر الحكمة حين يعيد قراءة النصوص. خلقٌ من أجل الحياة (حك 1:13 - 14؛ 2:2ج، 23 - 23). خلقٌ بالحكمة (حك 7:21؛ 8:4 - 6؛ 9:9. ثم 9:13؛ وأخيرًا 7:1؛ 10:1). خلقٌ بالحبّ (حك 11:17، 20، 24؛ 12:1). خلقٌ مهزلة (حك 13:2 - 5، 13 - 14؛ 14:5 - 7؛ 15:8 - 13). خلقٌ متجدّد (حك 19:6 - 21).

1 - خلق من أجل الحياة

منذ المقدّمة عاد حك للمرّة الأولى إلى تك 1 - 3. فحسب النظريّة البلاغيّة عند اليونان، وجب على بداية المديح أن تثير اهتمام القرّاء بالنسبة إلى الموضوع المطروح (هو الآن الحكمة)، فتحثّهم على تقبّل التعليم، وتدعوهم لكي لا يسيروا في خط الذين يعارضونها.

أ - كلام أول

تشكّل الآيات الاثنتا عشرة الأولى في حك، إرشادًا أول يدعونا إلى طلب الربّ متجنبيّن تشكّيات تشبه تلك التي تلفّظ بها العبرانيّون، في البريّة، في زمن الخروج. فهي تُبعدنا عن الحكمة وتقودنا إلى الموت. ويضيف الكاتب:

فا لم يصنع الموت

وهلاكُ الأحياء لا يُسرّه.

خلق كلَّ شيء للبقاء،

وجعله في هذا العالم سليمًا.

لا وجود للسمّ القاتل

ولا سلطان للجحيم على الأرض (1:13 - 14).

إذا أعلن الكاتب أن »ا لم يصنع الموت«، وسّع بشكل سلبيّ، شميلة تبدأ وتنهي ما في تك 1: »ا صنع السماء والأرض«. وهو ما نسي تك 2 - 3. وهذا ما نراه في حك 2:24 حيث يُقال: »بسبب حسد إبليس دخل الموتُ إلى العالم«. فحسب تك 2 - 3، كان تمرُ شجرة الحياة سيؤمّن للإنسان أوده، بل خلوده. وبعد الخطيئة، يؤمّن له الأكل من هذا الثمر، الخلود، رغم كل شيء (تك 2:9؛ 3:22). ولكنه مُنع من أكل ثمر شجرة معرفة الخير والشرّ. إذن، لم يكن الموت في مقاصد الخالق. ولكن أي موت يعني؟ لا الموت الروحيّ الذي يفصل عن الله وحسب، بل أيضًا الموت الطبيعيّ، كما في تك 2 - 3.

ويتابع حك: »لأن الله خلق الكون للبقاء« (1:14). إن فعل »كثيزو« (خلق) يقابل الفعل العبري »ب ر ا« (برأ في العربيّة) كما في تك 1:1. أمّا عبارة »لكي يقوم« (لكي يبقى) فتدلّ على قصد الخالق حين أوجد النور والفلك. استعمل سفر التكوين: ليكن (نور) فكان (نور). لا يتضمّن تك 1 موضوع البقاء موضوعًا صريحًا. أما حك 1:14 فيتحدّث عن هذا القيام وهذا البقاء.

»ولادات العالم تحفظ« (1:14). إن اليوناني »غانايس« يقابل »توليدوت« في تك 2:4. غير أن اللفظ لا يعني الأصل، ولا الأنواع والاصناف، ولا الخلائق ولا ولادات البشر، بل ما نتج من خلق يرويه تك 1. وهذه الولادات تؤكّد بقاء الخلائق المختلفة: فالنبات يحمل بذره. والطيور والأسماك نالت بركة الخصب، شأنها شأن الإنسان.

»لا سمّ قاتلاً فيها«: تلك هي الفكرة التي يستعيدها حك. فسببُ دمار الأحياء هو فساد الإنسان، كما سيقول خبر الطوفان في 8:21.

ب - ماذا يبقى من الإنسان

ومع ذلك، هناك من لا يقبل بهذا التعليم، فيعتبر أن الإنسان يزول كلّه في الموت. كانت بدايته صدفة واتفاقًا. ولهذا يقولون:

النسمة التي  نتنسّمها دخان (2:2ج).

نظريّة الأشرار هذه تهزأ من تك 2:7 حيث يؤكّد الكاتب اليهوهي أن الله »نفخ في أنف الإنسان نسمة حياة«. والأشرار لا يقولون بشكل خاص إن النسمة قد نفخها الله بالذات، بل يشدّدون على أن نسمة الحياة لا تقوم، بل هي دخان: هم لا يرون سوى الوجهة الماديّة.

ج - ضلال الأشرار

انتقد حك خيارات الأشرار الذين يريدون الإفادة من ملذات الحياة، كما يريدون اضطهاد البار لكي يُميتوه، فشرحَ ضلالهَم: جهلوا الأجر الذي يمنحه الله للابرار عبر الموت. قال:

خلق الله الإنسان للافساد،

وصنعه على صورته الخالدة

ولكن بسبب حسدِ إبليس

دخل الموت إلى العالم (2:23 - 34).

»خلق الله الإنسان للافساد«. عاد الكاتب إلى مقاصد الله الأولى. وما قاله حك 1:13أ بالنفي (لم يصنع الله الموت) عاد حك 2:13 فقاله بالتأكيد: »خلق الله الإنسان للافساد«. ما تضمّن قصدُ الله الأول الموت. بل الموت الطبيعيّ. فالإنسان كلّه، نفسًا وجسدًا، كان معدًا للافساد. والشرط كان بأن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ. ومع ذلك، منذ الخطيئة الأولى، كلّهم مرّوا عبر الموت بمن فيهم الأبرار. فماذا بقيَ من مقصد الخالق الأول؟ لا شك، الحياة التي لا نهاية لها في رفقته. وهذا الخير مُنح »للنفوس التي لا عيب فيها« (حك 2:22ج). أترى تطلّع حك بشكل ضمنيّ إلى اتّحاد لا نهاية له على مستوى الجسد أيضًا؟ أتراه تطلّع إلى قيامة أجساد الأبرار؟ هذا ما ظنّه عددٌ من الشرّاح.

صنع الله الإنسان »صورة خاصيّته«. صنعه على صورته. إذ تحدّث حك عن الصورة عاد إلى تك 1:26 - 27. هل يحقّ لنا، في قلب التوازي التصالبي، أن نعتبر »اللافساد« مرادفًا لـ »صورة خاصيّته«؟ قال تك 1:26 - 27 إن الإنسان صُنع »على صورة ا«. أي حسب مثال هو الله نفسه. أزال حك 2:3 »حسب« (كاتا) ليؤكّد أن الله صنع الإنسان »صورة خاصيّته« (صورة خاصة به). حينئذٍ اتخذت لفظة »صورة« لا معنى النموذج، بل نسخة طبق الاصل كما في حك 7:26 عن الحكمة التي هي صورة عن صلاح الله. وإذا تبعنا النصّ الأصعب (إيديوتيتوس) لا »أيديونيتوس« (الخلود) مع اوريجانس ولوقيانس، لاكتشفنا المعنى الجديد. ما هو خاص با هو أبديّته، لأن السياق يتحدّث عن الموت، والشطر السابق تحدّث عن لافساد الانسان. مثلُ هذه الفكرة لا نقرأها في تك 1:26 - 27، حيث موضوع الصورة يفسّر تسلّط الإنسان على سائر الخليقة. بل في تك 3:22 حيث يخاف الله أن »يصير الإنسان واحدًا منا«، فيأكل أيضًا من ثمر شجرة الحياة بعد أن أكل من ثمر شجر المعرفة. إذن، قبل الخطيئة، كان باستطاعة الإنسان أن يأكل منها وبالتالي كان معدًا للخلود، للاموت. وهكذا ارتبط موضوع تك 2 - 3 بواسطة حك 2:23ب، بموضوع الصورة في تك 1. وبعبارة أخرى، شرح تك 2:23 تك 1 بواسطة تك 2 - 3. ومشروعُ الله هذا يبقى هو هو، حتّى بعد الخطيئة التي حملت الموت. منذ الآن، حتّى البار يعرف الموت الطبيعيّ. ومع ذلك، فبالنظر إلى مشروع الله الأول هذا، تكون مجازاةٌ للانفس الطاهرة بحيث تعرف اللافساد. ولكن أيعرف الجسد اللافساد؟ هذا ما لا يقوله حك.

»ولكن بسبب حسد إبليس، دخل الموتُ إلى العالم« (حك 2:34). ما كان الموت جزءًا من مشروع الله، بل أدخله إبليسُ إلى العالم. لا يعود حك إلى مقتل هابيل بيد قايين (تك 4) بل إلى خبر تك 3 الذي قرأه فوزّع عناصره فيما بعد على أكثر من نصّ: ماهى بين الحيّة وإبليس، وشرح عمل الحيّة بواسطة الحسد. دخل الموت إلى العالم كمتطفّل، غير مرغوب فيه في مخطّط الخلق (تك 1:13). أي موت نعني؟ حدّد تك 2:17 الذي استُعيد في تك 3:3 في شكل آخر، أن الانسان يعرف الموت إن أكل من الثمرة المحرّمة، من شجرة المعرفة. عصى الانسانُ، فكان عقابُه منذ الآن الموت الطبيعيّ (تك 3:19). تحدّث حك أقلّه عن هذا الموت الطبيعيّ، ولكن بما أن  هذا الموت هو نتيجة الخطيئة التي هي موت روحي، تضمّن حك 2:24 الموت الروحي الذي يحرمنا من صداقة الله والاجتماع به، لا سيّما وأن الأبرار الذين وُعدوا بحياة في رفقة الله، يعرفون هم أيضًا الموت الطبيعيّ وحده.

ذاك هو الدرس الذي احتفظ به حك من تك 1 - 3، في المقدمة: خلق الله لكي يمنح الحياة (لا الموت).

2 - خلق بالحكمة

أ - الحكمة وفعل الخلق

هناك عدد من المقاطع نقرأها في مديح الحكمة وفي صلاة سليمان لنوال الحكمة، تحدِّدُ موقع الحكمة بالنظر إلى فعل الخلق. وها نحن نستعيد هذه المقاطع.

في حك 9، توسّع الكاتب في صلاة سليمان الذي أقيم ملكًا (1 مل 3؛ 2 أخ 1). قال إن الحكمة »كانت قربك حين صنعتَ الكون«. وأكد أم 8:30 وجود الحكمة لدى الله حين رتّب العالم. أما عبارة »حين صنع الكون« فتعود إلى تك 1:1 - 2 كما في التعبير اليوناني حيث »السماوات والأرض« تعني الكون. ولكن ما هو دور الحكمة؟ أمجرّد حضور مراقب، أم حضور ناشط ومشارك؟

في حك 7:21 أعلن الكاتب ان الحكمة »هي عاملة كل شيء«: طبّق على الحكمة ما قاله في موضع آخر عن الله الذي صنع العالم (13:1). ورأى بعضُ الشرّاح في حك 7:21 عودة إلى »أ م ن« في أم 8:30 مع دور ناشط للحكمة في فعل الخلق. وتعود الفكرةُ عينها مع بعض الشروح في حك 8:4 - 6: الحكمة »تدرّجت في معرفة الله فتركها تنفّذ أعماله... هي تعمل كل شيء... هي العاملة في الكون«. إذن، بدت الحكمة العروس المشيرة. هي اختارت مقاصد الله ونفَّذتها، كما كانت له مشيرة. إذن، دورُها فاعلٌ جدًا في فعل الخلق. ونفهم هذا الموقع حين حاول الكاتب أن يقرِّب الحكمة من الله نفسه (حك 7:25 - 26). هو تعليم جديد في مجمله، وهذا أمر وعاه الكاتب: وقت الصلاة »جهلتُ أنها أمّ كل الخيرات« (حك 7:12).

لا يستند حك 7:12، 21؛ 8:4 - 6 إلى تك 1 - 3. ولكن في حك 9:1 - 2، عاد الكاتب إلى الموضوع واستشهد بما في تك 1. فإله الآباء وربّ الرحمة، إله الآباء وعهد سيناء (تك 34:6) هو ذاك »الذي صنع الكون بكلمته، وكوّن الإنسان بحكمته«. جاءت هذه العبارة في توازٍ مترادف: صنع الله كلَّ شيء، الكون والانسان، بكلمته وحكمته. أن يكون الله صنع الكون بكلمته، أمر معروف في تك 1، حيث نقرأ مرتين: »قال الله فكانت...«. أما لفظة »بحكمتك« فهي ترادف »بكلمتك« وهي تستند إلى تقليد بيبلي طويل (أم 3:19 - 50؛ إر 10:12؛ 51:15؛ مز 104:24؛ 136:5. رج سي 42:31؛ حك 14:5 والكلام عن أعمال حكمة ا). غير أن هذه النصوص لا تجعل من الحكمة شخصًا حيًا، عكس ما يفعله حك. نشير هنا إلى تقليد يهوديّ هام: بما أن الحكمة المشخّصة في أم 8:22 هي »رشيت«، بداية أعمال الله الخالق، نستطيع أن نفهم »برشيت« في تك 1:1: »بالحكمة خلق الله السماء والأرض«. هذا ما توضحه نصوص حك التي ذكرناها.

ب - دعوة الانسان

وهناك نصّ آخر من حك 9 يعود أيضًا إلى تك 1:26، 28 فيحدّد رسالة الإنسان أو دعوته: كوّنه الله بحكمته، »لكي يسود على الخلائق التي وُجدت، ويحكم العالم بالقداسة والعدل، ويقضي باستقامة النفس« (حك 9:2 - 3). استعاد هذا النصُّ مقصدَ الله الأول حول الإنسان حسب تك 1:26 - 28، وتوسّع فيه. نرى أن حك 9:2 - 3 لم يأخذ فعلين استعملهما تك 1. بل أخذ فعلين يصوّران، في حك 12:15 - 16، الطريقةَ التي بها يحكم الله العالم. ثم إن »القداسة والعدل« و »استقامة النفس«، تتوسّع في 1 مل  3:6؛ 9:14 حول حكم داود الذي صار المثالَ الكامل للانسان.

ج - صورة آدم

ولفتت صورةُ آدم حك حين تحدّث عن حكمة الله. أشار إليها مرة أولى في حك 7:1، وفي بداية المديح: الحكيم الذي يتكلّم »هو نسل المجبول الأول الذي وُلد من الأرض«. ويُذكر آدم أيضًا حالاً بعد صلاة الحكيم: »بها (= بالحكمة) حفظتَ، بعنايةٍ، المجبولَ الأول كأبٍ للعالم والمخلوق وحده. ثم انتزعتَه من سقطته الخاصة ومنحتَه القوّة لكي يسود على كل شيء«. نصّان يتجاوبان بموقعهما وباستعمال لفظ »بروتوبلاستوس«، المجبول الأول. لفظٌ ذُكر في تك 2:7 حسب السبعينيّة. أما لفظ »غيغانيس« المولود من الأرض في حك 7:1، فنقرأه أيضًا في تك 2:7 حسب السبعينيّة.

ونتوقّف بشكل خاص عند حك 10:1 - 2. دُعي آدم »أبا العالم« لأنه أبو البشريّة الموجودة كلّها، والمبدأ بحسب الجسد. وعزلة آدم تُفهم: قبل أن يكون له رفيقة. يرينا تك 2 آدم مقيمًا في جنّة عدن وهو يتسلّم الخليقة شيئًا فشيئًا (آ 19 - 30). بدت هذه العزلة علامة عظمة، لا علامة فقر وسرعة عطب. وفعل »دياميلانسان« يُوجز تأثير الحكمة على هذا الشخص الفريد. وهو تأثير دينيّ قبل كل شيء ويتوافق مع الدور المعطى للحكمة في حك 9. لقد اكتفى حك بالتمييز الصريح بين حقبتين في حياة آدم: قبل الخطيئة وبعدها. وما دعانا أبدًا إلى إدخال شخص حواء. أما لفظ »بارابتوما« (معصية) فيحيلنا إلى الخطيئة المذكورة في تك 3:6 - 24. هي خطيئة خاصة، شخصيّة: أو أن الكاتب يستبعد مسؤوليةَ الله، ومسؤوليةَ الحكمة في مثل هذا العمل. أو يشدّد على خطيئة آدم بعد أن اعتاد بعضُهم أن يجعل المرأة وحدها مسؤولة. وجب على الإنسان أن يقاوم التجربة ويستعمل حرّية القرار. ما حفظته الحكمة من هذه الخطيئة، بل انتزعته منها حين  اقترفها. قد يكون حك عرف موضوع توبة آدم وعودته كما نقرأه في »حياة آدم« (منحول دُوِّن في القرن الأول ب.م.). ولكنه أضاف أن الحكمة منحت آدم الغفران، وأتاحت له بعد الآن أن يعيش، في البرّ، عيشًا يُرضي الله. وأخيرًا، إذ صار آدم ضعيفًا بعد سقطته، احتاج إلى قوّة مضافة: بما أن موقف الخليقة تبدّل بالنسبة إليه، صارت حياته صعبة ومتعبة. غير أن المهمة التي  كلّفه بها الخالق لبثت هي هي: ذُكرت في تك 9:2، فأشارت إلى وضع الإنسان الطبيعي. لهذا منحت الحكمة آدم القوّة الضروريّة لكي يواجه الخليقة التي رفضت الطاعة  أو عادَتْه.

وشدّد الشرّاح أيضًا على مدلول عزلة آدم. بعد تحليل أول، منطقيّ، اعتبروا أن آدم وهو الوحيد في عظمته، قد أعانته الحكمة التي يذكّرنا دورُها بدور حواء، في وظيفتها كمعينة له. كان لآدم الاول الملك والكمال، فرمز إلى البشريّة كلّها. وهناك أكثر من علاقة بين آدم والحكمة، لأن الحكمة هي أيضًا الأولى (أم 8:22) وهي فريدة (سي 24:5؛ حك 7:22، 27). وبعد دراسة المناخ التاريخيّ، تكـوّنت نظريّـةُ الزوجين الأولين كما تصوّرهما الكاتب. غير أن المكانة الفريدة التي يمنحها لموضوع العزلة، والطريقة التي بها نقل ترجوم نيوفيتي تك 3:22 (آدم الأول الذي خلقتُه هو فريد في الكون)، تجعلاننا نفكّر في آدم كأب لجميع البشر من رجال ونساء. وهو يحتفظ بسلطته على العالم بعد الخطيئة. هذا ما نجده في مديح الحكمة في حك 9.

وهكذا أبرز حك دور الحكمة في عمل الخلق لدى الله، ولدى الانسان الذي دُعي لحكم العالم، حتّى بعد الخطيئة.

3 - الخلق بالحبّ

وقدّم حك خطوة حين تأمّل في فعل الخلق. حلّل أحداثَ الخروج ليصوّر دور الحكمة في التاريخ، فقابل بين ضربات أرسلت على المصريين وحسنات نالها بنو اسرائيل. وتوقّف عند مسائل أثارتها الضربات المختلفة التي سبّبتها الحيوانات. مارس المصريون منذ أجيال عبادة الحيوانات. وهذا ما أشار إليه خر 8:22. وعقاب هؤلاء »العابدين« يأتيهم بواسطة خطيئتهم: عبدوا الحيوانات فعاقبهم الله الذي أهين، بواسطة حيوانات.

وهناك ميزة أخرى خاصة بالمقطع الذي نقرأ الآن، حيث توجّه الكاتب إلى الرب بشكل مباشر. بعد حك 9، تحوّل تأمّلُه إلى تكرار مديحيّ، فجاءت حركة فكره حركتين. في الحركة الأولى، النفي. كان باستطاعتك أن تفعل، فلم تبدأ بخلق جديد يدمّر الخطأة. وفي الحركة الثانية، برز حبُ الله لخليقته، مع قول يقع في قلب المقطع. »رتبتَ كلّ شيء بعدد ووزن وقياس«.

أ - حركة النفي

في حركة النفي من البرهان، حدّد الكاتبُ موقعه أكثر من مرّة بالنسبة إلى تك 1 - 3. بما أن يدك القديرة خلقت الكون »من مادة لا شكل لها« (حك 11:17)، كان من السهل عليك أن  تكوّن وحوشًا تدمّر الخطأة. إن عبارة »من مادة لا شكل لها« نجدها في الفلسفة اليونانيّة. نحن لا نعود هنا إلى المادة والصورة، كما عند ارسطو، لأن كتابه »في الطبيعة« لم يُعرف قبل القرن الأول ب.م. وصفة »أمورفوس« (لا شكل له) نقرأها عند أفلاطون، ولكن بدون كلمة »مادة« (هيلي)، وفي سياق مختلف. أما بوسيدونيوس الأفامي، معلّم شيشرون الرواقي، فيؤكد أن »جوهر الكون هو مادة لا تحديد لها ولا شكل«. واستعمل  فيلون في »الشرائع الخاصة« (1: 328 - 329) عبارة »مادة لا شكل لها« في علاقة مع نظريّة المُثُل، وفي عودة إلى تك 1: »منها صنع الله كلَّ شيء«. أما يوستينوس الذي كتب سنة 150 ب.م. (الدفاع الأول 1:59) فقال عائدًا إلى تك 1:1 - 3: »كوّن الله مادة لا شكل لها، ليصنع منها العالم«. إذن، يبدو أن حك يستلهم هذا النصّ من تك. يستلهم »تهو وبهو« (خاوية، خالية). هذا يعني أن حك 11:17 لا يتحدّث عن »خلق من لا شيء« (من العدم). غير أن هذا لا يتضمّن أن يكون حك استبعد شيئًا من قدرة الله الخالق: قال في حك 1:14 إن »ا خلق كلَّ شيء«. والصفة »بنتوديناموس« (حك 11:17)، خالق كل شيء، تبقى من دون معنى بدون »تهو وبهو«. توسّع حك في تك 1:1 - 2 مستعملاً الألفاظ الفلسفيّة اليونانيّة. قال تك 1:1 - 2: »خلق الله السماء والأرض. وكانت الأرض خالية خاوية«. فقال حك 11:17: »يدك القديرة... خلقت الكون من مادة لا شكل لها«.

لا حاجة، في نظر حك، إلى صراع أولانيّ جديد لعقاب الخطأة. فبدون خلق جديد لوحوش تُفني عابدي الحيوانات، »كان بمقدورك أن تقضي عليهم بنفخة واحدة« (حك 11:20 الله ب ج). ورفض حك فرضيّة صراع نفخة الله لتدمير الخطأة. مثلُ هذا الصراع سيكون في زمن الافتقاد الاسكاتولوجيّ (حك 5:23). ولكن مع حك 11:17، استبعد الكاتب خلقًا عقابيًا جديدًا. فقد رذل في حك 11:20 فكرة صراع جديد يشبه ذاك الذي قامت به »نسمةُ الله التي ترفرف على المياه«، (تك 1:2). ما احتاج الله لعقاب الخطأة، إلى خلق معاكس، إلى تدمير جزء ممّا بناه. »فقد رتّب كلّ شيء بعدد ووزن وقياس« (حك 11:20د). كان لهذا المثلّث مركز في الحقّ الروماني في القرن الثاني ب.م. وقد عرفتْه الحضارةُ اليونانيّة. كما وصل إلى العالم اليهوديّ الذي استعمله في حك 11:20 في كلام عن الله الخالق. أما في الحالة الحاضرة، فقد ظهر هذا الاجراء في مبدأ يقول إن أداة الخطيئة تكفي لعقاب الخاطئ (حك 11:16).

ب - حركة الايجاب

لماذا يتصرّف الله على هذا النحو؟ هذا ما تقوله الآيات التالية:

تَرحمُ الجميع لأنك قادر على كل شيء،

وتتغاضى عن خطايا الناس،

لتُمهلهم حتى يتوبوا (حك 11:23).

ا يعاقب الخاطئ بأداة خطيئته: هذا العقاب البسيط(حك 12:25) يكشف تربية هذا الإله الذي يريد عودة الخاطئ وينتظر هذه العودة. ولكن لماذا أناة القدير هذه؟ إذ أراد الكاتب أن يشرح الوضع، عاد مرّة أخرى إلى تك 1 - 3.

فأنت، يا ربّ، تحبّ الوجود كلّه،

ولا تُبغض شيئًا ممّا صنعتَ.

فلو أبغضتَ شيئًا لما كنت أوجدتَه.

وكيف يدوم شيء لا تريده، أو كيف يستمرّ شيء لم تَدْعُه؟

بل أبقيتَ كلَّ شيء. لأن كل شيء لك،

يا ربّا تحبّ جميع النفوس.

روحك الخالد موجود في كل شيء (11:24 - 12:1).

إن أناة الله تجاه الخاطئ، تنبع من حُبّه للخليقة التي لا يقدر إلاّ أن يحبّها، وذلك لأن روحه الحيّ هو فيها كما في كل صنائع الله. وأسند الكاتب تفكيره إلى فعل الخلق، عائدًا بخفر إلى تك 1 - 3.

يرتبط حبُّ الله بخلائقه، في تك 1، بواسطة ردّة تتردّد في مساء كل يوم: »ورأى الله أن ذلك حسن«. فأضاف حك على هذا كل الغنى الذي يحمله لفظ »الحبّ« في اليونانيّة: المجانية والسخاء، إرادةُ الخير تجاه الصغار، تفضيلٌ يتأسّس على خيار حرّ. ما يحبّه الله هذا الحبّ، هو ما صنعه، ما كوّنه، ما أراده. وبالتالي ما هو له وما دعاه إلى الوجود. في هذه العبارة الأخيرة (11:25 ب)، نكتشف موضوع التسمية من أجل البقاء في علاقة بين الله وخلائق أوجدها: أعطى الله اسمًا للنور وللظلمة، للفلك وللأرض وللبحر (تك 1:5، 10). وفي شكل إجماليّ، تتحدّث نصوص أخرى عن نداء يُطلقه الله (أش 41:4؛ 48:13؛ با 3:35؛ روم 4:17).

ونضيف: لماذا يحبّ الله خليقته؟ لأن روحه الخالد (اللافاسد) هو في كلّ شيء (حك 12:1). ذاك هو الجواب الأخير على مسألة تطرحها تربيةُ الله بما فيها من صبر وتحفّظ. تذكّر الكاتب نسمة الحياة التي نفخها الله في أنف الانسان (تك 2:7). وفي حك 12:1، صار هذا الروح الخالد في جميع الخلائق، لا في الانسان وحده. فصيغة الحياد الجمع (باسين، كل) تدلّ على خلائق الله. في أي حال، هناك تعارضٌ واضح بين فرضيّة رفضها تدخّلٌ جديد لنسمة الله من أجل تدمير الخطأة (حك 11:20)، وحضور الروح هذا الذي يناقض الموت لأنه خالد (لا فاسد) ويأتي من الذي يحبّ كلَّ حي (حك 11:26 - 12:1). وتحدّث مز 104:28 - 30 عن الروح الخالق. أما في حك 12:1، فنحن أمام بقاء الروح في جميع الكائنات. هذه الفكرة لا تجد جذورها في الكتاب المقدس، بل في الفلسفة الرواقيّة المتحدّثة عن الروح (بنفما) الكونيّة. غير أن حك لا يأخذ بالفكر الحلوليّ كما عرفه الرواقيون.

إذن، أعاد حك قراءة خبر الخروج مع كلمة مفتاح هي: حبّ الخالق لخليقته، ولو كانت خاطئة، حبًا لا يضعف ولا يتراجع.

4 - خلق محرَّف ساخر

أراد حك 13 - 15 أن يشرح لماذا استحّق المصريون أن ينالوا عقابهم من الحيوانات. والسبب هو أن عبادة الحيوانات التي مارسوها كانت أحقر الديانات التي عرفها العالمُ القديم، فهزئ منها اليونان واللاتين واليهود. وإذ أراد الكاتب أن يبيّن درجة الحقارة التي تصل إليها هذه العبادة، حلَّل ديانتين وثنيتين عرفهما عصره: عبادة عناصر الطبيعة. عبادة الأصنام التي يتوسّع فيها.

أ - عبادة عناصر الطبيعة

في تحليل قصير لعبادة عناصر الطبيعة (حك 13:1 - 9)، عاد الكاتب مرتين وإن بشكل خفي، إلى تك. ففي خط أرسطو والرواقيين الذين ألّهوا في ما ألّهوا، »الكواكب النيرّة في السماء، اسياد العالم« (حك 13:2). ألّهوا الشمس والقمر اللذين دعاهما تك 1:14 - 6 »نيرّين« (مصباحين) لكي يُشرفا على النهار والليل. ظهر »فوستير« (نيّر) في نصّ حك ونصّ تك. أما لفظ »بريتانايس« المراحد (يرد مرّة واحدة) في السبعينيّة، في حك 13:2، فيحلّ محل »أرخي« (بدء، مبدأ) في تك 1، ليشدّد على موضوع السببيّة في الكون.

وفي حك 13:3، 5، عاد الكاتب أيضًا إلى تك 1: دعا ا: أصل وجود الجمال، وسيّد الوجود. وموضوعُ الجمال والحسن يُحيلنا إلى ردّة تتردّد في تك 1 حسب السبعينيّة: ورأى الله أن ذلك حسن (كالون). واخترع حك لفظين يدلاّن على الخالق.

ما يهمّنا في هذه التلميحات إلى تك، هو أن حك ينتقد عبادة الفلاسفة التي تميل إلى الحلوليّة، مستندًا إلى النصّ البيبلي الذي يؤكّد بصريح العبارة أن الله هو خالق كل موجود في الكون. لا شك في أن للشمس والقمر تأثيرًا في الكون، ولكنهما هما أيضًا خليقتان بين الخلائق.

ب - عبادة الأصنام

وانتقد حك بشدّة عبادة الأصنام (13:10 - 15:13). فجعل في طرفَي تحليله صورتين متكاملتين لصانعين يصنعان صنمًا: النجّار (أو الحطّاب) في حك 13:10 - 19. والخزاف (أو الفخاري) في حك 15:7 - 13. ويهتمّ الكاتب في تحليل، في تحديد أصل هذه العبادة، في تبيان نموّ عبادة الأوثان مع النتائج اللاأخلاقيّة (حك 14:11 - 31). وبين تحليل ينطلق من الواقع، وآخر يرتبط بنموّ الأصناميّة، أدرج الكاتب مقطعين قصيرين فيهما يتحدّث، بشكل تعارض، عن بعض أحداث من تاريخ الخلاص (حك 14:1 - 10؛ 15:1 - 6).

صوّر الكاتبُ عمل الحطّاب الذي ينحت صنمه، فكتب: »صنعه على شكل الانسان أو على شكل حيوان حقير« (حك 13:13 - 14). استلهم الكاتب تحريم الصور كما نجد تعبيرًا عنه، لا في خر 20:4 (الوصايا العشر) ولا في تث 5:8 وحسب، بل في تث 4:15 (رج أش 40:18 حسب السبعينية). وقد يكون عاد ضمنًا إلى تك 1:26.

في الوقفة الأولى من تاريخ الخلاص، قدّم الكاتب مبدأين يرتبط الواحد بالآخر: »لا تريد أن يكون ما صنعتَه بحكمتك باطلاً« (حك 14:5أ). ثم: »فبُورك الخشب، الذي به يجيء ما هو صالح« (حك 14:7). فالبركة التي منحها الله للخشب تذكّرنا بما في  تك 1:11 - 12 حيث قيل أن الله خلق شجرة (كسيلون في السبعينية) تحمل ثمرًا يحمل بذره. فحين قال حك إن أعمال الحكمة الإلهيّة ليست عقيمة، استعاد فكرة الخصب، ولكنه وسَّعها فتحدّث عن موضوع الإفادة.

وحين صوَّر الكاتب بعد ذلك (حك 15:7 - 13)، الخزّافَ الذي يصنع الصنم، عاد ثلاث مرات إلى تك 1 - 3. فمن هو هذا الخزّاف؟ كائنٌ وُلد من الأرض، منذ زمن قليل، ويعود بعد زمن قليل ، إلى الطين الذي جُبل منه (حك 15:8). عاد إلى تك 3:19 حسب السبعينيّة، فأشار إلى حكم الإنسان بعد الخطيئة. ولكن الخزّاف لا يهتمّ بتعبه، لأن لا همّ له سوى المجد الذي يصل إليه من أعماله. وإذ فعل ما فعل، أذلّ نفسه، »لأنه جهل ذاك الذي صنعه، الذي نفخ فيه نفسًا عاملة وروحًا محييًا« (حك 15:11): نحن هنا في توسّع لما في تك 2:7. أخذ حك بعبارة معروفة في زمانه ليقول ما في تك 2:7 دون أن يأخذ بحرفيّة النصّ كما في السبعينيّة. مثلاً، »بسيخي« (نفس) و»بنفما« (روح) يترادفان. في حك 15:13، الذي يختتم المقطع حول الخزّاف، لام الكاتبُ الخزّاف »الذي صنع من طين الأرض تماثيل وأدوات سريعة العطب«. هنا لا نكتشف إيرادًا من الكتاب. ولكن موضوعًا يتضمّن تعارضًا: إن الفخاريّ الذي يصنع آلهة الطين، يعود إلى هذا الطين (حك 15:10) ويجهل النسمة التي نال من الله (حك 15:11). فأصنام الطين لن يكون لها ما ناله هو، نسمة الحياة »لأن الإنسان لا يقدر أن يصنع إلهًا مثله« (حك 15:16). أراد أن يلعب دور الخالق، فأخذ الطين مادّة، ولكنه فشل حين قلب الأدوار: نسي أنه هو نفسه صنعه الله من الطين، ونعِمَ بنسمة حياة لا يستطيع أبدًا أن يعطيها لمنحوتاته.

ج - المصريون

وفي النهاية، انتقد المصريين الذين عبدوا الاصنام وعبدوا الحيوانات معًا (حك 15:14 - 19). ثم كتب أن لا شيء جميلٌ في هذه الحيوانات المعبودة: »منها ما فيها من قباحة لا أحد يحبّها ، حتّى إن الله استثناها من مديحه وبركته« (حك 15:19). وأشار تك 1:21 - 22 إلى أن عالم الحيوان نال مديح ا: هو جميل. حسن (كالا، حسب السبعينية). نال موافقة الله فباركه. ولكن بعد خطيئة الإنسان، لُعِنت الحيّة الخادعة (تك 3:14)، هنا نتذكّر محرّمات بالنسبة إلى الحيوانات النجسة في لا 11:14 - 15، حيث نرى علاقة مع لعنة تك 3. هذه الحيوانات التي تذكرنا بحيّة جنة عدن، يجب أن تُستبعد. ومع ذلك، فهي التي اختاروها ليعبدوها.

وهكذا جهلت الديانات الوثنيّة الخالق وخدعت الخلائق. والإنسان الذي صنعه الله، ظنّ أنه يقدر أن يصنع بدوره إلهًا. أراد أن يهزأ بالخالق، ولكن عبثًا.

5 - خلق متجدّد

وبيّن الشرّاح العلاقة بين تك 1:1 - 2 وحك 19:6 - 21. إن تجديد الخليقة قد أعلن في حك 19:16. وهذا التجديد اكتشفه حك في أحداث مختلفة طبعت بطابعها خروج العبرانيّين من مصر.

حين عبور البحر »شوهدت سحابة تظلّل محلّتهم« (حك 19:17أ). ولكن خر 14:19 لا يقول هذا حرفيًا. هنا نعود إلى الخيمة (الخباء، عد 9:18 - 23)، إلى السحابة التي غطّت البحر حين رتّب الله العالم (أي 38:9)، بل إلى الحكمة التي خرجت من فم الله، فغطّت الأرض كما بضباب (غمام أو بخار: سي 24:3). قد يعطينا هذا النصّ تفسيرًا قديمًا لما في تك 1:2 (غطّت الظلمة الغمر) فيجعل الروح يغطي الغمر، لا الظلام. ثم إن مز 105:39 تحدّث عن الغمام الذي غطّى الشعب ساعة الخروج من  مصر. ونسب حك 10:17 وظيفة التغطية هذه إلى سفر الحكمة.

ونقرأ في حك 19:7ب: »وممّا كان من قبل مغمورًا بالمياه، ظهرت أرض يابسة«. فوجودُ عنصر اليبس في تك 1:9 وحك 19:7ب، حاضر مع قول بأن اليبس قد شُوهد. وفي حك 19:7ج، يقال أن هذه اليابسة »حقل أخضر«: هذه الاشارة لا ترتبط بسفر الخروج، بل بما في تك 1:11 - 13 حيث موضوع الاخضر، يميّز اليوم الثالث.

وذكّرنا حك 19:10 باحداث سابقة لعبور المجد: خرج الذباب من الأرض، والضفادع من النهر. أما حك 19:11 - 12، فأشار إلى حدث لاحق لعبور البحر، هو »ولادة جديدة« للسلوى الصاعد من البحر. وهكذا وُلدت الحيوانات كما في تك 1، في اليوم الخامس وفي بداية اليوم السادس.

وتحدّث حك 19:13 - 17 عن عدم الضيافة عند المصريين كما عند أهل سدوم، فاستعاد موضوع الظلمة (حك 19:17). هي استعادة لضربة الظلمة ساعة نعِمَ بنو اسرائيل بالنور (حك 17:1 - 18:4). ولكن إن عدنا إلى تك 1، يعود الموضوع إلى اليوم الأول واليوم الرابع (تك 1:4 - 5، 14 - 19).

وتوقّف حك عند علاقة جديدة يقيمها الله بين جميع الكائنات: مسكن كل واحد منها. في تك 1، حدّد الله لكل حيوان موضعه. أما حك 19:19 فرأى انقلابًا في السكن: الحيوانات المائيّة على الأرض. والحيوانات البريّة في الماء. وفي 19:21ج ذُكر المن، فأشار إلى ما وهبه الله في اليوم السادس: صنع الله للإنسان طعامًا خاصًا به.

وهكذا اختتم الكاتب مقاله بنظرة شاملة إلى أحداث الخروج التي رأى فيها خليقة متجدّدة (حك 19:6، 11). فضمّ خلاص الجسد في خلود الأبرار كما في بداية حك. في مسيرة الخروج، ترتّب الكونُ في خليقة جديدة ليؤمن للأبرار الحياة وطعام الخلود. وأعاد سفر الحكمة قراءة تك 1، فتجاوز الحرفَ الذي يقتل ووصل إلى الروح الذي يُحيي.

خاتمة

في مقابلة سفر الحكمة مع تك 1 - 3، نجد أولاً أن مقاطع تك 1 ممثّلة كلّها. أما في تك 2 - 3 فهناك مقاطع كاملة قد ألغيت: لا نجد شيئًا عن وصف جنّة عدن. ولا تلميحًا إلى خلق المرأة ومسؤوليّتها في الخطيئة، وإلى شجرة معرفة الخير والشرّ. لا يُذكر تك 3:15الذي يعتبر إنجيلاً قبل الإنجيل، ولا الخروج من الجنة.

وعاد حك إلى تك 1 - 3 في كل مقاله، ولكنه لم يذكر نصٌّا صريحًا، ولم يُسمِّ شخصًا واحدًا. غير أننا نجد في هذه الآية أو تلك تلميحات واضحة: المجرّب في حك 2:24. وآ 1، في حك 10:1. ونكتشف إيرادين صريحين: إن حك 15:11 يورد تك 2:7 حسب تقليد يختلف عن السبعينية. وعاد حك 15:8 إلى تك 3:19 حسب السبعينية.

بدا حك حرًا في عودته إلى تك 1 - 3، فأخذ بالألفاط كما في 13:2 مع ذكر النيرّات التي يعبدها الوثنيّون. وفي موضع آخر، نجد هزءًا بما في تك 2:7، في فم الأشرار (حك 2:3ج). كما يستعيد حك مخطّط الله الأول بالنسبة إلى الإنسان، فيبدو وكأنه يقرأ تك 1 على ضوء تك 2 - 3. وتُقرأ الخطوط الكبرى في تك 1 - 3، على ضوء لاهوت الحكمة (حك 10:10) الذي لا ينبع فقط من العهد القديم، بل من عالم الفلسفة، مع تعميق حقيقيّ.

وفي النهاية، نستطيع ان نكتشف النقاط التالية:

l تجاه نظرة الأشرار (تك 2:2ج)، ذكّرتنا المقدمة بمشروع الله الأول الذي ما زال ساريًا بالنسبة إلى الأبرار: فالموتُ الطبيعي نفسه لم يكن في مشروع الله. فحين خلق الله ما خلق، ما أراد سوى الحياة للخليقة، وللانسان الخلود وعدم الفساد. والموت، هذا المتطفِّل، قد أدخله إبليس (تماهى مع الحيّة في تك 3) إلى العالم: الموت الطبيعيّ والموت الروحيّ. وهكذا انحدر مشروع الله في البشاعة.

l وشرح مديحُ الحكمة مكانة الحكمة في عمل الله الخلاّق. وبيّن دورها لدى الانسان الأول. هو سقط وما كان أمينًا لدعوته. ولكن الحكمة أنتزعته منها بعد خطيئته، وأتاحت له أن يحقّق دعوته الأولى كسيِّد على الكون. وأخيرًا، خلّصت الإنسان التائب من نتائج خطيئته.

l وبعد أن بيَّن حك، بواسطة أحداث الخروج، كيف أن الحكمة قادت الابرار، في الماضي، ساعة نال الأشرار عواقب خطاياهم، قدّم في استطرادٍ أول مفتاح قراءة هذه الأحداث: الخالق يُحبّ دومًا خليقته، ولا يمكن أن يكرهها، لأنه ما زال حاضرًا فيها بروحه الخالد. هو يعاقب الأشرار بدون قساوة لكي يتوبوا ويؤمنوا به. فعملُ الله في التاريخ لا يعارض موقفه كخالق الكون.

l أفسدت الديانات الوثنيّة العلاقات بين الخالق والخلائق. هذا ما بيّنه استطرادٌ ثانٍ. بعضهم عبدَ صنيعة الله. وآخرون نسوا أنهم صورة الله، فصنعوا أصنامًا على صورتهم الخاصة أو على صورة حيوان. أرادوا أن يلعبوا دور الباري، فقلبوا الأدوار وما اهتمّوا بفشل مضحك: الخالق خلقهم، فكيف يحاولون أن يخلقوا خالقهم؟ والبعض الآخر عبد الحيوانات، فما شعروا أنهم يعلنون الله ملعونًا لأنه دفع الإنسان إلى الخطيئة. فبدون الحكمة يضلّ الانسان ضلالاً.

l وتحدث سفر الخروج عن تجديد الخليقة من أجل الأبرار. وهكذا قُرئت أحداث الخروج على خلفيّة خبر الخلق في تك 1. فعملُ الله في الحدث الذي يقدس شعبه (الخروج) كان خلقًا جديدًا حيث تغلّبت الحياة من أجل الأبرار، وحيث الكون كان خادمًا من أجل حياة الأبرار. وما حدث هو نموذج دائم بالنسبة إلى البشر.

l ذاك مشروعُ الله الأول. عارضته الخطيئة. ولكن كان خلقٌ جديد بدت طلائعُه خلال الخروج الذي أسّس شعب اسرائيل ودشّن تاريخ الخلاص بالنسبة إلى شعب الله كلّه. وإن كان من مشاركة  في عمل الخلق، فهي تأتي من حكمة الله التي تستطيع وحدها أن تُعين الإنسان لكي يفشِّل الخطيئة. وفي ذلك الوقت، يفشل المُشركُ في مشروع خلقه: هو لا يستطيع أن يعطي للصنم صورته. بل ينحدر إلى مستوى الصنم.

l هي بنية متداورة تتجاذب فيها الأطراف، ويُلقي مركزُ هذه الدائرة بضوئه على النصّ كلّه. نظرة الكاتب نظرة واسعة جدًا. فحين تحدّث عن الخلق، ضمّ إلى فكره، عنصرَ الخطأ البشريّ. هذا يعني أنه لا ينسى تك 3. بل هو يرى الخطيئة على ضوء الخلق. وقرأ التاريخ في هذا الضوء عينه. هي قراءة تعود إلى مجمل الوحي التوراتيّ وإلى الحضارة الهلنستيّة في عصره، بحيث ينطبع فكرُه بلاهوت الله. وينبع من كل  هذا رجاء وطيدٌ: فالشرّ لا يستطيع أن يتغلّب على مخطّط الله في الخلق. والحياة تنتصر دومًا على الموت، أقلّه بالنسبة إلى الذين حافظوا على الأمانة. والبرهان على ذلك، خلاص رآه سفرُ الخروج كأنه خلق جديد(*).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM