الفصل 31: مشيئة الله وموهبة الحكمة

مشيئة الله وموهبة الحكمة

في قلب سفر الحكمة الذي دوِّن في القرن الأول ق.م.، في نقطة إلتقاء الحكمة (ف 1 - 8) والمدراش (أو الدرس والتأمّل)، حيث تذكّر الكاتب دور الحكمة في التاريخ، من آدم إلى الخروج (ف 10 - 19)، نقرأ صلاة سليمان الموسّعة لنوال الحكمة (9:1 - 18). في آياتها الأخيرة مسائلُ تستحقّ التفكير والقراءة. ونبدأ فنحدّد موقع هذه الآيات التي تُنهي ف 9. ثم نبيّن أهميّتها بالنسبة إلى سفر الحكمة كله.

تنقسم صلاة سليمان إلى ثلاثة مقاطع. في قلب المقطع الأول (9:1 - 6) نجد أول طلب للحكمة، وفيه تُذكر عظمةُ دعوة الإنسان من جهة، وضعف سليمان من جهة ثانية. والمقطع الثاني (9:7 - 12) الذي بُني بشكل متداور، لا يتحدّث بعد إلاّ عن سليمان، وعن الحكمة التي يطلبها ويلحّ في طلبها:

من السماوات المقدّسة،

ومن عرش مجدك أرسلها (9:10).

واستعاد المقطع الأخير (9:13 - 18)، بشكل تعابير، مسيرة المقطع الأول، فما تكلّم بعدُ عن الملك، بل عن الضعف الخاص بكل إنسان، وهذا الضعفُ يُسند الطلب اسنادًا خفيفًا. وتنتهي الصلاة بتذكير عام بنجاح أولئك الذين نالوا الحكمة، في دعوتهم.

نص$ متداور في البنية، وفي المقطع. ونحن ننقل المقطع الثالث فنكتشف حركته من خلال ترتيب آياته:

أ   (13)  فأي إنسان يقدر أن يعرف مشيئة ا؟

من يقدر أن يُدرك ما يريد الربّ؟

ب (14)  فالعقل البشريّ قاصر،

ووسائله عاجزة،

ج  (15)  لأن الجسد الفاني يُرهق النفس،

وهذا المسكن الأرضي يعيق العقل بأفكاره العديدة،

ب.ب (16)  بحيث لا نعرف ما هو على الأرض،

ونجد بصعوبة ما هو في متناولنا،

أ. الله    (17)  فكيف نقدر أن نعرف ما هو في السماء؟

وإرادتك من كان عرفها،

ب.ب        لو لم تمنحه الحكمة،

وترسل إليه من أعاليك روحك القدوس؟

أ. الله    (18)  هكذا تستقيم طرقُ الذين على الأرض،

ويتعلّم البشرُ ما يرضيك،

وبالحكمة ينالون الخلاص.

نتوقّف عند الآيتين الأخيرتين اللتين تحتلاّن موضعًا خاصًا، في حك. فقد لاحظ الشرّاح منذ زمن بعيد، أن عبارة »الروح القدس« (في الله 17) لا تُقرأ في حك، إلاّ في 1:5: نستطيع أن نرى هنا نهجًا أدبيًا هو نهج التضمين. ثم إن الله 18 تبدو مقدمة ف 10 وما يليه من فصول.

يُبرز موقعُ هذه الآيات مضمونَها، وما فيها من أهمية. ولكن بما أن بداية الله 17 تنتمي إلى مجموعة (ج.ج) ذات بنية متداورة، لا بدّ في تفسير الله 17أ من الأخذ بعين الاعتبار ما يحمله تحليل هذه الآيات من غنى. وبعد أن نبيّن النهج والتعابير الأدبيّة المستعملة في المقطع (ج.ج)، نحاول أن نستنير بنصوص العهد القديم البعدمنفاوية، فنكتشف المضمون اللاهوتي في الله 7 - 18.

1 - النهج والتعابير الأدبيّة في 9:13 - 17أ

ما يلفت الانتباه في بنية الله 13 - 17أ، هو الأسئلة التي وُضعت في الطرفين، مع الألفاظ عينها في الآية الأولى والآية الأخيرة. وهذه الأسئلة الأربعة تنبع من نهج أدبيّ (السؤال البلاغيّ الذي جوابه فيه) نهتمّ باستعماله كي نفهم هذا المقطع.

إن طلبْنا الجواب على هذه الأسئلة، نقرأ نهاية الله 17، حيث يُفهمنا الكاتب بوضوح، أن البشر لا يقدرون أن يفهموا إرادة الله بدون عون إلهيّ يمنح حكمته وروحه القدوس. إذًا، يتحدّد موقعُ هذه الأسئلة الأربعة البلاغيّة (في ف 9) في سياق الوحي.

إن العهد القديم يستعمل الأسئلة البلاغيّة في سياقات ذات أنماط مختلفة. ونشير إلى اثنين يرتبطان بموضوعنا:

أ - النمط الأول

هو سياق يشدّد على التسامي المطلق . نجد عن هذا مثالاً في 12:12.

فمن يقدر أن يقول لك: ماذا فعلت؟

من يعارض حكمك؟

من يدعوك إلى المحاكمة لأنك امتلكتَ أممًا خلقتَها؟

من يعترض عليك لأنك انتقمتَ من الأشرار؟

تُبرز هذه الآيةُ سلطانَ الله الذي لا يُعارَض: ما عليه أن يؤدّي جوابًا لأحد. وهناك أيضًا التساؤلات الكبرى في سفر أيوب (ف 38 - 39)، التي تصوّر قدرة الله في خلقه. ونحن لا ننسى هذا المقطع من أشعيا الثاني (40:2 - 14).

(12) من كال البحار بكفِّه،

وقاس السماوات بالشبر؟

من كال بالكيل تراب الأرض،

وقبّن الجبال بالقبّان،

ووزن التلال بالميزان؟

(13) من أرشد روح الرب،

أو كمُشيرٍ له علّمه؟

(14) من استشاره الربُّ فأفهمه،

وهداه سبيل العدل؟

من لقّن الربّ فعرف،

وأراه طريق الفهم؟

إن الجواب على هذه الأسئلة البلاغيّة هو بالنفي: لا أحد. ثم إن صور الكيل والقياس في الله 12، تعطينا فكرة عن قدرة الله في خلقه. وتُفهمنا الله 13 - 14 استقلالية الله المطلقة.

حين نقلت السبعينيّة اليونانيّة الله 13أ (من عرف روح الربّ. ومن كان مشيره فأقنعه)، قامت بتبديل طفيف في النصّ: انتقلت من وُسع الله الذي يتحدّث عنه النصُّ العبري، إلى إله لا يقدر الإنسان أن يفهمه. في هذا المعنى، استعمل بولس هذا النصّ في روم 11:33 - 34.

استند عددٌ من الشرّاح إلى هذا النصّ اليونانيّ ليجدوا في أش 40:12 ما يوازي  حك 9. وردَتْ التساؤلاتُ هنا وهناك مع تقارب في الألفاظ لا نستطيع أن ننكره. غير أننا نستطيع أن نتساءل: أما تقودنا هذه التساؤلات في طرق ضالة؟ فالصعوبة الكبرى لقبول هذا التقارب، تقوم في أن أش 40:13 لا يرد في سياق  وحي: فالجواب على أسئلة النبي هو دومًا  وإطلاقًا: لا أحد.

ب - النمط الثاني

يَبرُزُ استعمالٌ آخر للسؤال البلاغيّ، في سياق وحي. هنا نقرأ بعض ما جاء في أمثلة آجور (أم 30:2 - 5)، فنفهم الانتقال من نمط سياقيّ إلى آخر، ولا سيّما في السبعينيّة اليونانيّة التي استقى منها سفر الحكمة:

(2) أنا أغبى جميع الناس،

وتعوزُني فطنةُ البشر.

(3) علّمَني الله الحكمة،

ونلتُ معرفة القدّيسين.

(4) من صعد إلى السماء ونزل منها؟

من جمع الريح في حضنه؟

من حصر المياه في ردائه؟

من أشرق على قمم الأرض؟

ما اسمه، واسم أبنائه إن عرفت؟

(5) كلام الله نقيّ كلّه

هو دِرعٌ للذين يكرمونه.

الجواب على أسئلة تُشير إلى تسامي الله وسرِّه بالنسة إلى الإنسان، هو أيضًا بالنفي: لا أحد. وقد فهم المترجم اليوناني في الله 3، أن موهبة الحكمة وأقوالها، والشريعة والوصايا، تكفي الإنسان الذي يطرح على نفسه جميعَ هذه التساؤلات. وجاءت بداية إبن سيراخ (1:1 - 10) الذي دُوِّن حوالي سنة 180، أكثر وضوحًا:

(1) كل حكمة هي من الربّ،

وتبقى معه إلى الأبد.

(2) رملُ البحر وقطرات المطر

وأيام الدهر، من يعدُّها؟

(3) ارتفاع السماء واتّساع الأرض

وعمق البحار من يقيسها؟

(4) قبل كلّ شيء خُلقت الحكمة،

ومن أقدم الدهور، الفطنة والفهم.

(6) لمن انكشف أصلُ الحكمة،

ومن تبيّن أسرارها؟

(8) واحد هو الحكيمُ المهيب

حين يجلس على عرشه.

(9) هو الربّ

خلقها، رآها، عدّها،

أفاضها على كل أعماله،

(10) في كل بشر، بحسب سخائه،

ووزّعها على الذين يحبّونه.

إن سياق الأسئلة البلاغيّة الأربعة التي نقرأها في الله 2 - 3، 6، هو سياق وحي. فإن تضمّن السؤالان الأولان تسامي الله على كل إنسان، فالسؤالان الأخيران (هيأتهما الله 4 حيث يؤكّد الكاتب أن خلق الحكمة سبق خلق أي شيء آخر) يشدّدان على أن الإنسان لا يستطيع أن يُدرك الحكمة: فهي لا تُكشَف لأحد إلاّ عبر موهبة مجانيّة من لدن الله (آ 9 - 10).

واستعمل نص$ متأخر في تث 30:12 - 14 أسئلة بلاغيّة حول معرفة الشريعة: فلا هي (= الشريعة) في السماء لتقول: »من يصعد لنا إلى السماء، فيتناولها ويسمعنا إياها فنعمل بها...«. ولا هي في عبر هذا البحر لتقول: »من يعبر لنا هذا البحر، فيتناولها ويُسمعنا إياها فنعمل بها«؟  كلمة الله قريبة منك جدًا. في فمك هي، وفي قلبك، لكي تعمل بها.

وأعاد با 3:29ي (دُوّن حوالي سنة 200) قراءة هذا النصّ الهامّ حين كتب عن طريق المعرفة أو طريق الحكمة، فقال:

(29) من صعد إلى السماء فتناولها (= الحكمة)

ونزل بها من الغيوم؟

(30) من عبَر البحرَ فوجدها،

وفضّلها على الذهب النقي؟

(31) لا أحد يعرف الطريق إليها،

لا أحد يفهم سبيلها.

(32) لكن الذي يعرف كلَّ شيء...

(37) ... أعطاها ليعقوب عبده.

لاسرائيل حبيبه...

(4:1) هي كتاب وصايا الله.

في هذين النصّين الأخيرين، ما يطرح الأسئلة ليس عظمة الله كعظمة، ولا سرّه كسرّ، بل شريعته. وهذه الشريعة ليست مجرّد شريعة بشريّة. كما ليست أيضًا وصيّة تمنعنا من الوصول إلى إله بعيد. فالشريعةُ التي هي طريق الحكمة، قد سلّمها الله إلى إسرائيل (كما في سفر باروك)، فكانت في فمه وفي قلبه (كما في سفر التثنية).

في هذه النصوص التي تهمّ الشرّاح في حك 9، نلاحظ أيضًا تعبيرين أو بيتين نجدهما هنا وهناك. الأوّل هو صورة القياس التي توسّع فيها أش 40:12ي، ورسمها سي 1:2ي. والثاني موضوع اكليل لا نجده إلاّ في هذين النصّين، في اسئلة بلاغيّة من العهد القديم، تتحدّث عن قدرة الله.

وأخيرًا، هناك الموضوع الحكميّ لهذه الأبعاد الأربعة. نجد استدلالاته الرئيسيّة في العهد القديم. هي نصوص نادرة ونحن نذكرها. في أش 40:12، تُقاس المياه والسماء والأرض. في سي 1:3، تُقاسُ السماء والأرض والماء (= الغمار). في أم 30:4: السماوات، الرياح، المياه، الأرض. في با 3 الذي يستعيد تث 30: السماوات والأرض. أما حك 9 فيذكر السماوات والأرض.

بعد أن أوردنا هذه التعابير الأدبيّة، نَدهش من تقارب حك 9 مع أسئلة بلاغيّة في سياق وحي عن الحكمة والشريعة. لهذا نفسِّر هذه النصوص، ونتوقّف عند التيّار التي حملها. ونحن نطرح العلاقة بين الحكمة والشريعة، فنقرأ حك 9 على ضوء سي 1 وبا 3.

2 - الحكمة والشريعة

أ - معنى مشيئة (بولي) في حك 9:13، 17

»ومشيئتك، من عرفها«؟ ما هي مشيئة الله هذه؟ وماذا تعني بالنسبة إلى سفر الحكمة؟ في السبعينيّة، اللفظ الذي يترجم مشورة، قصد، مشروع، يطبَّق مرارًا على الله، فيعني: المخطّط الذي استعدّ أن ينفّذه (أش 5:19؛ 14:26؛ 19:17؛ 21:1؛ 46:10؛ إر 29:2؛ مز 33:11). ونادرًا ما يعني ما ينتظره الله من الإنسان أي في شكل عمليّ، تتميم الشريعة (مز 107:11). اما في سفر الأمثال، فيكون الكلام عمّا تُريده الحكمة التي يجب على الإنسان أن يتبعها (أم 1:25، 30؛ 2:11؛ 3:21؛ 8:12، 14؛ سي 24:29). فالمعنيان اللذان نميّزهما هنا على مستوى الألفاظ، لا يتعارضان، بل يشكّلان بُعدين اثنين في مشيئة الله الواحدة.

أي معنى نجده في حك 9؟ هل نستطيع أن نعطي لعبارة »مشيئة ا« في الله 17 معنى قريبًا من »شريعة«؟ فنحن نلاحظ أن الشرّاح يرون في هذه المشيئة »ما يريد الله من الإنسان أن يفعل«. وإذا أردنا أن نبرّر هذا التفسير، نستطيع أن نقدّم عدّة براهين. أوّلاً، في المقطع الآخر الوحيد في حك، حيث نقرأ لفظ »بولي«، تتوازى المشيئةُ مع الشريعة (نوموس. ولو بدون أل التعريف: شريعة موسى). هنا تتعارض مقاصد الإنسان مع مقصد ا:

(6:3) هو يفحص سلوكَكم؛

ويمحّص مقاصدَكم.

(آ 4)  فيا وكلاء في ملكوته،

إن ما حكمتم بالعدل،

ولا مارستُم الشريعة،

ولا سلكتم حسب مقصد الله،

(آ 5) فسيُنزل عليكم...

ليس مقصدُ الله هنا المخطّط الذي يريد وحده أن ينفِّذه. بل إن النصّ يشير إلى مشاركة الإنسان، لأن »السلوك بحسب مقصد ا« يعني »ممارسة الشريعة«. ثانيًا، إن سياق ف 9 يوجّهنا في خطّ التفسير عينه. فمعرفةُ مشيئة الله هذه، ضروريّة لممارسة الحكم في الشعب ممارسة لائقة. وفي المقطع الموازي (9:5 - 6) لهذا الذي ندرس الآن، تكلّم سليمان عن ضعفه، وأقرّ بعجزه عن فهم الدينونة والشريعة. إنها عبارة ترِدُ في الأدب الاشتراعيّ (تث 4:5؛ 17:11؛ 30:10؛ يش 24:25؛ 2 مل 17:34؛ طو 7:14؛ أس 1:13.

وأخيرًا نتوقّف عند الله 13 - 17. فهي بأسئلتها البلاغيّة الأربعة، تجعل العبارات التالية في شكل متوازٍ:

مشيئة ا

ما يريد ا

ما في السماوات

مشيئة الله.

فمشيئة (بولي) الله ومقصده، هي ما يريد. فهذا الفعل (تالو) مع الله فاعله، لا يأخذ في السبعينيّة مفعولاً، لا يذكر شيئًا يجب على الإنسان أن ينفّذه (مز 5:5). أما الموصوف (تاليما) فهو يُغفَل مرارًا في توازٍ مع الشريعة (نوموس مز 1:2؛ 4:9؛ 103:7). وعبارة »ما في السماوات« تطرح المشاكل. هي تُعارض ما في الله 16؛ »ما هو على الأرض«. فهذان العنصران الحكميّان حول الأقطار الأربعة، يستنيران بما في مز 113:24 (رج النصّ العبري في 115:16):

السماء هي سماء الربّ،

والأرض وهبها لبني البشر.

في عودة إلى تك 1:28، الأرض هي الموضع الذي سُلِّم إلى الإنسان. والسماء التي خلقها الله أيضًا، هي موطنٌ حُفظ له. أما في حك 9، فالعبارة تتوازى مع »مقصد ا«. لهذا تتلقّى مدلولاً لا يكون فقط كوسمولوجيًا (على مستوى الكون). وما يُثبت ذلك، هو الفعل الذي يرافقها: إليخنياتو: سار في خطى، تحرّى، تبع. هو خاص بالسبعينيّة اليونانيّة، ولا نجده تقريبًا إلاّ في الأسفار الحكميّة، وبمناسبة البحث عن الحكمة البشريّة، أو عن معرفة الله وحكمته (جا 12:9؛ أي 5:2؛ 8:8): هذا بالنسبة إلى طلب الحكمة البشريّة. أما عن معرفة الله وحكمته، فنقرأ أي 10:6؛ 13:9؛ 29:16؛ مز 139:3. رج أي 28:27 وطلب الحكمة.

ويرد لفظ »اورانوس« (السماء) للمرة الأولى في حك 9:10 حيث يتوازى مع »عرش  المجد«. ولكننا نقرأ المعنى الفيزيائي في تك 13:2. في يو 3:12 تتقابل »أمور السماء« مع »أمور الأرض«. أما السماء فهي في علاقة مع المسيح نفسه. هذه الملاحظة تدعونا أيضًا إلى أن لا نعطي لما في حك 9:16 ج (ما في السماوات)، المعنى الكوسمولوجيّ أو الأخلاقيّ. ويبقى ضوء أخير نقرأه في با 3:9ي.

هناك عدد من الإشارات المتلاقية تجعلنا نعطي عبارة »مشيئة ا« في حك 9:17، معنى قريبًا من »شريعة«. وإذا توسّعنا في هذه الآية، نستطيع القول إن الإنسان لا يقدر، بدون حكمة الله وروحه، أن يعرف ما يريده الله منه. فا هو الذي يكشف شريعته بعطيّة حكمته وروحه.

نكتشف في هذه الجمل بعض المواضيع الكبرى في الفكر البعدالمنفاويّ. ونتوقّف عند العلاقة بين الشريعة والحكمة. حين نسير في المراحل العامّة من هذا الفكر، قد نتوصل إلى  الإحاطة بما يحمله سفرُ الحكمة من أصالة.

ب - الحكمة والشريعة بعد المنفى

يتوزّع العهدَ القديم تيّاران حكميّان، ذات أصل مميَّز، ويبدو تقاربُهما واضحًا في ما بعد المنفى. فبقرب الحكمة الاختباريّة التي وُلدت في فكر بشريّ لدى الأوساط الارستوقراطيّة أو التيّارات الفلسفيّة، هناك حكمة آتية من عند الله، وهو وحده يهبها. وقد تكون صلاةُ سليمان في جبعون، لنوال الحكمة (1 مل 3؛ 2 أخ 1)، لعبت دورًا هامًا في التقريب بين هذين التيّارين. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، توسّع المعلّمون، بعد المنفى، في لاهوت الشريعة. متى انطلق هذا اللاهوت؟ بعد سنة 586 ق.م.، زالت كلُّ العناصر الخارجيّة التي عاش منها الشعب: الملكيّة الداودية، الهيكل وتابوت العهد، امتلاك الأرض. وحسب الشريعة، بدت التوراة التي تَثبّتَ نصُّها بعد المنفى، مع الكهنوت، العنصرَ الموحّد للشعب المختار. هذه الشريعة تقبّلها موسى من الربّ. وموهبة الله هذه لإسرائيل كانت في فكر الله من الأزل: هنا يتجذّر موضوع حضور الشريعة منذ الأزل.

وبعد المنفى، ارتبط الفكر حول الشريعة بموضوع الحكمة الآتية من لدن الله. والنصّ الأول الذي دلّ على هذا الرباط بشكل دقيق نقرأه في مقطع متأخّر من سفر التثنية: »فاحفظوها (= الشرائع) وأعملوا بها، لأنها تُظهر حكمتكم وفهمكم في عيون الأمم كلّها« (4:6). فالحكمة التي كوَّنت عظمة سليمان، ما زالت معه ومع نسله الذي نزل عن العرش: فكأني بالنصّ يؤكّد أن حكمة اسرائيل الحقيقيّة آتية من الشريعة، وقد نقلها موسى للشعب كما أمره الربّ.

وقدّم أم 8 مديح الحكمة. وانطلق التقليد الرابيني من هذا الفصل ليُماهي بين الشريعة والحكمة. ومع ابن سيراخ، جاء التقاربُ واضحًا بين الشريعة والحكمة. ففي سي 4، الذي احتلّ قلب حكمة ابن سيراخ، امتدحت الحكمةُ نفسها، فذكرت أنها خرجت من الله، وتجذّرت بأمره في صهيون. ولما انتهت الخطبة، أضاف ابن سيراخ:

(23) كل هذا ليس سوى كتاب عهد الله العليّ،

الشريعة التي أعلنها موسى،

وتركها ميراثًا لجماعات يعقوب.

(25) هي تفيض بالحكمة مثل مياه فيشون،

مثل دجلة في فصل الثمار.

(26) تجعل العقل يتدفّق مثل الفرات،

وكالاردن في أيام الحصاد.

(27) تجعل العلم طافحًا كالنيل،

ومثل جيحون في زمن القطاف.

هذا المقطع الذي فيه تتوازى »الحكمة« مع »العقل«، يذكّرنا بما في تث 4:6، ويؤكّد أن الحكمة هي، في نظر إسرائيل، شريعة موسى. وإن هذه الشريعة هي، في نظره، ينبوع حكم وعقل وعلم. وعلى ضوء هذا الفعل المركزيّ، يجب أن نعيد قراءة سي 1:1- 10. فهذا النصّ يُشبه حك 9:13ي في أكثر من مجال: لا نكتشف فيه فقط الأسئلة البلاغيّة، وثلاثة من أربعة الأبعاد الحكميّة، بل تشابهًا في التفصيل لا يمكن أن يُخفى على أحد.

أما التساؤلات فهي أربعة. وكما في حك 19، السؤالان الأولان هما في صيغة المضارع. والاثنان الأخيران في صيغة الماضي الناقص. ونرى في السؤال الثاني ألفاظًا شبيهة بما في حك 19:16ج. كتب سي: »ارتفاع السماء... من يقيسه«؟ أما حك: »من قاس أمور السماء«؟ ثم إن السؤال الأخير في أسئلة سي الأربعة، يتماهى مع السؤال الأخير في حك 9: »من عرف«؟ ويقوم الاختلاف في أن السؤال في حك 9 يُشير إلى مشيئة الله. أما ابن سيراخ فتحدّث عن أصل الحكمة وأسرارها. وشرح سي 1:20: أصل الحكمة للإنسان هو مخافة الله. هذا الموقف الأساسيّ من التقبّل والطواعيّة المحبَّة، يتعلّق بمن يُتمّ الشريعة (2:15 - 17). وأسرارُ الحكمة هي الوصايا، كما تقول إضافةٌ قديمةَ إلى سي 1:5: »ينبوع الحكمة كلام الله في السماوات، وطرقُه الشرائع الأبديّة«. غير أن اكتشاف أصل  الحكمة وأسرارها، ليس في متناول الإنسان. فا وحده هو من يُوحي بها. وأخيرًا علّمنا سي 24 أن الحكمة التي سُلّمت إلى اسرائيل، هي الشريعة.

سياق الشريعة حاضرٌ، في أكثر من موضع، حين يتحدّث ابن سيراخ عن الحكمة. أما سفر الحكمة فلا يقدّم، في أي مكان، تماهيًا واضحًا بين الحكمة والشريعة. قد يكون هناك تلميح إلى ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن شريعة موسى هي الوسيط الذي به ترتبط الحكمة بالإنسان. إذن ما قاله سي 24 لم يستعدْه حك 9:17.

ما من كاتب في العهد القديم قرّب، كما فعل سي، بين الشريعة والحكمة. والإرشاد الكبير في با 3:9 - 4:4 يبدو متحفّظًا. فكتاب فرائض الله، الشريعة التي تقوم من الأزل (4:1)، ليس الحكمة ذاتها، بل طريق الحكمة أو المعرفة، أو الطريق التي تقودُ إليهما (رج أم 4:11؛ سي 6:26؛ 14:21). و »طريق ا« في با 3:13 تعني الطريق التي تقود إلى الله. هي الشريعة تقود الإنسان إلى الحكمة. وهذه الشريعة، كطريق إلى الربّ، سلّمها الله إلى اسرائيل وحده. فالفكرة التي نقرأها هنا، ليست تلك التي نجدها في حك 9:17، حيث مشيئةُ الله التي تعبِّر عنها الشريعة، لا تُعرَفُ إلاّ بموهبة الحكمة والروح القدس اللذين يهبهما الله.

وإذ نقرأ إرشاد باروخ، نلاحظ أيضًا الأسئلة البلاغيّة الواردة أعلاه (3:29 - 30) مع نصّ تث الذي يلهمها. يقال: الشريعة لا تُدركَ، لأنها أُوحِيت إلى اسرائيل، كما قال باروخ. أما جواب تث 30 فجاء مختلفًا، إذ قدَّم لنا نورًا جديدًا. ليست الشريعة بعيدة عنك، هي »في فمك وفي قلبك«.

والسؤال المطروح في حك 9:16ج (من استطاع أن يدرك ما في السماوات)، يجب أن يُفهم بالنظر إلى هذين النصّين الأخيرين. والجواب الذي أعطي في الله 17 يعني: ليست الشريعة بعيدة في السماء، لأن حكمة الله وروحه جعلاها قريبة من الإنسان. وتحدّث تث 30 عن شريعة في قلب الإنسان. هل نستطيع أن ننتقل من مقطع إلى آخر؟ أي علاقة بين »القلب« من جهة، و »الحكمة والروح« من جهة أخرى، هذا ما نحاول الجواب عليه.

ولكن قبل ذلك، يجب أن نقدّم بعض الملاحظات. مشيئة الله، ما يريده الله، وَصلَ إلى الإنسان في الشريعة. ومشيئةُ الله حين تخاطب الإنسان في الشريعة، تنتمي إلى عالم الله. وعالم الله ومشيئة الله في الإنسان، ليسا في متناول قواه الخاصة. فما لا تصل إليه القوى البشريّة، حسب تك 9، ليس الشريعةَ كموهبة أعطيت لاسرائيل، بل معرفة هذه الشريعة، ومعرفتها في العمق. لا الشريعة الخارجيّة، لا الشريعة الموسويّة، كما ترتّبت في نصوص التوراة، بل فهْمُ هذه الشريعة. ولكي يكون فهمُ الشريعة هذا في الإنسان، يجب على الله أن يمنح حكمتَه وروحه. وأخيرًا ما حاول سفرُ الحكمة أن يماهي بين الشريعة الموسويّة والحكمة، كما فعل ابن سيراخ.

3 - الحكمة والرّوحُ

ما تحقّقت الشريعة الموسويّة، الوصايا المحفورةُ على لوحي الحجر، في اسرائيل، خلال الحقبة الملكيّة. فكتابُ الملوك خبرٌ ظرفيّ يتحدّث عن انحطاط متواصل، رغم تنبيهات الأنبياء وتحذيراتهم، رغم المجهود الاصلاحي الذي قام به حزقيا ثم إرميا مع المدرسة الاشتراعيّة. هي الحقبة التي فيها قال إرميَا قولَه الشهير حين لاحظ أن العهد الذي »عُقد مع الآباء« قد نقضه الأبناء. ولكنه أعلن في الوقت عينه (لأن الله امين) عهدًا جديدًا. قال:

وستأتي أيام، أعاهدُ فيها بيتَ اسرائيل وبيت يهوذا عهدًا جديدًا... أما العهد الذي أعاهد بيت اسرائيل، بعد تلك الأيام، فهو هذا: أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا. فلا يعلِّم بعدُ واحدُهُم الآخر، والأخ أخاه، أن يعرف الرب. فجميعُهم من كبيرهم إلى صغيرهم سيعرفونني، لأنني سأغفر ذنوبهم ولن أذكر خطاياهم من بعد« (إر 31:33 - 34).

هذا العهد الجديدُ الجديدُ الذي أعلنه الربّ، يكون عملَ الربّ. ويتوخّى أساسًا أن يجعل الشريعة في داخل الإنسان، فتُكتَب في القلوب. وهكذا تعود، في الحقيقة، علاقةُ الالتزام المتبادل التي دلّت عليها عبارةُ العهد: »أكون لهم إلهًا، ويكونون لي شعبًا«. تكون هذه العلاقة شخصيّة (الإنسان تجاه ا) ومباشرة (بدون أية وساطة)، فتنتفي الحاجة إلى وسيط مثل موسى أو الأنبياء، كي يعرف كلُّ واحد الربّ: هذه المعرفة يهبها الله نفسه، فيعمل في داخل الإنسان وفي قلبه (إر 24:7). ويرافق هذا العملَ الإلهيّ غفرانُ الخطايا.

إن تث 30 الذي ذكرناه، يرتبط بنبوءة إرميا، وهذا دون أن نستطيع الكلام عن ارتباط الواحد بالآخر. ما يهمّنا هنا هو أن تث 30 يتحدّث أيضًا عن علاقة جديدة مع شعبه. فالصورة المستعملة هي صورة ختانة القلب (30:6): »الرب إلهك يختن قلبك وقلب زرعك«. وحين يُضيف تث 30 في الله 14: »الكلمة قريبة منك، هي في فمك وفي قلبك لتعمل بها«، نظن أن هذا هو عمل الربّ الذي وعد به إرميا في المستقبل، والذي اعتبره الكاتب الاشتراعيّ قد تحقّق منذ الآن.

ولكن كيف يتحقّق عمل الرب الجديد هذا، وكيف تدخل شريعتُه فتُكتب في القلوب؟ أجاب حزقيال بعد أن أستعاد كلام إرميا وبيّن أن هذه الشريعة تكون في داخل الإنسان، بروح الرب نفسه، بحيث يمارس شرائعه. ويرافق موهبة الروح هذه، التطهيرُ من كل نجاسة:

وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلبًا من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها... وأخلّصكم من جميع نجاستكم... (حز 36:26 - 27، 29).

ويعود التعليم نفسه كخاتمة الأقوال التي تسبق »توراة« حزقيال: »ولا أحجب وجهي عنهم بعد اليوم، لأنّي أكون أفضتُ روحي على بيت اسرائيل« (39:29). إن عبارة »أفاض الروح« جديدة في العهد القديم.

والكتاب لا ينسى التعليم النبويّ. ففي مز 143:10 نقرأ:

علّمْني فأعمل بما يرضيك (مشيئك)،

لأنك أنت إلهي.

روحك الصالح يهديني

في السبيل السويّ.

وهو روح الرب يُعين الإنسان لكي يُتمّ مشيئته كما تتجلّى في شريعته.

ونكتشف اتجاهًا يعتبر أن هذه النبوءات قد تحقّقت منذ الآن، في تث 30:14. ونجد الكلام عينه عن الروح في مز 51:12 - 13:

قلبًا طاهرًا أخلقْ فيّ، يا الله،

وروحًا جديدًا كوّنْ في داخلي.

لا تطرحني من أمام وجهك،

ولا تنزع روحك القدوس مني.

واستعاد يوئيل الذي دوِّن كلامه على ما يبدو، بعد المنفى، عبارةَ حز 39:29، ولكن في سياق مختلف: »أفيض روحي على كل جسد« (3:1). هذا التحقيق الذي تمنّاه موسى (عد 11:29)، تطلّع إلى موهبة الروح المعطاة للجميع.

ولا نعجب إن نحن وجدنا العبارة عينها في الآيات الأولى من ابن سيراخ (1:9 - 10):

هو الربّ أفاضها

على جميع أعماله.

على كل بشر بكثرةٍ،

وزّعها على الذين يحبّونه.

إن عبارة »أفاضها في كل جسد« تذكّرنا، بلا شك بما في يوء 3:1، ولكن هل نقدر أن نقرّب سياقًا من سياق؟ تحدّث يوئيل عن موهبة روح النبوءة. وابن سيراخ عن الحكمة. غير أن ابن سيراخ اعتبر، وهو الحكيم، أنه في خطّ الأنبياء (24:33). وقد يكون فكّر أن الحكمة هي طريقة أخرى بها نعبِّر عن بعض وجهات واقع مماثل، قد دعاه الأنبياء الروح. ويمكننا أن نتساءل في كل حال، عمّا تعني الحكمة بالنسبة إلى ابن سيراخ، فنرى بالتالي أن تعليمه أخذ بعض ما نجد في تعليم إرميا وحزقيال.

ا وحده الحكيم (سي 1:18)، وهو من خلق الحكمة (آ 9) منذ البدء (24:9). هي بقربه، وهي معه إلى الأبد (1:1). خرجت من فم الربّ (24:3)، فأفاضها على كل أعماله (1:9) في جميع البشر (آ 10). ولكنه ما وجد لها مسكنًا على الأرض، وسطَ الشعوب، إلاّ في اسرائيل. فوجدتْ أفضل تعبير عنها في شريعة موسى (24:23). غير أن دور الحكمة لا ينحصر في هذا الواقع الملموس من أجل الجماعة. فالحكمة ما زالت تدعو كلَّ إنسان (15:2). فيبقى على الإنسان أن لا يُطفئ الرغبة في ذاته (14:20ي). فعليه أن يطلب الحكمة في الصلاة (51:13ي)، والرب يمنحه إياها. وهكذا يتقدّم الحكيم في طريق الخير (51:17 - 18). فالحكمة تسهر على أولادها وعلى الذين يطلبونها (4:11).

إذا أردنا بعد أن نحدّد بُعد الدور الذي يعطيه سي لكل من الحكمة والشريعة، نشعر بالخطر. فإن اهتم الإنسان بالتامّل في الشريعة، فا يعلّم قلبَه ويمنحه الحكمة (6:37). وفي موضع آخر، في الملحق النهائيّ، يُقال أن الحكمة تُمنَح للإنسان المصلّي، فيقرّر أن يعمل بها في ممارسة الشريعة (51:18 - 19). فالحكمة الحقيقيّة تفترض تتميم الشريعة (19:20). وجاءت نصوصٌ أخرى فأعطت معنى آخر للفظ »حكمة«، حين قيل أن ممارسة الشريعة تقود إلى الحكمة (1:26). فبُعد الحكمة هنا بُعدٌ بشريّ، وهي تتوازى مع التأديب والعقل (24:25 - 27). وما يلفت النظر عند ابن سيراخ هو التواصل بين معنيَيْ »سوفيا« (الحكمة) بواسطة الشريعة. فالحكمة التي هي قدرة الله وعقله، التي تُمنح بشكل خاص لشعبه، وتقدَّم لكل إنسان، تقودُ كلَّ واحد إلى ما يريد ا: الشريعة التي نـمت نموٌّا عظيمًا، هي التعبير المعقول عن هذا العقل الذي يُدركه البشر حين يسمعون . وهي تدفعه إلى فهم هذه الشريعة المرتبّة لكي يُدرك الحكيمُ بُعدها ومعناها. وهي تدفعه أيضًا لأن يطبّق ما يريده الله. هي تحثّه على ممارسة الخير التي لا تختلف عن ممارسة الشريعة (51:18 - 19). عندئذٍ يجعل الإنسانُ هذا الحضور الإلهيّ يلج فيه، في عقله وفي كل أعماله، فيُحسَب في الحقيقة حكيمًا. فحكمته لا تأتي منه، بل هي وصول حكمة الله إليه. والشريعة التي يتأمّلها ويمارسها، هي في الوقت عينه ثمرة حكمة الله وينبوع حكمة الإنسان.

إن قابلنا هذه الأمور مع نبوءات إرميا وحزقيال، رأينا أن هذين النبيّين تحدّثا عن قطيعة وتجديد. أعلنا تحقيق هذا التجديد في المستقبل. غير أن ابن سيراخ نظر إلى تاريخ الخلاص نظرة مختلفة: هو ما تكلّم في أي  مكان عن العهد الجديد. وموهبة الحكمة عنده ليست موضوع رجاء: فقد مُنحت منذ البدء، فيبقى على الإنسان أن يتوافق معها، لهذا لا يتكلّم ابن سيراخ عن غفران الخطايا الذي وعد به إرميا وحزقيال.

أما أقوى نقطة تقارب، فنجدها ساعة أدرك ابن سيراخ، وإرميا وحزقيال، أن فهمَ الشريعة والعمل بها يستحيلان كلَّ الاستحالة على الإنسان إن لم يَنل قوّة أتت إليه من العلاء. هذه القوّة يدعوها حزقيال: روح الربّ. ويسمّيها ابن سيراخ: حكمة خارجة من لدن الله. استعاد ابن سيراخ في أولى آيات حكمته، عبارةً نبويّة حُفظت حتّى الآن للروح، فجعلها للحكمة، وهكذا أشار إلى عمل ضروريّ واحد. وإذ بيّن أن حكمة الله تفتح قلب الإنسان لفهم شريعته، لم يكن بعيدًا عن إرميا الذي وعد بشريعة داخليّة في قلب الإنسان.

وحين شابه حك 9:13 - 17 أولى آيات سي، في أكثر من وجهة، أضاف:

لو لم تمنحْهُ أنت الحكمة،

ولم ترسلْ من أعاليك روحك القدوس (آ 17).

نلاحظ أولاً أن »الحكمة« و »الروح« يردان متوازيين في شطرين اثنين: لم تعد الحكمةُ هنا، كما في إش 11:2، إحدى مواهب الروح. فهناك نصوص توارتيّة تبيّن اتجاهاً إلى التقريب بين الحكمة والروح. فتيّارا الفكر النبوي والحكمي في اسرائيل، وُجدا متّحدين اتحادًا ضمنيًا في سي 1:9 - 10. أما حك فجاء صريحًا. فإن كانت توسّعات في التيّار الحكمي، وبعض علاقة بين الشريعة والحكمة، فموهبةُ الحكمة تشترط فهمَ الشريعة، ولكن رفضَ حك أن يضع مع سي 24 ما قيل في تث 4:6، بحيث تصبح الشريعةُ المكتوبة واقعًا ملموسًا لحكمة الله، في اسرائيل. ولكن حين جعل حك الحكمة والروح على قدم المساواة، لتعبيرين متكاملين عن ذات الموهبة الإلهيّة، جعل نفسه في خطّ ما قاله إرميا وحزقيال من نبوءات. فالحكمة، في رأيه، تجعل الإنسان قادرًا على معرفة مشيئة الله، وأعلن إر 31 أن الوعد بالشريعة الموسويّة في الداخل، يُتيح لكل إنسان أن يرى الله. غير أن الموهبة التي أعلنها النبيّان تبدو بشكل قوّة داخليّة في الإنسان لكي تساعده على إتمام الشريعة. وهذه القوة يدعوها حزقيال: الروح. ولكن هل أخذ حك 9 بهذه الوجهة من التعليم النبويّ؟ ذاك هو السؤال الذي نحاول الإجابة عنه.

 

4 - ثمار موهبة الروح

انتهت صلاة سليمان في حك 9، بهذه الكلمات:

وهكذا استقامت طرقُ الذين على الأرض،

وتعلّمَ البشرُ ما يرضيك،

وبالحكمة نالوا الخلاص (آ 18).

في الشطر الأول، يعني الفعل »ديورتوو«: جعله في الطريق المستقيم. أدَّبه. أصلحه. أو: أصلح نفسه. أما في السبعينيّة، فيعني مرّة واحدة: جعله في الطريق المستقيم (أم 16:9 وفي السبعينيّة 15:29 ب). وفي أش 16:5؛ 62:7؛ إر 7:3، 5 يفترض عودة وتصحيحًا وإعادة بناء. ثم إن حك 10 يدلّ على أن دور الحكمة يقوم في تصحيح وضع خاطئ.

وتتواصل الآية: »وتعلّمَ البشرُ ما يرضيك«. نحن »نعمل« ما يرضي الله. أو: نعرف ما يرضي الله (با 4:4). شرح با 4:1 أن طريق المعرفة، طريق الحكمة، هي الشريعة التي تدوم إلى الابد. فاختتم قوله:

هنيئًا لنا، نحن اسرائيل:

تمكننا أن نعرف ما يرضي الله.

ما يرضي الله هو الشريعة. ويرى حك 9 أن البشر نالوا معرفة الشريعة بحكمة الله وروحه القدوس: هؤلاء البشر هم الذين سوف يتكلّم عنهم حك 10، مبتدئًا مع آدم. ولكن، باسرائيل، في شكل خاص، »ينتقل إلى العالم نورُ الشريعة الخالد« (حك 18:4). فالحكمة تعرف من الأزل مضمون »ما يرضي ا« (حك 9:9ج)، وتجعل سليمان يعرفه (آ 10د). ونلاحظ أخيرًا أن هذا النور الذي تحملُه الحكمةُ والروح، ليس عطيّة الله الفريدة، ولا الأولى في نظر حك. فما يحتلّ المكان الأوّل، هو إصلاح طرق البشر.

وتنتهي الآية، »وبالحكمة نالوا الخلاص«. فحكمة الله التي بها خلق الكون والإنسان (9:1 - 2)، هي أيضًا تلك التي بها يتحقّق خلاصُ البشر: فمسيرة البشر ليست فشلاً، ومخطّط الله وصل إلى مرماه، والإنسان نال الخلاص (صيغة الماضي الناقص تدلّ على أن كل شيء تنفّذ). فلفظُ الخلاص يرد في بداية عرض تاريخيّ سيدخل فيه الكاتب، ويظهر هنا للمرة الأولى. وخلاص الإنسان ليس فقط واقعًا من العهد الجديد. فيجب أن نتطلّع إلى هؤلاء الأبرار في العهد القديم: سيرسم حك 10 وجوههم ويقول: الله خلّصهم بحكمته.

والأفعال الواردة في 9:18 هي في صيغة المجهول، المجهول اللاهوتي. فإذا جعلناها في صيغة المعلوم كان الفاعل الله. الربّ يقوّم طرق البشر ويعلّمهم ويخلّصهم. هو يُصلح، بحكمته وروحه، طرقَ البشر. وهذه الحكمة التي هي قوّة خلقيّة، لا تُمنح حصرًا للأبرار: حوّلت آدم الخاطئ إلى قدّيس (10:1). وهي قوة داخليّة، ناشطة، تعمل مع الإنسان (9:10ج، 11ب).

حتّى إذا حضرت تُعينني...

فترشدني بصبرٍ في ما أعمل.

هي قوّة خلقيّة. وهي أيضًا نور تضيء الإنسان وتعرّفه بما يُرضي الربّ فتعبّر عنها الشريعة تعبيرًا صريحًا. وهي أخيرًا قوّة خلاص، تعمل في عقل الإنسان وفعلِه، فتُتيحُ له أن يحقّق الدعوة التي وجّهه الله إليه. تلك هي ثمار موهبة الله. وإذ يهب الله حكمته وروحه، يُتمّ بنفسه هذا العمل، بعطاياه.

وتعليم إرميا وحزقيال اللذين يريان أن الله يجدِّد معرفة الإنسان الدينيّة، ويغفر له ذنوبه، ويجعله يسير بحسب شرائعه، لبث حاضرًا. والفرق الوحيد الذي رأينا سوابقه في العهد القديم، هو أن تحقيق هذه المواعيد لا يكون في المستقبل كما يقول حك 9. ففي الماضي خضع أناسٌ، منذ آدم نفسه، لهذا العمل الذي فيه يحوّلنا الله ويخلّصنا. وأن يكون سليمان صلّى فطلب بإلحاح عطيّة الله هذه، يُشير إلى أن الحكمة والروح لم يُمنحا بعدُ للجميع. ذاك هو أحد العناصر الهامة في نبوءتي إرميا وحزقيال اللتين لم تتحقّقا بعدُ تحقيقًا تامًا. أعلنا موهبة  الله هذه للشعب كله. وإن كان سفر الحكمة اعترف بموهبة شخصيّة ينالها هذا أو ذاك في العهد القديم، فهو لا يؤكّد أن كل شيء يتمّ. هو لا يتمّ، كما نعتقد، إلاّ في العهد الجديد.

* * *

إن تحليل المناهج الأدبيّة والمواضيع اللاهوتيّة الحاضرة في حك 9:17 - 18، ألقت الضوء على هاتين الآيتين المفتاحين. من جهة، استُعمل السؤال البلاغيّ، كما هي العادة في العهد القديم، في سياق وحي. ومن جهة ثانية، بدت مواضيعُ الشريعة والحكمة والروح وكأنها تخصّ تياريّ النبوءة والحكمة، في حقبة ما بعد المنفى.

تحدّث الكاتبُ عمّا يريده الله من الإنسان، فما تجنّب فقط لفظ »شريعة« وإن هو فكّر فيها. ولكنه أفلت بشكل خاص من كل محاولة تقريب قد تقود إلى تماهٍ بين الحكمة وشريعة موسى المكتوبة. فهو يرى أن إدراك مشيئة الله في العمق، كما تتجلّى في الشريعة، يكون مستحيلاً على الإنسان إن كان الله لا يهبه حكمته. وعطيّة هذه الحكمة هي الشرط لكي يفهم الإنسان إرادة الله فيه. وهكذا يستعيد حك بعض الأقوال الحكميّة. غير أن أصالته تقوم في الوضوح الذي به أكّد ضرورة العون الإلهيّ. هو يدعو هذا العون: حكمة. ويدعوه أيضًا: الروح القدس. والتوازي الذي يطرحه يكشف وجهتين من العون الإلهيّ الضروريّ للإنسان.

وإذ قرّب الحكمة من الروح، استعاد بوضوح تيَّار فكر لاهوتيّ يجد جذوره في إرميا وحزقيال، في زمن المنفى. أعلن الواحدُ لجميع الشعوب عهدًا جديدًا فوعد بموهبة تجعل الشريعة في القلوب. وأضاف الثاني أن ذلك يكون بموهبة روح الربّ في قلب كل واحد. إن كان إرميا قد وعد بمعرفة حقّة للرب، فالنبيان أكّدا أن الربّ يقدّم الغفران لشعبه ويقوم بالإصلاح الخلقيّ. وقد يكون حك 9 فهم فهمًا صحيحًا أن الحكمة والروح ضروريان لكي يعرف سليمان ما يريده الله منه. ورأى أيضًا أن كل عودة في الطريق السويّ لا تكون ممكنة للإنسان إلاّ بهذه القوّة عينها التي يهبها الله له. والخلاص الذي يشمل استنارة المعرفة وإصلاح العمل، هو عمل الله الذي يهب حكمته. وإذ تطلّع إرميا وحزقيال إلى المستقبل، سار حك في طريق التوراة فرأى في التاريخ الماضي بعض الوجوه الكبيرة التي نالت الحكمة. إلاّ أنه لم يؤكّد أن قد تحققت منذ الآن الولادةُ الجديدة التي وعد بها النبيّان الشعب كلّه.

ويبقى أن حك 9 هو جزء من العهد القديم. ولكننا ننتظر العهد الجديد حيث تتحقّق في شخص المسيح ملء مواعيد هذين النبيّين. فبه تُستجاب صلاة حك ورجاؤه بالنسبة إلى شعب الله كلّه(*).

 

لمنفى. أعلن الواحدُ لجميع الشعوب لمنفى. أعلن الواحدُ لجميع الشعوب

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM