الفصل 28: حبّ الخالق للخليقة

حبّ الخالق للخليقة (11:23 - 12:2)

أ - المقدمة

في إطار تأمّل أخبار الخروج، كان كلام عن عبادة الحيوانات، وعن العقاب الذي ناله مثلُ هؤلاء العابدين. عاد الكاتب إلى ضربات مصر، فرأى فيها عقابًا للوثنيّين بسبب الذي فعلوه. أمّا العبرانيّون الذي عبدوا الإله الواحد، فلم يصابوا بأذى: في مصر الظلمة. ولدى العبرانييّن النور. لهؤلاء كان البحر طريقًا سالكًا، ولأولئك مقبرة جماعيّة فما نجا من يُخبر. وكل هذا تمّ بفعل الله القدير. فهو يرحم الآتين إليه، ويحبّ جميعَ النفوس. وإن أدّب فهو يؤدّب برفق، وفي أيّ حال يُطيل روحَه علَّ الخطأة يعودون إليه.

ونقرأ النصّ الكتابي:

11    23 -  لكنّك يا ربّ ترحم الجميع،

لأنك قادر على كلّ شيء.

وتتغاضى عن خطايا الناس،

لتُمهلهم حتّى يتوبوا.

24 -  وأنت يا ربّ تحبّ كلَّ موجود،

ولا تبغض شيئًا من أعمالك،

وإلاّ لما كنتَ أوجدته.

25 -  وكيف يقوم ما لا تريد دوامه،

بل كيف يستمرّ إلاّ بأمر منك؟

26 -  وإذا ابقيتَ كلّ شيء،

فلأنّه لك، يا ربّ،

الذي تحبّ جميع النفوس،

12     1  -  ولأن روحك الخالد في كلّ شيء.

2  -  فيه تؤدّب الخاطئين برفق،

وتذكّرهم بما يخطأون به،

وتُنذرهم ليتركوا الشرّ.

ويؤمنوا بك أيها الربّ.

1 - سياق النصّ

خلال تأمّل طويل بشكل صلاة (ف 9-10)، استسلم الكاتب لمشاهدة عمل الله الذي صار مفهومًا بفضل الحكمة (9: 9، 17-18)، ألقى نظرة سريعة إلى أحداث سفر التكوين وبداية سفر الخروج (10: 1 - 11: 14). ثمّ تفحّص تفاصيل الخروج من مصر (11: 15-19: 22). والموضوع الأوّل الذي لفت انتباهه حتّى 16: 1، مع استطرادات عديدة، هو العلاقة بين عبادة يؤدّيها المصريون لآلهة أخذت شكلَ حيوان، وبين عقوبات نالوها بواسطة مختلف الحيوان والحشرات. وتُضاف في 16: 2-4، ملاحظةٌ تُكمل الكلام، حول اللحم الذي اقتات منه بنو اسرائيل في البريّة، وارتباطه بعقاب المصريّين. فا كلّي القدرة (11: 17: يدك القديرة)، ويستطيع أن يعاقب المصريّين بشكل ساطع يشاهده الجميع، وبطريقة ناجعة تتجاوز ما فعل في الماضي. غير أنه فضّل أن يربّيهم، أو بالأحرى أن يؤدّبهم، ولو قسا عليهم، »بقياس وعدد ووزن« (11: 20). وإذ لاحظ الكاتب لطفَ الله ورِفقَه، قدّم بعض الاعتبارات حول العلاقة بين سلطان الله ورحمته. في هذا الإطار، يقعُ النصّ الذي ندرس.

إن اللانسبة الساطعة بين قدرة الله اللامحدودة وعطوبة الكون (كوسموس، 11: 21-22)، تؤسّسُ موقفَ الخالق تجاه الخليقة: موقف التقوى والحبّ. ويتوزّع هذا الموضوع في ثلاثة اتجاهات. الأوّل: إن الله كخالق قدير، لا يمكنه إلاّ أن يتحنّن على الخليقة الضعيفة والسريعة العطب (11: 23). الثاني: إنّ الله كخالق يُريد وجودَ الخليقة، ولا يمكنه إلاّ أن يحبّ الخليقة (11: 24-25: 15:1). والاتّجاه الثالث: إنّ الله كخالق لا يمكنه إلاّ أن يتمنّى للخليقة بأن تكتشف دعوتَها وتعرف أنها مُلكٌ للربّ (12: 1).

2 - رحمة الخالق (11:23)

تبدو صلاة الكاتب في 11: 23 - 12: 2، بشكل خطبة باطنيّة، حميمة. لهجتُها لهجةُ الثقة والسجود. وهي خطبة تدفع الإنسان للاستسلام إلى المشاهدة، بحيث لا يرى سوى محبّة الله التي لا تُحدّ. من أجل هذا، نجد أقوالاً تبدو حقيقيّة ساعة اللقاء مع الله، وتطرح عددًا من الأسئلة في ساعات أخرى: »ترحم الكلّ لأنّه قادر على كلّ شيء«. نقرأ لفظ »كل« (جميع) اكثر من خمسين مرّة في سفر الحكمة هذا.  هو لا يُستعمل بشكل تحديديّ، بل من أجل الإطناب والإسهاب. غير أنه يتّخذ كل ثقله (ترحم الكل، تقدر على كل شيء) في هذا القول اللافت حيث يتأمّل الكاتبُ با ويعارضه بكل ما ليس الله. الله هو من جهة، والكون كلّه من جهة أخرى. لا يُفلت شيء من سلطان الله. وفي الوقت عينه لا يُفلت شيء من رحمته. تلك فكرة عزيزة على قلب القارئ، وهو سوف يتوسّع فيها في 12: 13-18: الله كلّي القدرة. إذًا، هو رحيم لأنّه لا يخاف شيئًا (15: 1).

إذا كان الله كلّيَّ القدرة، فالخلائق لا تتحلّى كلّها بالحكمة لتخضع لمشيئته. هنا نلامس عصب تفكير الكاتب، لأنّنا نلتقي بموضوع يمنح كتابه انشدادًا متواصلاً (كما في مجمل الأدب الحكمي في الكتاب المقدّس): فالإنسان الذي هو أسمى خلائق الله، يقترف الذنوب والخطايا فيضلّ (2: 21-22: 5: 6: 12: 24) رافضًا أن يعرف خالقه. سنعود إلى هذه المسألة فيما بعد. أمّا هنا، فالكاتب لا يوضح سبب الضلال هذا، إلاّ أنّه يذكّرنا أن الخليقة الضالّة هي التي تحرّك الرحمة لدى الخالق. فا لا يقدر أن يُلغي الخطيئة، وإن وصلت بعضُ النصوص التوراتيّة إلى مثل هذا القول. ولكنه لا يحسبُها، لا يعدّها. هو يغمض عينيه عنها بانتظار أن نصلح نفوسنا ونحسّن سيرتنا، بانتظار توبتنا وعودتنا. وتمتدّ رحمة الله إلى جميع البشر. غير أنّ الكاتب يعرف أيضًا أنّ في وسط مجمل الخلائق الجاهلة، هناك شعب يعرف الله ويَنعم، بشكلٍ مميّز، برحمته التي لا حدّ لها (2: 9؛ 16: 10).

3 - محبّة الخالق (11: 24-25؛ 12: 1)

وتابع الكاتب مناجاته فاستعمل ألفاظًا لافتة جدٌّا، ونحن نكتشف في هذه الآيات الثلاث اعتبارات ثلاثة حول محبّة الله.

أ - الاعتبار الأوّل (آ 24)

قال سفر الحكمة: الله لا يخلق شيئًا يُبغضه. هذا يعني أنّه لا يخلق إلاّ ما يحبّ. إذن، هو يحبّ كلَّ الخلائق.

من الواضح أن الكاتب يتحرّك في الكون كما يصِفُهُ سفر التكوين في الفصل الأوّل: هو الله ينظر بعينِ الرضى إلى ما خلق. »ورأى الله أن ذلك حسن« (تك 1: 5، 10، ..12.). هذا يعني أن كلّ شيء يوافق مشيئته. وفي نهاية كلام الشاعر حول الخلق، هتف بفم ا: »نظر الله إلى كل ما رآه فإذا هو حسن جدٌّا« (تك 1: 36). لا ينقصه شيء من العظمة والجمال.

غير أنّ سفر الحكمة ابتعد بعض الشيء عن الفكر الحكميّ التقليديّ، كما عن الفكر النبويّ. فالتقليد الحكميّ لا يتردّد في القول بأن الله، ولأسباب لا نقدر أبدًا أن نعرفها، يعارض بعمله مبادئ محبّته. هنا ننظر إلى وضع أيوب حيث »أجبر« الله على الإقرار بأن ملاك الشرّ دفعه رغمًا عنه، إلى أن يقسو على أيوب، بشكل يخالف العقل كلّ المخالفة (أي 2:3). لقد عرفت الحكمةُ التقليديّة أن عمل الله لا يمكن أن نفهمه دائمًا. نقرأ في أم 16: 4:»الربّ صنع الجميع لغاية ما، حتّى الشرير لسوء المصير«. أترى خلق الله بعض الأشياء لكي يدمّرها؟ ونقرأ في إر 45: 4، بلسان الربّ: »سأنقضُ ما بنيتُه، وأقلعُ ما غرستُه، في كل هذه الأرض«. وأعلن أشعيا أن غضب الله حاضر، وأن عمله يعارض نفسه: »ويقوم الربّ كما في جبل فراصيم (انتصار داود علىالفلسطيين في بعل فراصيم، الله صم 5: 30)، ويغضب كما في وادي جبعون (حيث انتصر داود، 2 صم 5: 25)، فيعمل عملَه العجيب، ويفعل فعله الغريب« (أش 28: 21). فما هو هذا الفعل »الغريب«؟ سيكون الربّ مع الأشوريّين على شعبه (أش 5: 12، 19: 22: 11).

وكاتبُ سفر الحكمة لا يتراجع، بدوره، أمام أقوال مشابهة، فيشيرُ مثلاً إلى شعوب هلكت، لأنّ الربّ قرّر إزالتها (12: 12). أمّا أحد همومه الرئيسيّة فيقوم بأن يبيّن أن الإنسان الضال الذي يستمرّ في ضلاله، سوف يزول في النهاية. وهكذا يلتقي سفر الحكمة مع التقليد الحكميّ، في هذه النقطة. إذن، يجب أن نجعل بجانب الله 4، الذي يستخلص حبّ الله للكون من واقع يقول إنّه يحبّ كلَّ ما خلق، 7: 28 حيث يُقال إنّ الله لا يحبّ إلاّ الذين يسكنون مع الحكمة. أي يفهمون معنى وجودهم الحقيقيّ كخلائق تجاه الله.

ب - الاعتبار الثاني (آ25)

يقول سفر الحكمة: لا يدوم شيء من دون إرادة الله الصريحة. فإن وُجدت الأشياء، فلأن الله يريد لها أن تُوجَد، ولأنّه يحبّها.

ها نحن أيضًا أمام فكرة رئيسيّة في نظر الكاتب: ما يرفضه الله لا يمكن أن يستمرّ في الوجود. مثلاً الموت الذي هو الشرّ الشرّ. الله لا يريده. وبالتالي هو لم يخلقه (1: 23-24: 2: 3). ومع ذلك، لا يتجاسر أحدٌ على إنكار واقع الموت. إذن، لا شكّ بوجود قوّة، هي الموت، ما أرادها الله. ومع ذلك، هي تترك خرابًا وخرابًا في عمله.

كيف نفسّر هذه الظاهرة الغريبة، التي لا تتوافق مع رحمة الخالق التي لا حدود لها؟ يرى سفرُ الحكمة أن سبب وجود الموت هو جهل البشر. هو عمى يحرّكه شرُّهم. نقرأ في 2: 21 عن الأشرار: »الشرّ أعمى بصائرهم«. وتحدّث 4:11 عن التقيّ »الذي أخذه (ا) سريعًا لئلاّ يُفسِد الشرُّ عقلَهُ ويستولي الباطلُ على نفسه«. ويهتف الأشرار بألم وحسرة: »وكذلك نحن، ما إن وُلدنا حتى بدأنا نقترب من آخرتنا غير تاركين أثرًا لفضيلتنا، بل فنينا في ما ارتكبناه من الرذائل«.

بل إن هذا الشرّ يُولَدُ معنا. قيل عن الكنعانيّين: »نفسهم فاسدة وخبثُهم متأصّل فيهم، وأفكارهم لن تتغيّر« (12: 10). ولكن الكاتب لم يعرف أصل الشرّ ولا أصل الموت. فالموت لا وجود له سوى للجهّال، للأشرار. لا وجود له للأبرار الذين لا يجتذبهم الجهل. »فمع أنّهم في نظر الناس يُعاقَبون، فرجاؤهم أكيد أنهم خالدون« (3: 4). وفي 4: 1 نقرأ: »أما الأتقياء فيجدون الراحة، وإن ماتوا شبابًا«. ومثَلُ أخنوخ معروف :»رضي عنه الله فأحبّه، وكان يعيش بين الخاطئين فانتشله منهم« (آ 10). فالمؤمن يعرف الله حين يتأمّل في الكون: لا وجودَ للشرّ. لا وجود للموت: »ما أبغضتَه لم تخلقه. فأنت تحبّ جميع الخلائق«.

ج - الاعتبار الثالث (12: 1)

قال سفر الحكمة: روح الله الخالد موجود في كلّ شيء. الأشياء الموجودة أوجدها الله نفسه. وهو يؤمّن لها قوّتها واستمراريّتها. هنا عاد الكاتب إلى فكر العهد القديم فكان أمينًا له. نقرأ في مز 104: 29-30: »تحجب وجهك فتفزع، وتنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود. تُرسل روحك فتُخلَق، وتجدِّد وجهَ الأرض«. وفي أي 34: 14-15:»لو لم يفكّر الله إلاّ بنفسه، فاستعاد روحه ونسمته إليه، لفاضت أرواحُ البشر جميعًا، وعاد الإنسان إلى التراب«.

فا لا يحبّ الكائنات وحسب، بل هو يَلِجها، ويجعل فيها الحياة.

4 - تربية الله للخلائق (11:26؛ 12:2)

دمجنا هاتين الآيتين لأنّهما تحدّدان مسيرة التربية الإلهيّة من جهة، ومن جهة ثانية تبيّنان مرمى هذه التربية وهدفها.

أ - مسيرة التربية الإلهيّة (11: 26)

تُذكر هنا أربع مراحل. الأولى: أبقى الله على الخليقة الضعيفة لأنّه يحبّها. وقد سبق الكاتب فبرهن أن الله يحبّ كلَّ خليقة من خلائقه. الثانية، الله يعاقب  الضالين شيئًا فشيئًا. وسوف يبرهن الكاتب عن ذلك في آيات تشرح تاريخ الكنعانيّين الذين يمثّلون اكره نموذج للبشريّة الضالّة. المرحلة الثالثة: يشير الله إلى الخطيئة. وهذا ما سيبرهن عنه الكاتب في تاريخ المصريين: يُعاقَبُ الإنسانُ دومًا بشكل تصبح فيه طبيعةُ الضلال واضحة. »تعلّمهم أن الإنسان يُعاقَبُ بما به خطئ« (11: 16). إذن، العقاب يدلّ دلالة واضحة على الخطيئة التي اقترفها الإنسان. المرحلة الرابعة: الله يحضّ الإنسان الضالّ. تبدأ محاولاته ضعيفة وتقوى، يومًا بعد يوم. يسايره. يعاقبه عقابًا متدرّجًا. ينبّهه ويحذّره. يحثّه بشكل مباشر. وفي كلّ هذا، تسطع حكمةُ الله التي لا حدّ لها، والتي يوجّهها حبُّه لخلائقه.

ب - هدف التربية الإلهيّة (12: 2)

على الإنسان أن يميل عن الشرّ. وعليه أن يؤمن بالربّ. فالكاتب يرى أنّه من السهل على الإنسان أن يتوب. فالشرّ يلد من رباط وثيق مع جهل الخالق وعدم معرفته. ويزولُ ساعة يزول الجهلُ فيكتشف الإنسان حكمة الخالق. الميل عن الشرّ يعني الحياة في معرفة الله. والإيمان هو في جوهره، غياب الشكوك التي هي تفكيرٌ يُبعد الإنسان عن الله (1: 2-3). في الواقع الإيمانُ هو الموقف العاديّ والطبيعيّ للإنسان قدّام الله، للإنسان الذي يحلّل بعقله الكون وعجائبه، فيجد الله (13: 1-29)، وبالتالي يكتشف وضعه الحقيقي كخليقة خالدة تبقى أمينة في الحبّ وتلبث لدى الله (3: 9).

خاتمة

من خلال مناجاة طويلة، اكتشف الكاتبُ رحمة الله، لأنّه القدير الذي يسمح لنفسه أن يتسامح مع الإنسان، يسايره في ضعفه، قبل أن يرفعه إليه. وهذه الرحمة تنبع من المحبّة. الله خلق خلائق يحبّها، ولهذا فهو يرحمها، ويرحم الإنسان بشكل خاصّ. فلولا محبّة الله، لما وُجدت واحدة من الكائنات. ولولا رحمة الله، لما استمرّ شيء في الوجود. وما يعطي الخلوقات قيمتها، هو أن الروح الخالد يُقيم فيها. أترى الله يدمّر روحه الذي أخرج الخليقة إلى الحياة، منذ بداية الكون، حين أخذ يرفّ على الحياة (تك 1: 2)؟ كلاّ ثمّ كلاّ. هو لا يدمّر، بل يحاول أن يبني شيئًا فشيئًا، فيعمل عملَ المربّي مع طفله. هنا نلتقي مع هوشع الذي حدّثنا عن الله الذي يمسك شعبه بيده كما الوالد يمسك ابنه، فيعلّمه المشي، ويحمله على ذراعه (هو 11: 1 ي). والهدف الذي يتوخّاه هو أن ينقل الإنسان من الجهل إلى المعرفة، ومن الشر إلى الخير. مثلُ هذه الخليقة تعيش الأمانة ، وتلبث لدى من خلقها فيحفظها في الحياة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM