الفصل 27: من يلج أسرار الله

الفصل السابع والعشرون

من يلج أسرار الله (9:13 - 18)

أ - المقدمة

طلب سليمان أن يكون عريس الحكمة لكثرة ما فُتن بجمالها. فالحكمة عطيّة تجعله يشارك في نعمة الله، تجعله يمتلك كلَّ خير. فبدون الحكمة لا ينجح مشروع من المشاريع، ولا يستطيع مَلك أن يحكم بحسب مشورة الله. فالحكمة الإلهيّة تحمل إلى الإنسان الخلاص، وتجعله يلج أسرار الله.

تلك هي صلاة سليمان وفيها نداء إلى الله (9: 1-4)، وكلام عن ضعف الملك الشاب تجاه مسؤوليّاته (آ 5:-8). لهذا رفع الملك صلاته إلى الله لينال مساعدة الحكمة (آ 9-12) التي بدونها لا يستطيع أحد أن يعرف مشيئة الربّ ويعمل بها.

ونقرأ النصّ الكتابي:

13. من يحكم أفكارك، أيها الإله

ومن يدرك مشيئتك أيها الرب؟

14. فالعقل البشريّ قاصر،

ووسائله عاجزة كلَّ العجز.

15. لأن الجسد الفاني يُرهق النفس،

والمسكن الأرضي يعيق الفكر.

16. وإذا كنّا نحن البشر غير قادرين

أن نعرف ما على الأرض، بل ما هو أمام عيوننا،

فكيف نقدر أن نعرف ما في السموات؟

17. من يعرف أفكارك إذا أنتَ لم تمنحه الحكمة،

ومن عليائك ترسل إليه روحك القدوس؟

18. ففي الحكمة وحدها يستقيم مُلكُ البشر على الأرض،

ويتعلّمون ما يرضيك وينالون الخلاص.

1 - سياق النصّ

هذه الآيات التي أُخذت من حك 9، تشكّل القسم الأخير من مناجات وصلاة توسّل. وهي تمثّل مركزًا رئيسيٌّا في سفر الحكمة كلّه، وبشكل خاص في ف 6-9. نستطيع أن نعنونها: بحث مشوّق عن الأسباب اللاهوتيّة التي تُشرف على التاريخ البشريّ وعلى حياة كلّ إنسان.

في سفر أيوب (ف 38 - 42)، وأمام سرّ الكون وامتداد قوى الطبيعة، لا مجال إلاّ للإعجاب الصامت. أمّا ابن سيراخ (42: 15-43: 34) فيعتبر أن الرغبة في معرفة الإنسان والكون غير مفيدة، وتطبيقها يحمل الخطر الكبير. ولكن كاتب سفر الحكمة، الذي تماهى مع سليمان الملك (7: 17-21)، أقرّ وهو مسرور من نفسه، على مثال الملك الحكيم، أنّه ألمَّ بجميع علوم عصره، من خلال الحضارة الهلينيّة: علم الكون والطبيعة والفلك. حساب الزمن، طبع الحيوان، نفسيّة الإنسان. ووافق عقليّةَ أهل الإسكندريّة، فنسب هذه المعارف إلى نعمة خاصّة من لدن الله.

غير أنّه، ساعة أراد أن ينطلق في تأمّل لاهوتيّ حول تاريخ شعبه (ف 10-19)، اعترف أن هناك معرفة سامية. معرفة تتيح للإنسان أن يكتشف ما يُشرف على مسيرة الأشياء وحياة البشر، على مرّ العصور، وفي الواقع اليوميّ. هذه المعرفة التي ترتبط بنظام آخر، ليست بمتناول المجهود البشري. إنّها عطيّة مجانيّة من الله على أثر  وحي مباشر، على مثال ما حصل للأنبياء.

بعد هذا، ما يقوله الكاتب في الله 13-18، وفي سياق ف 9، يجد موقعَه في هجوم على الفكر الهليني المعاصر. فقد اعتبر هذا الفكرُ أن مسيرة التاريخ البشريّ تخضع لقدرة غامضة، للقدَر أو لتوجيه عناية عاقلة. هذه النظرة إلى التاريخ سادت، مدّة طويلة، العقلَ اليونانيّ، قبل المسيحيّة وبعدها، أي منذ سنة 300 ق م. إلى سنة 300 ب م. أما هذه الصلاة في سفر الحكمة، فعادت إلى الملك سليمان: »ها أنا وسط شعبك الذي اخترتَهُ، وهو شعب عظيم لا يُحصى ولا يُعدّ لكثرته. فامنحني عقلاً مدركًا لأحكم شعبك وأميّز الخير من الشرّ، وإلاّ كيف أقدر أن أحكم هذا الشعب الكثير« (1 مل 3: 8-9). وفي 2 أخ 1: 10، طلب سليمان »الحكمة والمعرفة«. وشدّد الكتابُ هنا علىالصعوبات التي تقف في وجه الإنسان لينال الحكمة فيلج أسرار الله ومخطّطه في تاريخ البشر.

2 - الإنسان محدود وعقله قاصر (آ 13-14)

بدأ النصّ (آ 13) فبيّن ضعف الطبيعة البشريّة التي هي محدودة، وطرح سؤالاً يقلق الإنسان، سؤالاً قريبًا من سفر الجامعة ومن حكمة ابن سيراخ. »اتَّقِ الله واحفظ وصاياه، فهذا فرض على كلّ إنسان. وا سيحاسب كلَّ إنسان على عمله، خفيٌّا كان أم ظاهرًا، وخيرًا كان أم شرٌّا« (جا 12: 3-14). ونقرأ في سي 43: 27-28: »مهما أكثرنا من الكلام نبقى مقصّرين، وخلاصة القول إن الله هو الكلّ. فمن أين لنا القدرة على تمجيده، وهو الذي يعلو في عظمته على جميع مخلوقاته...«؟

»من يعلم أفكارك«؟ سؤال ينتظر جواب النفي: لا أحد. من يُدرك مشيئتك؟ والجواب: لا أحد. جاء التساؤل في عبارات قويّة، مع تعارض جذريّ بين الله والإنسان، بين معرفة البشر واختباراتهم وإرادة الله المطلقة، بين العقل البشريّ وعطوبته وفكر الله الكليّ القدرة.

تلك هي الصعوبة الأولى التي تجعل الإنسان يرتمي على ركبيته قدّام الله. ففي الماضي، أطلق أشعيا الثاني هذه الفكرة بالنسبة إلى المنفيّين في بابل: »من كال البحار بكفّه، وقاس السماوات بالشبر؟... من أرشد روح الربّ، أو كمشير له علّمه؟... من لقّن الربّ معرفة وأراه طريق الفهم؟ ها الأمم كنقطة في دلو، وكغبار في ميزان« (اش 40: 12-15). واستعاد بولس الرسول كلام النبيّ، متحدّثًا عن مصير شعب إسرائيل بالنسبة إلى انطلاقة كنيسة المسيح: »ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه؟ فالكتاب يقول: من الذي عرف فكر الربّ... فكل شيء منه وبه وإليه. فله المجد إلى الأبد« (روم 11: 33-36).

في كلّ هذه الحالة، نحن أمام الوضع البشريّ الذي هو سريع العطب. أمام الصعوبات التي يُحسّ بها الإنسان حين يُريد أن يلج أسرار الله في التاريخ البشري. ما أضعف هذا الإنسان الذي لا يقدر أن يتجاوز ما لا يمكن تجاوزه، الذي يستصعب أن يقبل بحكمة الله التي يعتبرها »عبثًا«.

في الله 14 ندخل في صلب المسألة التي طرحها عجزُ الإنسان أمام سرّ الله. عُرضت صعوبة أخرى أكثر خطورة. العقل البشري قاصر. هو يُخطئ ويسقط. يسيطر الخوفُ على فكر الإنسان ويجعل مقاصده متقلّبة. فيصعب عليه أن يوفِّق توفيقًا كاملاً بين يقينه السامي وأعمال الحياة اليوميّة بما فيها من تفاهة. وقول الكاتب هو من الخطورة بمكان، لأنّه لا ينعم فقط بالضمير (والوجدان) الذي ينعم به جميع البشر، بل ينعم بشكل خاصّ بعطيّة الشريعة التي تحدّد حياتَه في أدقّ تفاصيلها. من أجل هذا، نستطيع أن نرى لدى هذا المؤمن، في الشتات، بروزَ عاطفة لا تطمئنه بالنسبة إلى قيمة الشريعة كقاعدة حياة، وبداية أزمة تجعله يتساءل حول مصيره. نجد صدى لكلّ هذا عند نيقوديمس الذي جاء إلى يسوع ليلاً: »نحن نعرف أنّ الله أرسلك«. قال يسوع: »ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلاّ إذا وُلد ثانية«. فسأل نيقوديمس مدِلاٌّ على عجزه: »كيف يولد الإنسان وهو كبير السنّ« (يو 3: 2-4)؟ كما نجده عند القدّيس بولس في الرسالة إلى رومة: »فماذا نقول« (7: 7)؟ ماذا نستطيع أن نقول؟ فالإنسان أعجز من أن يدرك سرّ الله في حياته، كما في التاريخ البشريّ.

3 - الجسد الفاني وخبراته (آ 15-16)

وتُضاف صعوبةٌ ثالثة تمنع الإنسان من الارتفاع إلى مستوى فكر ا: فهو ليس بروح محضٍ، شأنه شأن الملائكة. هو يريد أن ينطلق نحو الله، ولكن الجسد الأرضيّ والفاني ثقيل عليه. والحاجات الخاصة تَضغط عليه وتُخضعه لضرورات نسبيّة، فتُوقف توقه إلى الروحيّ والإلهيّ والخالد: فالجسد الفاني يُثقل النفس، وخيمة الطين تُعيق العقل بأفكاره العديدة.

إن هذا المقطع من سفر الحكمة يطرح عددًا من الأسئلة الخطيرة حول ارتباط ممكن بالفكر الفلسفيّ لدى أفلاطون والرواقيّين. لن نعرض هذه المسألة ولن نتوسّع فيها. بل نكتفي بأن نلخّص فكر المفسّرين حول معنى هذا النصّ.

يفترض هذا النصُّ نظرة يونانيّة إلى العلاقة بين النفس والجسد. ولكن دون فرضيّات سابقة. فالكاتب يعتبر أن اتحاد النفس والجسد أمر عاديّ، لأنّه يوافق الطبع البشريّ كما أراده الله. ولكن إذ رغب في أن يؤكد، في الوقت ذاته، على ضرورة النعمة والوحي الإلهيّ لإدراك الكمال (آ 6)، ومعرفة مشيئة الله، تطلّع إلى الإنسان في وضعه الملموس، وشدّد على السبب العميق لمحدوديّته في نظام المعرفة: فالنفس تتّحد اتحادًا وثيقًا بالجسد الأرضيّ الهادئ، الذي يُرهقها ويُحدرُها إلى الأمور الماديّة، ويُعيقها أو يجمّد انطلاقتها، ويحدّ من إمكانيّات العلم عندها. كما أنّه يفرض عليها أن لا تتطوّر إلاّ عبر استهلال يتطلب الجهدَ الكثير(آ 16). ثمّ بسبب ضرورات الجسد ومتطلّباته المتواصلة، تتشتّت النفسُ دومًا، تتمزّق، تُجتذب في كلّ جهة. والعقل المفكّر تُتعبه الهمومُ المتعدّدة. وهكذا نكون أمام شرح سيكولوجيّ له صداه الدينيّ المباشر المستند على أساس ماورائي.

وتأتي الله 16 فتشدّد على عطوبة الإنسان في معرفة الأمور السامية. وهكذا لا يكون للإنسان من يقين في مجال الخبرة المباشرة. فهناك أكثر من صعوبة لمعرفة الواقع البشريّ، الأرضيّ في ذاته، مع أنه يقع تحت حواسنا: نجهد لمعرفة ما علىالأرض، ونجد بصعوبة ما هو في متناولنا، ما في أيدينا. بعد ذلك، من يقدر أن يكتشف ما في السماء؟ فلا تعارض هنا مع ما قاله الكاتب من قبْلُ حول معرفته التامّة لكل الحقائق الأرضيّة وعلوم زمانه. فقد سبق له وأقرّ أن كل هذا العلم يأتيه من حكمة يُعطيها الله (7: 17-21: 8:8). وها هو الآن يوجّه كلامه إلى أهل العلم الذين اعتقدوا في زمانه أن علمهم كامل، وأنهم حصلوا عليه بقواهم الشخصيّة وحدها.

4 - عطيّة الحكمة وقصد الله (آ 17-18)

والنتيجة: وحدها الحكمة المعطاة من قبل الله، تُتيح للإنسان أن يعرف مقاصد الله. حين وصل الكاتب إلى هذه النقطة من خطابه، كان بإمكانه أن يَسقط في اعتبارات مخيّبة حول ظروف تعيسة يعرفها الإنسان الذي لا يستطيع أن يبلغ إلى يقينٍ سامٍ بعمله، وبحياته بشكل عام. وهذا في الواقع ما حصل في سياقات مماثلة من الفكر اليونانيّ حول الإنسان وحدوده. غير أن إيمان الحكيم الإسكندراني وتفاؤله، جاءا عكس فكر سفر الجامعة (3: 21-22)، فآمنا بعطيّة الله التي تتيح للإنسان أن يعرف أعمال البشر وأحداث التاريخ ويقدّرها حقّ قدرها: من يسعه أن يعرف مشيئتك إن كنتَ أنت لا تمنحه الحكمة، وإن كنتَ لا تُرسل إليه من العلاء، روحك القدّوس (2-17)؟ هو سؤال يفترض جوابًا بالإيجاب: لا شيء ممّا يحصل للإنسان غريب حقٌّا عن مشيئة الله، عن قصد خلاصه وحبّه، ولكن لا يمكن أن نكتشفه إلاّ بعطيّة الحكمة وبالروح القدس، بموهبةٍ يقدر الله أن يمنحها للبشر. على مرّ التاريخ، نال بعضُ المؤمنين المميّزين نعمة حقيقيّة. وهكذا استطاعوا أن ينجوا بنفوسهم بفضل تقدير صحيح للبشر، للأشياء، للأمور وللحياة الخلقيّة. دخلوا، ولجوا فكر الله. وهذا صارت طرق العائشين على الأرض مستقيمة. فتعلّم البشر ما يرضيك، يا ربّ، ونالوا بالحكمة الخلاص (آ 18).

ولكن ما هي هذه الحكمة التي يطلبها الكاتب في ف 9؟ يبدو أنّنا أمام وحيٍ حول طريقة الله في تصرّفه بالنسبة إلى أمور البشر. وهذا ما ندعوه عناية الله في تاريخ البشريّة، وفي تاريخ كل إنسان. نال صاحبُ الحكمة هذه المعرفة (7:7)، فأتاحت له أن يكتشف عبر أحداث البشر، وبشكل خاص، غبر أحداث شعب إسرائيل، يدَ الله التي تقود البشريّة كلّها بحسب مشيئته.

خاتمة

إن قرأنا هذه القطعة في مجمل ف 9، نكون أمام تفاؤل حقيقيّ حول معرفة قصد الله بالنسبة إلى العالم. ولكن إن قرأناها وحدها، فهي تحمل تشاؤمًا غامضًا إذ تشدّد على صعوبة المعرفة البشريّة بشكل عام، ولا سيّما حين تحاول أن تتحرّى أمور الله. وقد نشعر بأن الكاتب رأى تعارضًا جذريٌّا بين حكمة الله وأفكار البشر.

ولكن يجب أن نقرأ الله 13-18 في ارتباط بالفصل التاسع. حينئذ نكون أمام صلاة رائعة بها نطلب من الله النعمة وعطيّة الحكمة، ونحن متيّقنون تيقنًا عميقًا بأنّنا نستطيع أن نحصل عليهما، كما حصل عليهما كاتب سفر الحكمة بعد أن طلبهما بإلحاح. بعد هذا، يستطيع كلُّ صاحب مسؤوليّة في الجماعة أو في الأسرة، أن يتلو هذه الصلاة الجميلة بثقة كبيرة. فالحكمة موهبة يجب أن نطلبها لكي نحكم حكمًا صائبًا على الأشخاص والأشياء والأمور، لا في زماننا وحسب، بل في كلّ التاريخ السابق، وفي ذلك الذي ينتظرنا بما فيه من تقلّبات واهتمامات. ونحن لا ننسى الصلاة التي دعانا إليها يسوع: »فإذا كنتم أنتم الأشرار، تعرفون أن تعطوا أولادكم العطايا الصالحة، فكم أحرى بأبيكم السماويّ أن يُعطي الروح القدس للذين يطلبونه...« (لو 11:13).

طلبهما بإلحاح. بعد هذا، يستط

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM