الفصل 18: تأليه البشر

تأليه البشر (14:1 - 13)

أ - المقدمة

وانتقل الكاتب إلى مجال آخر يودّ فيه الصنمُ أن يلعب دورَ العناية الالهية. هذا المجال هو الملاحة حيث لا تظهر مهارةُ الانسان، بل عناية الله الحقّة. حسب الملاّحون أن الصنم يعتني بهم، فجعلوه في مقدمة سفينتهم. ولكن الاصنام وصانعيها يستحقّون اللعنة: ضلّوا وأضلوا الناس. وقدم لنا الكاتب مثلين يدلان، على أصل عبادة الأصنام: أبٌ ينظّم العبادة لابنه، وشعب يقدم العبادة لملكه. وهكذا أضاع الناس الاحساس بوجود الله، ففسدوا في حياتهم كلها. أجل، السبب في كل الشرور هو هذه الأصنام التي قطعت الطريقَ أمام الاله الحقيقي.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - مثل الملاحة (14:1 - 11)

(14:1) كانوا يضعون في مقدمة السفينة أو مؤخّرها صورة الاله (رج أع 28:11: كاستور وبوليكس، الالهين التوأمين). وكانوا يدعونه قبل الرحيل، وحين تهبّ العواصف.

(آ 2 - 3) والسفينة أفضل من الصنم، وفيها المهارة والتقنية اللتان هما ثمرة الحكمة (8:6؛ خر 31:3؛ 35:31)، واللتان عرفهما اليونانيون أيضًا. ولكن العناية هي التي تسيِّر السفن بعد أن فتحت لها طريقًا (أش 43:16) أمينًا في البحر. نشير إلى أن كلمة العناية (برونويا، المعرفة المسبقة) ترد هنا للمرة الأولى في السبعينية، وهي مأخوذة من الفلسفة والآداب اليونانية. اما الفكرة التي تعبّر عنها فنجدها في أي 10:12؛ مز 145:8 - 9، 15 - 16؛ 147:9.

(آ 4) وقيادة العناية تدل على قدرة الله الذي يستطيع أن يُنقذ الناس من كل عنصر يهدّدهم. وهكذا يُبحِرُ حتى أولئك الذين لا خبرة لهم، مثل نوح (آ 6).

(آ 5) إذا كان الله يدبّر بعطف سفنًا حقيرة، فهذا يعني أنه لا يريد ان يكون ما صنعتْه حكمتُه باطلاً. ويكون باطلاً إذا كان الانسان لا يستفيد من غنى الارض بالتجارة والإبحار. أجل، يجب أن لا يبقى البحر من دون ثمر. كانت السفن الأولى قوارب صغيرة وكانت تنجو بفضل جرأة ملاّحيها. وهذه الجرأة منبعها الحكمة.

(آ 6) تركت لنا التوراة خبر أول رحلة بحرية (10:4) في بداية التاريخ: سفينة بسيطة حملت رجاء العالم. ولكن يد الله قادت هذه السفينة التي ما كان لنوح الفلاح ان يقودها.  نشير إلى أن الجبابرة (تك 6:4؛ با 3:26؛ أي 22:15؛ سي 16:7) لعبوا دورًا هامًا في التقاليد اليهودية.

(آ 7) وأعلن الكاتب: بُورك الخشب (أي السفينة) الذي صار أداة عمل  صالح وموافق لنظام الله. أجل، صار الخشب سفينة تتميمًا لارادة الله، فسادت شريعتُه في العالم وفي النفوس. نشير إلى أن الآباء رأوا في هذا الخشب رمزًا إلى الصليب.

(آ 8 - 9) البركة على السفينة واللعنة على الصنم المصنوع (أش 2:18؛ 10:11؛ 18:1) بيد انسان (تث 4:28؛ مز 115:4) وبيد صانع ماهر (تث 27:15). فالصنم المصنوع إله كاذب، وا يبغضه هو وصانعه.

(آ 10 - 11) إذًا سيُصيب العقابُ الصنمَ وصانعه. لا شكّ في أن العقاب يصيب الانسان العاقل، ولكن سيصيب غضبُ الله حتى الصنم. تحدث النص عن زيارة الله وتدخّله (آ 13 - 14) ليدمّر الأصنام في الأزمنة المسيحانية أو في نهاية الأزمنة (رج أش 2:18 - 20؛ 30:22؛ 31:7؛ إر 10:11، 15؛ 51:18؛ صف 2:11؛ زك 13:2). هذه صارت رجسًا أي شيئًا كريهًا. والرجس يقابل الصنم. وصارت فخٌّا (رج خر 23:33؛ قض 8:27؛ مز 106:36).

2 - مصدر عبادة الاصنام (14:12 - 21)

(آ 12) الفسق: يدل هنا على الخيانة الدينية. فكما أن الزانية تخون زوجها، كذلك يخون المؤمن ربَّه حين يتعبّد للالهة الكاذبة. وإن ضلال العقل جرَّ الاخلاقَ إلى الفساد. رج ما قاله القديس بولس في هذا الشأن في روم 1:24 - 32 وفي أف 4:17 - 19.

(آ 13 - 14) أجل، لم تكن الاصنام من البدء. فقد بدأت البشريةُ تعبد الاله الواحد ثم انقلبت إلى عبادة الاصنام. إذًا ستعود البشرية إلى أصلها وينتهي الشرك من العالم. أما السبب فهو المجد الباطل.

(آ 15 - 16) اول مثل لهذا المجد الباطل، مأخوذ من تاريخ أبٍ تأسّف لموت ابنه فنظّم له عبادة. هذا ما فعل شيشرون، الخطيب الرومانيّ، حين جعل ابنته في مصاف  الآلهة. ورُويَ عن ديوفنتوس الاسبرطاوي أن مصريًا اسمه سيروفانيس خسر ابنه، فأقام له تمثّالاً في بيته. وإذ أراد أهلُ البيت أن يُرضوا سيّده، زيّنوه بالأزهار. وسجد أمامه العبيد، وهكذا صار التمثال صنمًا يُعبد.

(آ 17) كانت عبادة الملوك وبعض الشخصيات، وهم أحياء، ممارسة معروفة في مصر في العهد الهليني. بدأت عبادة الملوك طوعيّة، ثم فرضها الملوك فرضًا.

(آ 18 - 20) وأُكرمت هذه الصورُ مع أن صاحبها شخص مائت لا يمتُّ إلى الخلود بصلة. إذًا، كانت مسؤوليّةُ الفنّانين خطيرة، لأنهم عمّموا عادات كانت محصورة في ما مضى في مدى ضيّق.

(آ 21) ومثلُ هذا الأمر، أدّى إلى خداع الناس فنسبوا إلى الحجر والخشب اسم الله.

3 - نتيجة عبادة الاصنام (14:22 - 31)

(آ 22) جُعل الناس على المنحدر، فما توقّفوا عند هذه الفوضى الاولى، بل جرَّتهم عبادةُ الاصنام إلى انحرافات أخرى. أجل، إن ضلال العقل جرَّ إلى انفلات في السلوك، وهذا الانفلات سبَّب ضلالَ العقل (روم 1:32). نحن هنا في حلقة مفرغة. وكان تمزّقٌ (أي عنف الرغبات والشهوة) حسبَه الجاهلون سلامًا (أي مجموعة الخيور الروحية الزمنية).

(آ 23 - 26) وأورد لنا الكاتب هذه الآيات، مفصِّلاً الفوضى الناتجة عن هذا الضلال الاول: ذَبحُ البنين كما في فينيقية وفي كنعان (12:5)، شعائرُ خفيّة (رج تث 18:10؛ 2 مل 17:17؛ 21:6)، فجورٌ غريب (اشارة إلى ممارسات حول الاله ديونيسيوس أو في منطقة فريجية).

(آ 27) إذًا عبادة الاصنام التي لا اسم لها، هي بدايةُ كلِّ شر وسببُه ومنتهاه. أرادت الأصنام أن تأخذ اسم الله، ولكن لا اسم لها لأنها غير موجودة. إذًا يجب أن لا نتلفّظ حتّى باسمها (خر 23:13).

(آ 28) وضع الكاتب أمامنا الشرور التي ترتبط بعبادة الاصنام: فرحُهم أصبح جنونًا على مثال ما يفعله تباع الاله ديونيسيوس، تنبوءاتُهم أصبحت كذبًا، ووعودهم نكثًا. أشار النصّ هنا إلى العرافة التي ازدهرت مع ممارسة التنجيم في ذلك الزمان.

(آ 29) وتوقّف الكاتب عند الحلف بالزور. خف الإيمان بالآلهة. أو أنهم غير موجودين أو أنهم غير فاعلين، ولهذا حلف الناس كذبًا فما خافوا من عقابهم.

(آ 30 - 31) ولكن العقاب سيأتي لا من هذه الآلهة الكاذبة، بل من الله الواحد، لأن الناس سموا الهًا ما ليس باله، ولأنهم اخطأوا ضد شريعة محفورة في قلب الانسان، وهي تمنعنا أن نكذب وننكث بوعودنا ونحلف كذبًا.

ج - الخاتمة

سار الكاتبُ في خطّ التقليد البيبليّ، فصوَّر، هازئًا، صنع الأصنام و »فبركتها«. مثلُ هذه السخرية كانت نهجًا أدبيٌّا معروفًا. فاليهوديّ العابد الاله الواحد، يحذر من الديانات الوثنيّة وما فيها من تعدّد آلهة، ويستعمل هذا الأسلوب الهازئ ليتّقي شرّها. لو عرف أصل الأصناميّة التي هي ينبوع رفض الانسان لمشروع الله، لابتعدَ عنها. أصلها: الانسان الباطل، الضّلال، طلب السلطة، الطموح الذي يريد أن يرتفع على مستوى الله، كما كان الأمرُ في برج بابل. والصنمُ هو علامة المطلق الذي يجعله الله لنفسه، فيرفض الله ويصبح عبدَ الكذب والفساد على جميع المستويات

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM