الفصل 17: تأليه العناصر

تأليه العناصر (13:1 - 19)

أ - المقدمة

هنا ترك الكاتبُ تاريخ شعب اسرائيل، وتوغّل في استطراد امتدَّ على ثلاثة فصول (ف 13 - 15). تحدّث عن عبادة الأوثان عند المصريين، وسيعود إليها في 15:14. ولكنه أراد أن يضعها الآن في إطارها العام. عدّد الأشكالَ المتنوّعة التي لبسها الشرك في التاريخ البشري، ثم حكم على كل شكل مفسرًا أصله راجعًا إلى جذوره. فالشرك المتعلّم الذي يؤلِّه عناصر الطبيعة وقواها العظمى، هو تيار العلماء الذين يتصرّفون بصورة سطحية: تأثّروا بالقوة التي تنتشر في الكون، وفُتنوا بجمال الأشياء المنظورة، فما عرفوا أن يرتفعوا إلى طبيعة خالقها. نقصهم الحسُّ الديني العميق والبحثُ العلمي الدقيق.

لا شكّ في أنهم يحاولون أن يتعرّفوا إلى العالم المنظور، وكان من حقّ محاولتهم أن تقودهم إلى اكتشاف الخالق. لم يفعلوا، ولهذا فهم أهل للشفقة. وأكثر منهم هم الذين يعبدون الأصنام المصنوعة بالأيدي: إنهم يؤلّهون صُنع الانسان ويجعلون آمالهم في أشياء ميتة. فإذا كانت التقنية أهلاً للمديح، فعليها أن تخدم الانسان وتوجّه الكون لخيره. اما صنْعُ الأصنام فهو لفساد الكون. وأراد الكاتب أن يعطي صورة من هذا الفساد، فصوَّر حطَّابًا مشركًا يصنع صنمًا ثم يدعوه الإلهَ الذي يحميه أو يعتني به.

ويصلّي الانسان أيضًا لصنم من خشب، يضعه على مقدّم السفينة خلال الملاحة التي أرادها الله لخير البشر. إن هذا الصنم يحلّ محل العناية التي قادت سفينة نوح فوق الأمواج. وضمَّ الكاتب في لعنة واحدة، الصنم وصانعه وعابده، فأعلن ان الله آت ليعاقب. ثم تساءل عن أصل هذه العبادة الرجسة التي لم توجد من البدء، وقدّم على ذلك مثلين رافقا بدايةَ عبادة الأوثان. والد أبى أن يتعزّى، فصنع صورة لابنه الميت، ثم نظّم له عبادة فصارت هذه العبادة تقليدًا مقدسًا. المثل الثاني: ابتعد الناس عن ملكهم. فما استطاعوا أن يقدِّموا له الاكرام، فصنعوا له صورة جميلة. فُتن الشعب بجمال الصورة، فقدّم لها العبادة. وهكذا انتقل اسم الله إلى الحجر والخشب. وكانت النتيجة فساد القيم الاخلاقية وانحطاط الحياة الاجتماعية.

ولكن الشعب اليهودي احتفظ وحده بعبادة الله الواحد، وظلّ متعلقًا بربّه رغم خطاياه العديدة. ما ترك الأصنام الميتة تُضلّه، لأن الهه هو صانع الحياة الوحيد ولا سيّما الحياة البشرية. ولهذا فصُنْع صنمٍ من طين، هو صورةٌ ساخرة عن الخلق. فالفخاري الذي لا يقدر أن ينقل الحياة إلى صنع يده، يستعمل مهنته استعمالاً سيّـئًا، ويدنسّ الخليقة المصنوعة من الطين، ويبحث عن الربح الخسيس.

وهناك فئة ثالثة من المشركين يبدون أكثر غباء وتعاسة من الآخرين. إنهم المصريون الذين ما اكتفوا بأن يأخذوا عن الشعوب أصنامًا مصنوعة بالأيدي، بل عبدوا الحيوانات البغيضة.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - عبادة الكواكب وقوى الطبيعة (13:1 - 9)

(13:1) بدأ الكاتب بالفئة الأولى، فئة الذين الَّهوا عناصر الطبيعة. فوصل بنا إلى أصل الديانات الكاذبة. إنهم حمقى. أما الكلمة التي تصفهم فتقابل »هبل« العبرانية وتدل على الأصنام وعبادة الأصنام (2 مل 17:15؛ إر 2:5؛ روم 1:21؛ أع 14:15). الاصنام هي لا شيء، وعبّادُها يشبهونها حتى في أعماق طبيعتهم بعدوى تنتقل من الصنم إلى عابده. أما حالتهم المزرية، فتعود لأنهم لم يعرفوا الله ولم يرتفعوا من المخلوقات المنظورة إلى الكائن الذي هو (رج روم 1:1ي؛ أع 14:17)، إلى يهوه (خر 3:14). نظروا إلى جمال الخليقة، وما وصلوا إلى الخالق الذي أبدعها.

(آ 2) وبسبب جهل الله، ألَّه الانسانُ قوى الطبيعة وسمّاها أسياد الكون... ولا سيّما الكواكب النيّرة (رج إر 8:2؛ حز 8:16؛ تث 4:19؛ 17:3؛ أي 31:26 - 28). كان افلاطون والرواقيون (تحدّث ابيكتات عن صانع الكون، وصنائعه تدلّ عليه، 1/6:7) قد رأوا في عبادة الكواكب وقوى الطبيعة الأصلَ الرئيسي لآلهة اليونان والشرق. اما حك فانطلق من عبادة الله الواحد ليَشجب هذه العبادات. قال فيلون في »الوصايا العشر« (52:53): »ضلالٌ كبير احتلّ جزءًا واسعًا في الجنس البشريّ... بعضهم ألّه العناصر الأربعة: الأرض (في حك، النفس) والماء والهواء والنار. وآخرون ألّهوا الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وآخرون أيضًا ألّهوا السماء، وآخرون الأرض«. وقال افلاطون: »أظن أن الناس الأوّلين، في اليونان، آمنوا فقط بتلك الآلهة التي بها يؤمن عددٌ من الغرباء اليوم، الشمس والقمر والأرض والنجوم والسماء« (كراتيلس 397د).

(آ 3) نظر العهد القديم إلى الخليقة على أنها تجلي مجد الله وعظمته وقدرته (أي 36:22 - 41؛ مز 19:2؛ أش 40:12 - 14؛ 22:28). نظر حك أولاً إلى الجمال متأثِّرًا بالعالم اليوناني. الجمال يسحرنا. اما الخطأ فهو أن الانسان توقّف عند الخليقة، وما وصل إلى الخالق صاحب كل جمال.

(آ 4) وقوى الطبيعة قوية وهي تخيف من ينظر إليها. ولكن هذا الشعور يجب أن يُفهم الانسان كم خالقها أقوى منها.

(آ 5) إن جمال الخلائق وعظمتها يساعداننا على التأمل بالخالق. هذه الفكرة سيستعيدها بولس الرسول فيؤسّس بها علم الالهيات. يقول: »ان ما يُعرف من الله بيِّن لهم، فقد أبانه الله لهم. فمنذ خلق العالم لا تزال صفاته الخفيّة، أي قدرته الأزلية والوهته، ظاهرة للبصائر في مخلوقاته. فلا عذر لهم إذًا« (روم 1:19 - 20).

(آ 6 - 7) ولكن، هل نحتقر الطبيعة؟ كلا. وهؤلاء الناس لا يُلامون كل اللوم، لأن موضوع بحثهم هو الله وإن بطريقة غير مباشرة. غير أنهم ضلّوا في الطريق. الخلائق جميلة والخطر يكمن في أن نتوقّف عند جمالها ولا نصل إلى خالقها.

(آ 8 - 9) ومع ذلك فلا عذر لهم. إنهم مخطئون: فبعد أن وصل عقلهم إلى التأمل في الكون، كيف عجز عن الوصول إلى سيد الكون؟

2 - عبادة الأصنام الميتة (13:10 - 19)

(آ 10) كان الوثنيون الذين الَّهوا قوى الطبيعة حمقى، أما الذين سمّوا أصنامًا مصنوعة بالأيدي آلهة، فهم أشقى الناس جميعًا. وضعوا رجاءهم في كائنات ميتة وأحقر من قوى الطبيعة.

بدأ الهجوم على عبادة الأصنام منذ أيام هوشع (8:6)، وتتابعَ مع الأنبياء الكبار، وصار موضوعَ دعاية اليهود في ما بعد الجلاء (با 6:3 - 72) ودعاية الفلسفة اليونانية. استلهم الكاتب هنا خاصة تث 4:28؛ 2 مل 19:18؛ إر 2:27 - 28؛ 10:3 - 5، 8 - 9، 14 - 15؛ حب 2:18 - 19؛ مز 115:4 - 8؛ 135:15 - 18؛ دا 5:4؛ أش 40:18 - 20؛ 41:6 - 7؛ 44:9 - 20؛ 46:5 - 7.

قديم العصور: كان الناس يدلّون على حجارة غير منحوتة وموضوعة في المعابد، فيقولون إنها سقطت من السماء أو حملتها الآلهة.

(آ 11 - 16) وقدّم لنا الكاتب صورة جذّابة تدلّ على أن الأصنام باطلة. نجار يقطع شجرة ويصنع منها قطعة في أثاث بيته، ويُحرق النفاية ليتدفأ. ومن النفاية يأخذ نفاية لا تصلح لشيء، فيجعلها على شكل انسان أو حيوان. ويضع هذا الصنم في مكان لائق ويُثبته بمسامير.

(آ 17 - 19) عرف هذا النّحات ضعف صنمه، ومع ذلك رفع الصلاة إليه. وهكذا بيّن الكاتب بطلان هذا »الاله« عبر نقائض متتالية: كيف يَطلب الانسان العافيةَ من المريض، والحياة من الميت...

ج - الخاتمة

عاشت جماعة اليهود في الاسكندريّة، في محيط وثنيّ، فعانت تجربة عبادة الأصنام. بيّن الكاتبُ أن جمال الخلائق وقوّتها يقودان إلى موقفين اثنين: إما أن نؤلِّه ما هو عظيم، وهذه هي الأصناميّة. وإمّا نرى فيه علامة على جمال الله، وبرهان على قدرة ذاك الذي صنع كلَّ شيء. واستخلص: لا عذر لمن نظر إلى الخلائق وتوقّف عندها، في مسيرة بحثه عن الله. يُفهم موقفُه بالنظر إلى يد الله في مصنوعاته. أما عبادة الأصنام فرجس ما بعده رجس.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM