الفصل 16: عقاب الكنعانيّين

عقاب الكنعانيّين (12:1 - 27)

أ - المقدمة

واستخلص الكاتب النتيجة من الاعتبارات السابقة، فطبّقها على طريقة معاملة الله للناس الخاطئين. ثم عاد إلى الفكرة الواردة في 11:23: الله يخفّف من قساوة عدالته، لينير المذنبين، ويدفعهم إلى التوبة، ويجلبهم إلى الإيمان. وإذ اعترض معترضٌ على فناء الكنعانيين، بيّن الكاتب أن المبدأ الذي وضعه ينطبق أيضًا على هذه الحالة: خطئوا فاستحقّوا الموت. وكان الله قد راعى ظروفهم، وأعطاهم امكانيّة التوبة وهو عارف أن عنادهم في الشر عميق. ولماذا اخَّر الله عقابهم؟ لم يؤخِّره عن خوف، بل لاسباب أخرى. وبما أنهم فنوا، فلا يَلُم أحدٌ الله ويتّهمه بالظلم. انه يدير الكون كله. فلا رئيس عليه ولا مزاحم له، فلماذا يكون جائرًا؟ إنه العادل، وتدبيره عادل أيضًا، وهو لا يعاقب البريء. بالاضافة إلى ذلك، فإن عدالته عدالةُ كائنٍ قويّ يسيطر على قوّته. لهذا نراه يميل إلى الرحمة تجاه الجميع، ويمارس أحكامه باعتدال وعطف. هذه الطريقة الالهية في المعاملة، ستكون عبرة لبني اسرائيل أنفسهم، فتقوّي ثقتهم في صلاح الله الرحيم وفي اختياره لشعبه وعهده معه. بعد هذا، عاد الكاتب إلى المصريين، فرأى ان الحقائق التي اكتشفها تنطبق أيضًا عليهم: فضربات الحيوانات تقابل خطيئة الشرك. ولكنه عقاب صبياني أراد به الله ان يؤدِّب شعبه، ويقدّم لهم امكانيّة تجنّب العقاب الكبير.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - عفو الله عن أرض كنعان (12:1 - 12)

(12:1) روحك هو روح الحياة الذي يُفيضه الله في المخلوقات (تك 2:7؛ 6:3؛ مز 104:29 - 30؛ أي 27:3؛ 33:4؛ 34:14 - 15). يبدو أن الكاتب لا يشير إلى روح العالم كما يقول الرواقيون. نشير هنا إلى الترجمة اللاتينية: »كم هو صالح وحلو روحُك في كل الكائنات، يا رب«! تحدّث العالم اليونانيّ عن حبّ الله لكلّ حياة. وربطوا هذا الحبّ بالبعض (اوريبيد، هاكيبي 348). أما آباء الكنيسة فأبرزوا المعنى الحقيقيّ للرحمة على أنها حكمة وحبّ من عند الخالق.

(آ 2) الله لا يقسو حين يعاقب الذين سقطوا. ينبّههم ويبيّن لهم خطأهم ليتربّوا ويؤمنوا بالرب بكل قواهم. هذا المبدأ يُفهمنا تصرّف الله تجاه الكنعانيين وتجاه المصريين. من أجل هذه الآية، رج عا 4:6 - 11؛ إر 2:30؛ صف 3:7؛ حج 2:17. نورد هنا ما قاله أحد المعلّمين حول رأفة الله بالمصريين: »أراد الملائكة الخدّام أن يُنشدوا أناشيدهم، ولكن القدوس، تبارك اسمه، قال: غرق عملُ يديّ في البحر، وأنتم تريدون أن تُنشدوا الأناشيد« (تلمود بابل، مجلوت 10ب). وتساءلت المشناة: »لماذا لم يأمر الكتابُ بالفرح يوم الفصح؛ لأن المصريّين ماتوا في يوم الفصح. لذلك، ومع أننا نقرأ كل مزامير الهلل في كلّ يوم من أيام سكّوت (عيد المظال، هو كلّه عيد فرح) السبعة، إلاّ أننا في الفصح نقرأ مزامير الهلل كلّها في اليوم الأول وفي مسائه فقط، بسبب ما قيل في هذه الآية التي أحبّ صموئيل أن يوردها: ابتهجْ، ولكن لا حين يسقط عدوّك« (أم 24:17). رج المشناة، أبوت 4:19.

(آ 3) أبغض، أي لم تفضّل. عبارة نبويّة نقرأها مثلاً في هو 9:15 (ظهرت جميع مساوئهم في الجلجال، وهناك بدأت أبغضهم، أي فترتْ محبتي لأجلهم). وفي ملا 1:2 (أحببت يعقوب وأبغضت عيسو، أي مِلتُ بوجهي عنه، بعد ان فضّلت يعقوب عليه).

الأرض المقدسة (مز 78:54؛ زك 2:16؛ 2 مك 1:7) هي ملك الرب، ولهذا فهي مقدسة وقد هيّأها للشعب الذي اختاره (تك 13:15؛ 15:18).

(آ 4 - 6) كانت ممارسات الكنعانيين شنيعة كالسحر (رج تث 18:9 - 11). ولكن أشنعها كانت ذبائح الاولاد (تث 12:31). دلّت علومُ الآثار أن الكنعانيين كانوا يذبحون أولادهم ليُهدئوا غضب الالهة أو ليؤمِّنوا دوامَ مدينة أو هيكل أو بيت. هذا ما يسمّى ذبيحة تأسيسية. نقرأ في يش 6:26: »ملعون لدى الرب الرجل الذي يحاول ان يعيد بناء هذه المدينة، اريحا: على بكره يؤسّسها (أي يذبح بكره ويضع جسمه في الأساس)، وعلى أصغر أبنائه يضع أبوابها (أي ينهي البنّاء ذابحًا أصغر ابنائه، كما بدأ البنّاء ذابحًا بكر ابنائه)«. وستتمّ هذه النبوءة في شخص حيئيل الذي من بيت ايل: »بابيرام بكره أسّس اريحا، وبسجوب، أصغر أبنائه، أقام أبوابها« (1 مل 16:34؛ رج 2 مل 3:27؛ 16:3؛ مز 106:37 - 38).

وتحدّث النص عن أكل لحوم البشر. كانت هذه العادة معروفة عند بعض الشعوب القديمة، ولكن الوثائق لا تربطها أبدًا بالكنعانيين.

نقرأ في الله 6: الآباء يقتلون أولادهم العاجزين: رج عد 33:51 - 56؛ تث 20:16 - 18.

(آ 7) دنَّستْ هذه الشعوبُ أرضَ الرب فوجب افناؤها. هذا ما أمر به الرب (تث 7:1ي؛ 20:13- 18؛ خر 23:23، 33). بعد هذا يسكن الأرضَ »ابناءُ ا«.

(آ 8) ومع ذلك، رفق الرب بهؤلاء الشعوب لأنهم بشر. أرسل أولاً الذعر... أو الزنابير (خر 23:28؛ تث 7:20؛ يش 24:12). دخل الكاتب في قصد الله، فرأى في هذه الاجراءات نتيجة صلاح الله ورحمته. كان خر 23:28ي قد قال: »لا أطردهم من أمام وجهك في سنة واحدة، كيلا تصير الأرضُ قفرًا فتكثر عليك وحوش الصحراء، لكني أطردهم قليلاً قليلاً من أمامك إلى أن تنمو فترث الأرض«. أشار خر إلى اهتمام الرب بشعبه، أما حك فأشار إلى رحمته تجاه الكنعانيين الخاطئين. وهكذا تتوسّع آفاق المؤمن فلا تنحصر في شعب من الشعوب.

(آ 9 - 10) لم يكن الله ضعيفًا بل رفيقًا، وما نقصته الوسائل لإفناء الكنعانيين: القتال في معركة (كما في معركة العي، رج يش 8:1ي)، أو الوحوش الضارية، أو بأمر من عندك. تمهّلَ الربُّ في العقاب ليُعطي فرصة للتوبة. كان عارفًا انهم لن يتوبوا، ومع ذلك تمهّل أقله من أجل راحاب وأهل بيتها (يش 2:11؛ 6:25؛ عب 11:31). فنسلُ كنعان شرير من أيام جده حام أو كنعان (تك 9:25)، وهو بالتالي لن يعرف طريق التوبة. نتذكّر هنا تصلّب قلب فرعون. شدّد الكاتب على تأثير الوراثة على حساب التربية، وبيَّن أن قوى الشر تتغلّب في الإنسان على قوى الخير.

(آ 12) أبعد الكاتب تأثير أيّ كان، وطرح أربعة اسئلة سيجيب إليها. الله لا يخضع لأحد: فمن يسأله حسابًا عما فعل؟ (أي 9:12؛ دا 4:32؛ روم 9:19 - 23) ومن يعارض حكمه؟ ومن يتهمه (أي 9:19؛ إر 49:19) لأنه أهلك ما خلق؟ ومن يقاوم عدالته حين ينتقم من الأشرار؟

2 - لماذا تصرف الله برفق مع الكنعانيين (12:13 - 27)

(آ 13 - 14) الجواب على هذه الاسئلة الاربعة يكون سلبيًا؟ من يسأله؟ لا أحد. والسبب: الله هو الإله الواحد الذي يهتمّ وحده بكل خلائقه (تث 32:39). إذًا لا يوجد كائن أسمى منه يجب أن يقدم له حسابًا عن أفعاله. وإذا عدنا إلى الأرض، أي مَلك يمكنه ان يعادي الله ويطالبه بما فعل؟ فمتى وقف المائت بوجه الكائن الخالد؟

(آ 15 - 16) يتمتع الله بقدرة مطلقة فلا يحيد عن العدالة. عند الأشرار (2:11) تستبدّ القوة بالعدالة. اما عند الرب فتخّفف من حدتها.

(آ 17 - 18) وإذ طبَّقَ الكاتب هذه المبادئ على الواقع ميَّز حالتين. الأولى: الله لا يُظهر قدرته ليعاقب إلاَّ الذين لا يؤمنون بقدرته كالوثنيين (خر 5:2؛ 2 مل 18:35؛ 2 مك 9:4) أو الذين يؤمنون ولا يعيشون حسب إيمانهم كالجاحدين (روم 1:21). الثانية: الله يدين برفق وعطف الذين يتعلّقون بقدرته ولا يتمرّدون عليه. فالكاتب وأبناء دينه هم من الفئة الثانية، ويستطيعون ان يسلّموا ذواتهم بثقة إلى عطف الله ورحمته. ولكن النظرة شاملة تطال كلَّ المؤمنين أكانوا يهودًا أم غير يهود.

(آ 19) سلوك الله يتضمّن أمثولتين لشعبه: الصلاح والرحمة للبشر، الرجاء والتوبة والغفران أمام الخطيئة.

البار يكون محبًا للناس ورحيمًا على مثال الحكمة (6:1؛ 7:23). كان على الاسرائيلي أن يرأف باخوته، لا بالغرباء. اما كاتبنا فوسّع النظرة على مستوى البشر جميعًا وذلك بتأثير من الروح الهلينية. ولكن العهد الجديد سيقدم لنا التعليم النهائي (رج مت 43 - 48؛ 1 يو 4:20 - 21).

(آ 20) قالت التوراة إن الله حاول أن ينتزع شعبَه من الشر بواسطة المحن والعقوبات (رج هو 5:15؛ عا 4:6 - 11؛ تث 8:2 - 6؛ أم 3:11 - 12؛ أي 5:17 - 26). وسياسةُ الرحمة هذه سوف يتبعها أيضًا مع الوثنيين في حك: عفا عن الخطأة وأعطاهم مهلة للتوبة.

(آ 21) عقد الله العهد والمواثيق مع الآباء: مع ابراهيم (تك 12:7؛ 13:14 - 17؛ 15:7، 18 - 21؛ 17:2 - 8؛ 22:16 - 18) واسحق (تك 26:3 - 4) ويعقوب (تك 28:13 - 14؛ 32:13؛ 35:11 - 12).

(آ 22) رج 11:10. نقابل هنا بين العقاب الذي يصيب الأبناء (لتأديبهم أم 3:12؛ أي 5:17ي؛ رج تث 8:2 - 6؛ هو 1:3)، وذاك الذي يصيب الأعداء. لسنا فقط أمام العطش، بل أمام مجمل علاقات الله بشعبه وبسائر الشعوب. والأمثولة: إذا حكمنا نحكم بعدل، وإذا حُوكمنا ننتظر الرحمة.

(آ 23) وهكذا انتهى الحديث عن الكنعانيين وبدأ الحديث عن المصريين. عاد الكاتب إلى الحديث عن عبادة الحيوانات: عاقبهم (= المصريين) الله على قدر شرورهم.

(آ 24) ضلوا ضلالاً بعيدًا، فجاوزوا كلَّ حدود الرجاسة، وعبدوا الحيوانات، بل تلك الحقيرة والذليلة.

(آ 25 - 26) ومع ذلك عاقبهم الله عقابًا صبيانيًا، عقابًا بسيطًا (الحشرات أو الضفادع). أما الذين لا يتأدبّون، فسينالون العقاب الذي يستحقّون والذي يدلّ على قدرة الله.

(آ 27) رفض الفرعون أن يتعرف إلى قدرة الله مدة طويلة (خر 7:13، 22؛ 8:11، 15، 28؛ 9:7، 12، 35؛ 10:20؛ 11:10)، أو تعرَّف إليها بطريقة عابرة (خر 8:4، 21، 24؛ 9:27 - 28؛ 10:16 - 17، 24) أو خبيثة (10:7 - 11). وفي النهاية، وبعد الضربة العاشرة، تعرّف حقًا إلى قدرة الله وأطلق شعب الله (خر 12:31 - 32). اما المصريون فعرفوا قدرة الإله الحقيقي (خر 11:31)، ولكنهم ما زالوا يتحدّونه، لهذا حلّت بهم الضربة القاسية: قُتل أبكارُهم وفَنيَ جيشُهم.

ج - الخاتمة

جاء هذا الفصلُ تأمّلاً طويلاً حول دخول بني اسرائيل إلى أرض الموعد ودمار شعوب كنعان (التي لم تدمَّر في الواقع). السبب لهذا الدمار هو عبادة الأوثان، ورفضٌ  ومخطّطه من أجل الانسان. ومع ذلك، حين أبرز الكاتب جذريّة دينونة الله، شدّد أيضًا على النداء إلى التوبة، الذي يرافق العقاب. هكذا بدت حكمةُ الله وربّت شعب اسرائيل، فدعَتْه لكي يكون صديق الانسان، كلّ انسان

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM