الفصل 15: عطش بني اسرائيل وعطش المصريين

عطش بني اسرائيل وعطش المصريين (11:1 - 26)

أ - المقدمة

بعد عبارات عامة تشير إلى مسيرة الخروج الطويلة، بدأ الكاتب في الله 4 فتوجّه مباشرة إلى الله، وذكّره بمحنة الجوع في البرية وبالمعجزة التي تمّت هناك. وقابل بمعجزة الماء العقابَ الذي أصاب المصريين بالعنصر عينه، حين تحوّلت مياهُ النيل دمًا. وهناك مقابلات أخرى في ممارسات أحكام ا: أراد المصريون أن يُهلكوا في الماء اطفالَ العبرانيين. والعطشُ الذي أحسّ به العبرانيون موقتًا، أتاح لهم أن يُدركوا العذاب الذي شعر به أعداؤهم في الماضي، وأن يفهموا الفرق بين تأديب أبويّ وعقاب يرسله الغضب. وحين عرف المصريون بمعجزة الماء، أحسّوا بالقهر، وشعروا أن الله الديّان يعاقبهم بقساوة. حينئذٍ ترك الكاتب المقابلة بين المصريين والعبرانيين، وحاول أن يبرّر هذا الفرق في المعاملة مذكِّرًا بتطور دينونة ا: عُوقب المصريون أولاً بسبب خطيئة الشرك، بحشراتٍ، ليعوا هذه الخطيئة. فأظهر الله بهذا العقاب، لا ضعفَه، بل حكمته السامية. انه يشفق على كل مخلوق بفعل قدرته، ويحبّ جميع الكائنات. وهكذا نفهم رِفْقَه في أحكامه التي تُمارَس بطريقة تدريجية لتعطي الخاطئ امكانيّة التوبة.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - مسيرة شعب الخروج (11:1 - 4)

(11:1) وها نحن نتحدّث عن المسيرة الطويلة التي امتدت أربعين سنة في البرية، وسط الحواجز والصراعات، بقيادة موسى الذي يُسمّى نبيًا لأن الله أرسله وألهمه (عد 12:7؛ تث 18:15، 18؛ 34:10؛ هو 12:14)، والذي حلّت فيه الحكمة.

(آ 2 - 3) أما الصراعات التي يشير إليها النصّ، فهي الحرب ضد بني عماليق (خر 17:8 - 16) والكنعانيين في النقب (عد 21:1 - 3): سيحون، ملك الأموريين (عد 21:21 - 31)، عوج ملك باشان (عد 21:33 - 35)، والمديانيون (عد 31:1 - 12).

(آ 4) هناك معجزة أشعلت مخيّلة الشعب اليهودي (اش 48:21؛ مز 78:15 - 16، 20؛ 105:41؛ 114:8؛ نح 9:15؛ 1 كور 10:4)، هي إخراج الماء بصورة عجيبة من الصخر الصلب (تث 8:15 حسب السبعينية)، لإشباع عطش بني اسرائيل البدو (خر 17:1 - 7؛ عد 20:2 - 13).

»صرخوا إليك، يا ا«. هنا انتقل الكاتب إلى صيغة المخاطب. بعد هذا اختفت الحكمة (ما عدا 14:2، 5) فحلّ محلّها الله ونسمَتُه (11:20) وروحُه (12:1) وكلمتُه (12:9؛ 16:12؛ 18:15) ويدُه (11:17؛ 14:6؛ 16:15؛ 19:8) وذراعُه (11:21؛ 16:16). أما في النص الكتابي (خر 17:1 - 7؛ عد 20:2 - 13)، فيتوجّه إلى الله موسى وهرون. وضع الكاتبُ أمام عينيه كرامة الشعب الذي لا عيب فيه، وما أشار إلى تذمّرات الشعب في البرية.

وهكذا كان هذا الحدث نقطة انطلاق لتوسيع تعليمي يهدف إلى اظهار تدبير الله، ولا سيّما عندما يُعاقِب.

2 - المياه سبب هلاك المصريين وخلاص اسرائيل (11:5 - 14)

(آ 5) هذه أولى النقائض السبع التي يقابل فيها الكاتبُ بين الاسرائيلين والمصريين. أما الست الباقية فسوف يتوسّع فيها انطلاقًا من ف 16. والمبدأ هو: الله يقدر بالعنصر (الماء) عينه، أن يعاقب البعض ويعطف على البعض الآخر. هذا ما كان من أمر مياه الخروج.

نشير هنا إلى أن الشعبية اللاتينيّة تزيد آية على النص اليوناني: فكان الذي عُذِّب به أعداؤهم إذ أعوزهم ما يشربون، أن بني اسرائيل هلّلوا لكثرته.

(آ 6 - 7) جرت المياه وافرة، وعلى غير انتظار وبصورة عجائبية، لبني اسرائيل (خر 1:22). حينئذٍ عكّر الله بدمٍ ممزوج بالطين، مياهَ النيل التي لا تنضب (خر 7:17ي) بحيث لم يعد الناس يستطيعون أن يشربوا منها. السبب في سفر الخروج هو تثبيت موسى في رسالته لدى الفرعون. ولكن حك (مثله فيلون) أضاف شيئًا جديدًا: تعكّرت مياه النيل، عقابًا للمصريين الذين عبدوا النهر واعتبروه، بدءَ كلّ شيء.

افسد الله مياه النيل،  ليُجبر فرعون على أن يطلق الشعب. هذه المعجزة هي عقاب على ما فعله المصريون حين أمروا بقتل الأطفال. تحدث النص عن الماء الغزير كما في خر 17:3 - 6؛ عد 20:7 - 13، فقال: »أعطيتهم ماء غزيرًا، وما كانوا يتوقّعون«.

(آ 8 - 10) هناك مفارقة ثانية في عمل الله، وهي تنتج عن عقاب العطش الذي أصاب بطرق متباينة أعداء الله واصدقاءَه. لا شك في ان بني اسرائيل عطشوا. ولكن العطش كان محنة ارسلتْها بعطفٍ يدٌ أبوية. هذه الفكرة ستعود مرارًا في حك وأيضًا في 2 مك 16:12 - 17. اما المصريون فلقوا عقابًا وصل بهم إلى الحكم عليهم.

افترض الكاتب ان المصريين احسوا بالعطش زمنًا طويلاً وشعروا بقساوته. اما خر 7:24 فقال: »وحفر جميع المصريين حوالي النهر ليجدوا ماء للشرب، لأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يشربوا من ماء النهر«. قال النص اللاتيني في الله 8: »حتى يعرفوا كيف عظّمت أحبّائك وعاقبت أعداءهم«. أحس العبرانيون بالعطش في البرية ففهموا ما قاساه المصريون. اما المحنة التي تتحدث عنها الله 9 فتدل مسبقًا على الآلام التي سيحملها بنو اسرائيل في البرية من أجل تأديبهم. نقرأ: حكمك: حرفيًا: حكمك بالغضب أي بعدالة لا ترحم (رج هو 11:9؛ أش 30:30؛ 63:6؛ إر 21:5؛ 30:23؛ با 2:20).

(آ 11) أصاب المصريين العقابُ ضرباتٍ قاسوها بحضور بني اسرائيل (من قريب) وبعد ذهاب بني اسرائيل (من بعيد). حينئذٍ تذكّروا الضربات التي قاسوها، ورأوا التناقض بين مصيرهم ومصير بني اسرائيل: ما كان لهم عقابًا صار لأعدائهم نفعًا. افترض الكاتب (آ 13) أن المصريين عرفوا بالمعجزات التي رافقت بني اسرائيل خلال مسيرتهم في البرية. أما سفر الخروج فلا يقول شيئًا من ذلك.

(آ 12 - 13) حصل بنو اسرائيل بطريقة عجيبة على المياه في البرية. أما المصريون فحُرموا منها (11:4). وشعروا أن  يدًا في الأمر. هذه الملاحظة غير موجودة في سفر الخروج. اما الشعبية اللاتينيّة فأضافت: أُعجِبوا بمسار الأمور.

(آ 14) والرجل الذي رفضوه هو موسى. رذله المصريون بلسان فرعون الذي طرده مرارًا (رج خر 5:2 - 5؛ 7:13، 22؛ 9:34 - 35؛ 10:10 - 11، 20، 28؛ 11:10). ما فهم المصريون هذه الأحداث إلاّ حين أحسّوا بعطش هو غير عطش الأبرار.

3 - رِفقُ الله بمصر (11:15 - 20)

(آ 15) كانت عبادة الحيوانات معروفة في مصر على أيام البطالسة. نذكر من الزحافات: الثعبان والأفعى والجرذون والضفدعة. ومن الحشرات: الجعل. الحيوانات التي لا نطق لها: هي الضفادع (خر 8:1 - 2)، البعوض (خر 8:7 - 20)، الجراد (خر 10:12 - 15).

(آ 16) وردت هذه الفكرةُ مرارًا في التوراة (أم 1:31؛ 5:22؛ 26:27؛ جا 10:8 - 9؛ سي 27:25 - 27؛ مز 7:15 - 16؛ 35:8؛ 57:7؛ 59:13؛ 141:10)، وحاول الكاتب ان يطبق مبدأه بقساوة لا تلين (12:23؛ 16:1؛ 18:4).

(آ 17) ارسل الله بعوضًا، فهل كانت يده ضعيفة. كلا، إنه القدير وهو الذي خلق الكون: كان باستطاعته أن يرسل وحوشًا كبيرة، ولكنه لم يفعل.

قال النص: صنعتَ العالم من مادة لا شكل لها. هذه العبارة مأخوذة من العالم الافلاطوني، ولكن هذا لا يعني أن الكاتب يقول بأزلية المادة (ا وحده أزلي والمادة مخلوقة)، بل يشير إلى تنظيم العالم انطلاقًا من الكتلة المشوشة (تك 1:1، توه وبوه؛ رج 2 مك 7:28؛ عب 11:3) التي خلقها الله. الدبب (رج 2 صم 17:8؛ 2 مل 2:24؛ هو 13:8) والاسود ( 2 صم 1:23؛ 2 مل 17:25؛ هو 13:8؛ أي 4:10؛ أم 22:13)، هي حيوانات يخافها أهل فلسطين بصورة خاصة.

(آ 18 - 19) وكان باستطاعة الله ان يخلق حيوانات أكثر هولاً من الاسود والدبب... وهنا يترك الكاتب لمخيّلته العنان فيستقي من عالم الاساطير (مثلاً لاويتان أي 41:10 - 13) ليقدم لنا وحوشًا مخيفة.

(آ 20) ما كان الله بحاجة إلى كل هذه الخلائق، فنفخةٌ من قدرته تكفي لتفني أعداءه (رج أي 4:9). ولكنه لم يفعل، بل نظّم الكون كلَّه بالقياس والعدد والوزن. نحن هنا أمام رمز العدالة الالهية (أش 28:17؛ أي 31:6؛ دا 5:27) وعنايتها (أي 27:25؛ أش 11:12). لقد نظّم الله الأشياء بحيث يكفيه من الخلائق ما خلق.

4 - سبب رفق الله (11:21 - 26)

(آ 21 - 23) في مخطّطٍ ظهرت رحمة الله، نرى أن الله لا يتخلّى عن قدرته التي لا يقاومها شيء: فالعالم كلّه أمامه كحبة رمل في الميزان أو كنقطة ندى لا تلبث ان تتبخر في الشمس (رج هو 6:4؛ 13:3). ولكن الله القوي هو الرحيم أيضًا (مز 62:12 - 13؛ سي 18:1 - 13)، ورحمته ليست ضعفًا (12:12). الخاطئ لا يفلت منه (12:18). ولكنه يعرف أن يرحم، وهو الصبور الذي يميل بوجهه عن الخطايا، ليعطي الانسان مهلةً للتوبة (حز 33:11؛ روم 2:4).

(آ 24 - 26) ترحم الجميع، تحبّ الجميع (رج مز 145:9). ان الفكرة الموجودة في الله 23 - 24 ليست بجديدة، ولكن الكاتب عبّر عنها بقوة وأبرز ما يبرّرها (آ 25 - 26). تظهر رحمة الله في عمله الذي يخلق ويحفظ في الوجود. لو لم يحبّ الله، لما كان خلق. من هذا القبيل، الله هو رب كل شيء وهو يحفظ مقتناه بما له من سلطان. فا يحب كل حياة، وكما تقول اللاتينية يحبّ جميع النفوس.

ج - الخاتمة

بما أن الخروج والتحرّر من عبوديّة مصر يشكّلان الحدث المؤسِّس لشعب الله، توسّع فيهما الكاتب مطوَّلاً، فبيّن أن الحكمة لجأت إلى ذات العناصر المخلوقة (الماء، النار) لتحمل البركة إلى شعب الله، والضيق لأعدائه. فا الذي هو المربّي، يدعو الانسانَ لكي يتعامل مع العالم بحكمة. وذلك بحسب مشروع الله الذي خلق العالم بحبٍّ، وأراد للبشر الحياة، 10% error accessi

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM