الفصل 14: من آدم إلى موسى

من آدم إلى موسى (10:1 - 21)

أ - المقدمة

وظهرت الحكمة الآن في التاريخ القديم. بحث الكاتبُ عن آثارها، لا على مستوى سامٍ، ولا على ضوء الأنوار الجديدة التي نالها سليمان، بل في أخبار من سفر التكوين وسفر الخروج. وبهذا أدخل التاريخ في الأدب الحكمي. ولكن سبقه في هذا المضمار سي 44 - 50: تذكّر ابن سيراخ أمثلةَ الماضي، وترك الاحداث تتكلم دون أن يربطها بالحكمة. اما في حك، فالحكمة الالهية نفسها توجّه الأحداث. وتطلّع الكاتب إلى المعطيات التوراتية فأعطاها تفسيرًا خاصًا به. هذا ما نسميّه لاهوت التاريخ.

ذكر الكاتب على التوالي سبعة أبطال أبرار تجاه أناس أشرار: آدم وخطيئته، موت هابيل والطوفان مع نوح، برج بابل واختيار ابراهيم، إيمان ابراهيم وذبيحة اسحق. ونظر إلى لوط وعقاب المدن العشر، ومضايقات يعقوب وخبرته الروحية، ويوسف الذي باعه اخوتُه وأعاد الله إليه اعتبارَه بطريقة عجيبة، وموسى والخروج وعبور البحر الأحمر.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - البدايات وزمن الآباء (10:1 - 14)

(10:1) الشخص الأول الذي يتحدّث عنه هو آدم، الذي كان أول من جُبل بيد الرب (7:1) وخُلق وحده (تك 2:7، 18). حمَتْه الحكمةُ لأنه كان أبا العالم (9:2). أجل، تمتّع آدم في داخل الخليقة بوضع فريد، فكان وحده على الأرض كما كان الله وحده في السماء. سقط آدم ولكنه تاب فيما بعد، كما تقول التقاليد اليهوديّة (مثل حياة آدم) المعاصرة للمسيح، والحكمة هي التي ساعدته في توبته. نذكر هنا ما قاله فيلون في »خلق العالم« (140): »كذا كان الانسان الأول المخلوق، في الجسد والنفس، كما أظن، فتجاوز جميعَ البشر الذين هم الآن والذين كانوا قبله. فبدايتنا هي من انسان خلقه الله، وهو أسمى ما صنع. فالانسان الذي كان أول من جُبل هو زهرة الجنس البشريّ كلّه«. وقال ترجوم يروشليم بفم الله، حول تك 3:22: »الانسان الذي خلقتُه وحده في العالم، كما أنا وحدي في السماوات«.

(آ 2) أَعانت الحكمة آدم، وأعطته سلطةً على كل شيء (تك 1:26، 28؛ حك 9:2). احتفظ آدم بعد خطيئته بهذه السلطة، ونال  من أجل ممارستها قوّةً جديدة. لا نجد هذا المعطى في التوراة، ولكن يبدو أن  الكاتب تأثَّر بنظريات الغنوصيين الذين قالوا إن آدم كان كائنًا فريدًا، فتمتّع بسلطة عجيبة في الكون.

(آ 3) ونصل إلى قايين. افترق عن الحكمة، فما فتح لها قلبه، ولا أصغى إلى نصائحها. رفض أن يتوب  فهلك. كان ضحيةَ غضبه الذي دفعه إلى قتل أخيه. هلك هلاكًا أبديٌّا (2:21 - 22؛ 4:19؛ 5:23)، أو مات بعد ان سقط عليه بيتُه (كما يقول كتاب اليوبيلات)، أو لأن لامك قتله سهوًا.

الشرير. حرفيًا: اللاَّبار: اخطأ ضد البر، والبار هو الذي يحفظ شريعة العلي ويعمل بمشيئته. كان هابيل البار، وقايين عكس البار (تك 4:8 - 13).

(آ 4) تجاه الشرير قايين، هناك نوح الصالح. وبسبب قايين ونسله؛ غمر الطوفانُ الأرض (تك 7 - 8). لا تتحدّث التوراة عن شرّ أبناء قايين، بل التقاليد اليهوديّة المتأخرة (جمع يوسيفوس بعضها). كان نوح رجلاً صالحًا (تك 6:9)، فنجا بواسطة السفينة مع أخصّائه (14:6 - 7). اما 1 بط 3: 20 - 21 فتنسب خلاص نوح إلى الماء الذي هو رمز المعموديّة.

أشار الكاتب إلى اخنوخ في 4:7 - 10، ولكنه لم يذكره هنا، بل ربط الطوفان بقايين. كانت خطيئة قايين حلقة أولى أوصلتنا إلى الشر الذي غمر الأرض (تك 6:1 - 7). اما الحكمة، فستقود نوحا، وتعلّمه كيف يسمع صوت الله، وتشجّعه خلال الشدة.

(آ 5) ابراهيم: ربط الكاتبُ دعوةَ ابراهيم بتبلبل الألسنة وبناء برج بابل (تك 11:1 - 9). شمل الشرُّ البشرية، فبعثرها الله وقسمها أممًا وألسنة. ولكن وسط هذه الفوضى الاخلاقية المتنامية (كما خلال الطوفان)، تعرّفت (أي أحبّت واختارت. رج مز 1:6؛ يو 10:14؛ 1 كور 8:3) الحكمةُ إلى البار ابراهيم (تك 12:1ي)، وحفظته في الأمانة للاله الحقيقي. قَوَّته بفضيلة القوة (8:7)، فلم يسمع لصوت عاطفته حين طلب منه الله أن يضحّي بابنه اسحق (تك 22:1ي؛ سي 44:20؛ عب 11:17 - 19). على مثاله، يضحّي المؤمنون بكلِّ شيء ليحافظوا على إيمانهم.

(آ 16) لوط: يسمي لوطًا رجلاً صالحًا (2 بط 2:7 - 8). المدن الخمس هي: سدوم، عمورة، أدمة، صبوئيم، صوعر. لم تدمر صوعر بناء لطلب لوط الذي لجأ إليها (تك 19:18 - 22؛ تث 29:22؛ هو 11:8).

(آ 7) كانت الأرض »مثل جنة الرب« (تك 13:10)، فصارت حقولاً محروقة لا يَنبت فيها شيء. وتصاعد منها الدخان بسبب تبخّر مياه البحر الميت. اما الثمر (تفاحة سدوم في التقاليد) الذي لا ينضج، فيتحدث عنه المؤرخ يوسيفوس: هناك ثمارُ تؤكل، وما ان تمدّ يدك لتقطفها، حتى تتحول بخارًا ورمادًا (رج تث 32:32). أما نُصُب الملح، فيذكّرنا بنصّ تك 19:26 (لو 17:32). فهناك جبل قرب البحر الميت يبدو كعمود من ملح، وقد نحت فيه الانجرافُ مسلاّت يبدو بعضها بشكل بَشَر. وكانوا يدلون في إحدى المسلات على امرأة لوط. يقول يوسيفوس انها كانت موجودة في أيامه وانه رآها.

(آ 8) جعل النصّ هذا الحدثَ الخارق على المستوى الاخلاقي. فأهلُ سدوم (وامرأة لوط معهم) خطئوا حين ابتعدوا عن الحكمة، فسقطوا في عمى روحي منعهم أن يروا الخيرات الحقيقية (أم 1:29 - 31). وهناك عقاب آخر من نوع اجتماعي: تركوا ذكر حماقتهم كُنُصب يراه الناس من بعدهم، كما ان ذكْرَ صديقِ الحكمة يدوم إلى الأبد (8:13، 17). أجل، صار دمارُ المدن الشريرة مضرب مثل. رج تث 29:23؛ عا 4:11؛ أش 13:19؛ إر 50:40.

(آ 9) أما الذين يخدمون الحكمة، أما أصحاب الحكمة الذين يعيشون بالتقوى (10:16)، فقد حفظتهم الحكمةُ من كل ضرر.

(آ 10) يعقوب. كانت قصة يعقوب شعبية جدًا، وهو أبو الشعب المختار. تحدث تك 25:1ي عنه، وأشار إليه هو 12:1ي، فكان قاسيًا في الحكم عليه.

هرب يعقوب إلى بلاد الرافدين ليُفلت من ملاحقات أخيه عيسو (تك 27:41 - 45؛ 28:5 - 6). جنّبته الحكمةُ اخطاء الطريق، وأرته ملكوتَ الله خلال حلم بيت ايل (تك 28:10 - 22). أما الأمور المقدسة (أو عالم القداسة) التي عرّفته بها فهي: الايحاءات عن البلاط السماوي وعمّا سيحدث لنسل يعقوب في الآتي من الأيام. وتحدث النصّ أيضًا عن أتعاب يعقوب، فأشار إلى حياته عند خاله لابان وما قاسى فيها (تك 29:31 - 16).

(آ 11) اغتنى يعقوب، فحسده خاله وابناؤه: فجاءت الحكمة ووقفت إلى جانبه، وزادته غنى فوق غنى. وهرب يعقوب مع عياله وماشيته، وكانت الحكمة رفيقته.

(آ 12) أعداء يعقوب هم لابان واخوته (تك 31:23 - 29) وعيسو (تك 32:1ي). اما الصراعُ الشديد، فهو صراعه مع الله على نهر يبوق (تك 32:25 - 31؛ هو 12:4 - 5). التقوى أقدر من أي شيء، لأنها تغلّبت حتى على الله.

كلُّ هذه الوقائع تحمل، في نظر الكاتب، مدلولاً دينيًا واخلاقيًا.

(آ 13) يوسف (تك 37:26 - 28، 36): حفظته الحكمة من الخطيئة مع امرأة فوطيفار (تك 39:7 - 10). باعه اخوته، فما تخلّت عنه الحكمةُ في أحلك الصعوبات.

(آ 14) الحفرة العميقة تشير إلى الجب الذي رماه فيه اخوته (تك 37:24)، أو إلى السجن المصري الذي رماه فيه فوطيفار (تك 40:15). وفي القيود: هي اشارة إلى الأحداث المروية في تك 39:20 - 41:57 حيث كان الله مع يوسف (تك 39:21). في هذا  المجال، نقرأ في مز 105:17 - 22 ما يلي: »أرسل أمامهم انسانًا، يوسف الذي بيع للعبودية. وضعوا القيود في رجليه، ودخلت رقبته في عقد من حديد، إلى أن أبانت الكلمة التي قبلها من الرب أي رجل كان. أمر الملكُ فحله من قيوده، سلطانَ الشعوب فاطلقه. أقامه سيدا على بيته، وسلطانًا على جميع مقتناه، ليعلّم الوزراء كما يرى، ويلقّن الشيوخ الحكمة«.

لم تُخرج الحكمةُ يوسفَ من السجن فقط، بل جعلَته شريكًا لفرعون في الملك: أعطته صولجان السيادة على الذين اضطهدوه (وهم اخوته أولاً ثم امرأة فوطيفار وخدمها). وزادت له الحكمة »مجدًا أبديًا«، ظهر لا للمصريين فقط بل للعالم كله.

دلت كلّ هذه الأخبار على أن البار يمكنه أن يتكل على حماية الحكمة وعناية الله، وسط المضايقات والاضطهادات.

2 - الخروج من مصر (10:15 - 21)

بعد أن بين الكاتب معونة الحكمة للآباء، أخذ يعرض عملها في الشعب المختار حين خروجه من مصر وإقامته في البرية. نُشير إلى أن الأنبياء اعتبروا الحياة في البرية الزمن المثالي، زمن خطوبة الله وشعبه (عا 5:25؛ هو 2:16 - 17؛ 11:1ي). والحكمة لعبت هنا الدور الذي نسبه أش 63:11 - 14 إلى الله (رج خر 13:21).

(آ 15) حلّت الحكمةُ محلّ الرب، وخلّصت الشعب من الأمّة التي ظلمتهم، أي من المصريين. سمّى الكاتبُ الشعب »مقدَّسًا وذرية بريئة«، لأنه نسيَ خياناته للرب (مز 106:1ي؛ أع 7:9 - 53). أما العهد الجديد فيسمّي تلاميذ يسوع قديسين (روم 1:7؛ 1 كور 1:2؛ 1 بط 2:9).

(آ 16) وتمَّ هذا الخلاص بيد خادم الرب، موسى (خر 14:31) الذي حلت في نفسه الحكمة. كان موسى خائفًا، فأعطته القوة فاجترح المعجزات والعجائب أمام الملوك الطغاة (أي فرعون وحاشيته).

(آ 17) خدم بنو اسرائيل المصريين سنوات عديدة دون أجر، ولهذا أعطتهم الحكمة جزاء أتعابهم فسلّمت إليهم غنى المصريين (خر 3:21 - 22؛ 11:2 - 3؛ 12:35 - 36). والجزاء العظيم الذي أعطته، هو انها اعادت إليهم الحرية، وقادتهم إلى أرض الميعاد. وذِكرُ الظل والضوء يلمح إلى الغمامة المضيئة التي نقرأ عنها في خر 13:21 - 22؛ عد 10:34؛ مز 105:39 حيث نقرأ: »بسط غمامًا سترًا لهم، ونارًا تضيء لهم في الليل«. نشير إلى أن الكاتب ينسب إلى الحكمة ما يقوله سفر الخروج عن ا: »وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود من غمام ليهديهم الطريق، وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم« (خر 13:21).

(آ 18 - 19) والحكمة هي حاملة قدرة الله في عبور البحر الأحمر العجائبي (خر 14:1ي) الذي أغرق الأعداء وقذف جثثَهم على الشاطئ.

(آ 20 - 21) لا يقول خبر سفر الخروج ان العبرانيين سلبوا العدو سلاحه، ولكن التقليد الشفهي (ورد في فيلون، يوسيفوس) يذكر الحاجة إليه وكيف أخذ العبرانيون السلاح من قرب جثث الموتى. فرح الشعب، ورغم ضعفه، أنشد مع موسى ومريم أناشيدَ لاسم الرب (أش 12:4، 5؛ سي 39:35) الذي نجّاهم، وليَدِه التي حمَتهم. يشير هذا الكلام إلى نشيد موسى (خر 15:1ي). كان موسى ثقيل اللسان وما كان يمكنه ان يكلم فرعون (خر 4:10؛ 6:12، 30)، وكان العبرانيون أضعف من ان يرفعوا المدائح اللائقة لو لم يعطهم الرب ان يفعلوا (أش 32:4؛ 35:6) فجعل البُكمَ يتكلّمون والرضَّع يحمدونه.

ج - الخاتمة
الحكمة تحرّك التاريخ، وتبدأ في جذور شعب الله. هي تدلّ على عناية الله وحبّه للانسان، اللذين كانا موجودَين منذ بداية البشريّة. رافقت الانسان الأول بعد خلقه، وهو المحتاج إلى حماية خاصة. رافقته حتّى في الخطيئة فأرسلت إليه خلاص الله، وحفظت له السلطان على الخليقة، كما كان له منذ البدء. وتخلّى قايين عن الحكمة، فقتل أخاه، فجاء موته النتيجة الروحيّة لعمله الشنيع، وامتدّ فعله فوصل بالبشريّة إلى الطوفان، حيث بدت الحكمة غائبة. ولكنها كانت مع نوح ولوط والآباء. كانت مع يعقوب في ضيقاته، ومع يوسف الذي بيع في مصر. وهكذا عاد كلُّ خلاص وكلّ نعمة إلى 40% error accessing QuarkXPress temporary file (#-40). [13]عائشين في مصر، في القرن الأول ق.م. بل إن عملها يدوم إلى الأبد، بعد أن صارت حكمةُ الصليب تنير طريق المسيحيّ

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM