الفصل 1: سفر الحكمة من الوجهة الأدبيّة

سفر الحكمة من الوجهة الأدبيّة

آخر كتب الحكمة، بل آخر أسفار التوراة وقد كُتب على عتبة ظهور المسيحيّة، هو سفر الحكمة. في أمانة للديانة التقليديّة اليهوديّة، واهتمام يجعلها توافق العصر الذي تعيش فيه، انطلق الكتاب من أفكار توراتية سامية وحاول أن يضعها في قالب يوناني، ولهذا وجد فيه كتَّاب العهد الجديد عناصر تساعدهم على التعبير عن الوحي الجديد.

عاد سفر الحكمة إلى السؤال الذي أقلق أيوب وعكَّر له عيشه فعلَّم أنّ النفوس الفاضلة، وإن اضطُهدت على الأرض، تنعم بسكينة قرب الله وتُجازى في يوم الافتقاد. أجل، لا تتوقف حياة الأبرار في الموت الجسدي، بل تمتد إلى عالم أبدي مجيد قرب الله.

وعاد سفر الحكمة إلى سفر الأمثال الذي حدثنا عن الحكمة كشخص حي فاعل، فشدد على نشاط الحكمة الخلاق وعلى وظيفتها الكونية. لم تعد الحكمة وسيلة معرفة وتأمل، كما قال الفكر اليوناني، بل صارت وحيًا إلهيًا يكشف إرادة الله لأنها تقاسم حياة الله.

وتوسّع سفر الحكمة في موضوع البار المتألم، وفي إمكانية الإنسان أن يعرف الله انطلاقًا من الخليقة...

يبقى علينا أن نتعرف إلى هذا السفر الذي دُوِّن في اليونانيّة، فحمل خلاصة حكمة التوراة إلى أشخاص تعرفوا إلى فكر سقراط وقرأوا أفلاطون وأرسطو. وهكذا امتزج الفكر البشريّ بالوحي الإلهي.

1 - إسم الكتاب وموقعه في التوراة

إذا رجعنا إلى المخطوطات اليونانيّة وجدنا بين أيوب وابن سيراخ كتابًا يحمل اسم »حكمة سليمان«. أما اللاتينيّة الشعبية فتجعله بين نشيد الأناشيد وابن سيراخ، وتسمّيه فقط »سفر الحكمة«. فهو في معناه ومبناه كتابٌ حكمي، وفيه تحذير من جنون الإلحاد وعبادة الأصنام. عنوانه في السريانيّة »سفر الحكمة العظيمة«، وهو بهذا يعطي صفة لحكمة لا تشبه حكمة سائر البشر.

وصل إلينا سفر الحكمة في اليونانيّة. وقد جُعل في اللائحة القانونيّة الثانية، فصار جدالٌ على قانونيته: هل يدخل في قانون (أو لائحة) أسفار التوراة وهل يُعَدّ قاعدة إيمان. كُتِب متأخرًا وفي اليونانيّة فلم تأخذ به الجماعة اليهوديّة. أما العهد الجديد فاستقى منه أمورًا عديدة سنشير إليها فيما بعد، وكتَّابُه استعملوا التوراة السبعينيّة التي تشتمل سفر الحكمة فلماذا لا يفيدون منه.

ولقد أورد آباء الكنيسة الأولون (أي قبل مجمع نيقية سنة 325) نصوصًا من سفر الحكمة. نذكر من الغرب: أكلمنضوس الروماني، إيريناوس، هيبوليتس، ترتليانس وقبريانس، وراعي هرماس، وقانون موراتوري. ومن الشرق: أكلمنضوس الإسكندرانيّ، أوريجانس، ديونيسيوس الإسكندرانيّ وبمفيليوس القيصري. وبعد مجمع نيقية نذكر من الشرق: أوسابيوس القيصري، وباسيليوس وأفرام وديودورس الطرسوسي وغريغوريوس النيصي ويوحنّا فم الذهب وكيرلّس الإسكندرانيّ. ومن الغرب: هيلاريوس أوبتاتوس، أمبروسيوس، فيلستريوس. ووُجد نصّ سفر الحكمة في المخطوطات والترجمات واللوائح الرسميّة. ولهذا قال فيه أوغوسطينوس: يستحق سفر الحكمة أن يسمعه كلُّ المسيحيين، في كنيسة المسيح، بإجلال، بسبب سلطته الإلهية.

ولكن شك بعض الآباء في قانونيّة سفر الحكمة بسبب المجادلات مع اليهود. فأوريجانس الذي قال بأن سفر الحكمة ملهم، أشار إلى أن الجميع لا يأخذون بسلطته بالمقدار ذاته. وبعد القرن الرابع شك إيرونيموس وأثناسيوس وروفينوس ويوحنّا الدمشقي في سفر الحكمة. قالوا: إنه كتاب مفيد، ولكنه غير ملهم. والذي دفعهم إلى هذا القول هو غيابه من التوراة العبريّة ونسبته الخاطئة إلى سليمان. ورغم هذا التردّد هنا وهناك، احتُفظ بسفر الحكمة في اللوائح القانونيّة التي نقلها إلينا مجمع هيبّونة ومجمع قرطاجة وقرار جيلاسيوس وقرار أوجينيوس الرابع لليعاقبة (1442) والمجمع التريدنتيني (1546) والمجمع الفاتيكاني (1870).

أكد البروتستانت في القرن السادس عشر نقاوة تعليم سفر الحكمة، ولكنهم لم يقبلوه بين الكتب القانونيّة فجعلوه بين الكتب المنحولة، شأنه شأن ابن سيراخ ويهوديت وطوبيا والمكابيّين.

2 - مَن كتب سفر الحكمة وأين كتب؟

كاتب سفر الحكمة رجل يهوديّ يؤمن بالإله الواحد والقدير، برب الكون السامي، ويكرَهْ الشِرك ويحتقر الأصنام وينفر من الفلتان اللاأخلاقي عند الوثنيين، ويفتخر بأنه ينتمي إلى الأمة المختارة والشعب المقدس والنسل الذي لا عيب فيه. وهو مُعجَب بماضي هذا الشعب وبمآثر أبطاله، ومتيقن أن له رسالة يقوم بها في العالم. ثقافة صاحب سفر الحكمة ثقافة يهوديّة في أساسها. فلقد قرأ مرارًا وتكرارًا الكتب المقدسة وتأمل فيها واستلهمها في تأليف كتابه. أما الحكمة التي يمتدحها فليست حكمة اليونان، بل حكمة الله في  شعب إسرائيل، وهو يعود إلى الكلمات المعروفة في شعب إسرائيل ليقدِّم لنا صورة عن هذه الحكمة.

نقرأ في 9:7 - 8: »أخذْتَني لشعبك ملكًا ولبنيك وبناتك قاضيًا وأمرتَني أن أبني هيكلاً في جبلك المقدس ومذبحًا في مدينة سكناك على مثال المسكن المقدس الذي هيأتَه منذ البدء«. هذا الكلام يدل على أن سليمان هو الذي دوَّن سفر الحكمة. ولكننا نعرف أننا أمام خدعة أدبية تنسب أسفار الحكمة إلى سليمان، كما نسبت المزامير إلى داود، وأسفار الشريعة إلى موسى. فنحن نقرأ في أم 1:1: »أمثال سليمان بن داود ملك إسرائيل« (رج أم 10:1؛ 25:1). ونقرأ في نش 1:1: »نشيد الأناشيد لسليمان«. وفي بداية سفر الجامعة: »كلام الحكيم ابن داود ملك أورشليم« (جا 1:1). ويتابع كلامه: »أنا الحكيم ملكتُ على إسرائيل بأورشليم« (جا 1:12). أجل، أخذ آباء عديدون بهذه الخدعة البريئة.

نذكر أن كل المخطوطات اليونانيّة تحمل العنوان الآتي: حكمة سليمان (على غرار حكمة سيراخ). تحمله في البداية أو في النهاية. أما المخطوطات اللاتينيّة فتقول كتاب الحكمة أو حكمة سليمان أو كتاب حكمة سليمان. المخطوطات السريانيّة القديمة أغفلت اسم سليمان فقالت في بداية الكتاب: سفر الحكمة العظيمة. أما الهكسبلة السريانيّة فقدمت العنوان: حكمة سليمان. وأنهت الكتاب بهذه الملاحظة: نهاية سفر حكمة سليمان المسمى في اليونانيّة الفاضل. أما في النصّ العربي في بوليغلوتة (متعددة اللغات) لندن فنقرأ: سفر حكمة سليمان بن داود (أو النبي داود) الذي ملك على بني إسرائيل. ثم إن هناك بعض آباء الكنيسة الذين يوردون نصٌّا من سفر الحكمة، فيسمون الكتاب حكمة سليمان.

توزع الآباء وأغفل قسم كبير منهم اسمَ سليمان، ومع ذلك ظل العصر الوسيط الأوروبي ينسب حك إلى سليمان. قبل أن نقدم رأي الراهب ملاخي، نشير إلى أن بوليغلوتة لندن (سنة 1657) قالت: هناك شك بالنسبة إلى الكاتب. قد يكون حكيم عبراني كتب هذا السفر بوحي نبوي، وجعل كتابه النبوي في حمى سليمان ليصبح مقبولاً لدى قارئيه.

كتب الراهب الشرقي ملاخي في اليونانيّة عظات عن سفر الحكمة. وبعد أن ذكر عنوان الكتاب أعلن: »اقتنع كثيرون بأنه يتضمن أقوال سليمان نفسه. وفي أي حال يتكلمون عنه ويوردون نصوصًا وكأنها أقوال سليمان. ولكن يعلن غيرهم أنه لا يوجد إلا ثلاثة أسفار لسليمان. إذًا، لا يمكن أن تكون هذه الحكمة الجميلة والمفيدة عمل سليمان القديم، ملك إسرائيل وصاحب الأسفار الثلاثة«، التي هي الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد.

إذا لم يكن سليمان هو كاتب حك، فمن يكون الكاتب الحقيقي؟ قالوا: الكاهن الأعظم أونيا الثالث الذي تُوفي مقتولاً سنة 171 ق.م. (2 مك 4:30 - 38)، والكتاب يتحدّث عن البار الذي يضطهده يهودٌ جحدوا إيمانهم. وقالوا: أرسطوبولس، ذلك الكاتب الإسكندراني الذي عاش في فترة هادئة نسبيًا. وقال أغوسطينوس: كاتب سفر الحكمة هو ابن سيراخ. وقال غيره: حفيد ابن سيراخ. وقال بعض الأقدمين: كاتب سفر الحكمة هو فيلون الفيلسوف اليهودي الإسكندراني. واقترح آخرون: هو أبلوس، أحد رفاق بولس الرسول (رج أع 18:24 - 28).

إذا عدنا إلى سفر الحكمة وجدنا أن كاتبه يهوديّ متأثر بالعالم الهليني.  ودوّن ما دوّن في لغة يونانيّة جيّدة، ولم يترجم نصّه عن العبريّة مثلاً. فالافتراض أن سفر الحكمة دوِّن في العبريّة قبل أن يُنقل إلى اليونانيّة، لا يستند إلى أي أساس متين. ثم إن الكاتب يستعمل اللغة بسهولة فائقة ويستنبط مفردات جديدة. يبدو أنه قرأ هوميروس والكتَّاب المأساويين (سوفوكليس، أوريبيدس) وشيئًا من المؤرخ إكسينوفون. إتصل بمعلمي الفكر الهليني وأخذ من الفلسفة اليونانيّة وعلومها ما يليق بفكرٍ مثقّفٍ أن يأخذ. إذًا، هذا اليهودي الأمين لكلام الله، هو يهوديّ منفتح على العالم الوثني وثقافته، وبعيد كل البعد عن يهود فلسطين الذين رفضوا العالم الهليني وما يحمل من حداثة في الدين والاخلاق والحياة.

ولكن رغم هذا كلّه، لا نستطيع أن نحدد اسم كاتب حك داخل اللائحة التي أوردناها، وكل المحاولات باءت بالفشل إلى الآن.

إلا أننا نقدر أن نحدد المكان الذي وُلد فيه هذا الكتاب. وُلد في مصر حيث انتشر قسم كبير من يهود الشتات، وبالأخص في الإسكندرية التي كانت تعد حوالي مئة ألف يهودي. في هذه المدينة تُرجمت التوراة إلى اليونانيّة في النسخة المسماة السبعينية. وفي هذه المدينة تمَّ الاتصال بين العالم اليهودي والعالم الهليني. ولقد حاولت نخبة من اليهود المثقفين أن تقدم للوثنيين عرضًا عن ديانة الآباء،  وبحثت عن نقاط اتصال بين الثقافة اليونانيّة وتقليد بني إسرائيل. بهذه الحركة يرتبط سفر الحكمة، ولا سيّما وإنه يفضح عبادة الحيوانات التي عرفت بها وادي النيل.

ونتساءل أيضًا: متى كُتب سفر الحكمة؟

في يدنا عناصر أكيدة تساعدنا على تحديد الفترة التي كُتب خلالها حك. من الواضح أن الكاتب استعمل الترجمة السبعينية. فإذا قابلنا حك 2:12 مع أش 3:10، وحك 3:11 مع أم 1:7، وحك 6:14 مع أم 1:21، وحك 11:4 مع تث 8:15، وحك 11:22 مع أش 40:15، وحك 12:12 مع أي 9:12، وحك 15:10 مع أش 44:20، وحك 16:22 مع خر 9:24، نقتنع بالأمر. ففي هذه المقاطع، يفترق النص العبريّ الماسوريّ عن نصّ السبعينية، أما حك فيتبع السبعينية. فإذا عرفنا أن العلماء لم ينهوا ترجمة السبعينية قبل بداية القرن الثالث، يحق لنا أن نستنتج أن حك لم يدوّن قبل هذا التاريخ. ثم إن كاتب حك لا يدل أنه تعرَّف إلى أفكار فيلون الذي وُلد سنة 20 ق.م. وتوفي سنة 54 ق.م. فهذا يعني أنه كتب قبل هذا التاريخ. وبما أن نشاط فيلون جاء بعد حركة فكرية عُرفت في الإسكندريّة، يمكننا أن نقول إن حك كُتب حوالي السنة 50 ق.م.

3 - إلى من كُتب سفر الحكمة؟

عرّف الكاتب بنفسه من خلال خدعة أدبية، وها هو يعرفنا بقارئيه من خلال خدعة أدبيّة أيضًا. فهو يعلن أنه يتوجّه إلى الملوك زملائه. فهو يقول في 1:1: »أحبّوا التقوى يا حكام الأرض«. وفي 6:1: »فاسمعوا أيها الملوك وتعقّلوا، واتّعظوا يا حكَّام الأرض كلها«. وفي 6:9: »إليكم أيها الملوك، أوجِّه كلامي، لتتعلَّموا الحكمة لئلا تضلّوا« (رج 6:21). وهو يكتب إلى هؤلاء الملوك مقالة في فن تدبير المملكة (8:9 - 15). يُشبه هؤلاء المستمعون أولئكَ الملوكَ الذين أتَوا من كل الأرض ليسمعوا حكمة سليمان ( 1 مل 5:14؛ 10:24). ومهما يكن من أمر، فهذا الوضع يطابق ميزة من ميزات العهد الهليني الذي عرف مقالات عديدة عن سلطة الملك. إذًا، قدّم صاحبُ حك لملوك وأمراء عصره، مقالة عن السياسة بلسان سليمان، الملك الحكيم. ولكنه في الواقع، توجّه إلى سامعين من نوع آخر.

توجه إلى أبناء دينه ليحذرهم من غواية الوثنية وأخطار الاضطهاد. فبعضهم تخلى عن إيمان آبائهم (2:12)، وآخرون دبّ فيهم اليأس  بسبب أعمال العنف التي تصيبهم (2:10 - 12، 17 - 20). فأهملوا الممارسة الدينيّة وما عتّموا أن وقفوا مع الذين جحدوا إيمانهم. شعر الكاتب بهذه الحالة المقلقة، فكتب سفره ليعيد الشجاعة إلى القلوب ويرد الضالين. ومن أجل هذا، قابل بين مصير مجيد ينتظر البار، وعقاب قاس يحتفظ به الربُ للشرير. وذكَّر القارئ كيف  سهر الله على شعبه مدى تاريخه، وأعطاه النصر على أعدائه.

ورأى صاحب حك أن إخوته سُحروا ببهرجة المدنيّة الوثنية، وأُخِذوا بتنوع النظم الفلسفية، وخَلبت عقولَهم فتوحاتُ العلم وتحفُ الفن، وأداروا آذانهم إلى الديانات الخفيّة بما فيها من سحر وتنجيم وعرافة. رأى صاحب الحكمة كل هذا، فأراد أن يحمي شعبه من تأثيره. فأبان لليهود أنه يجب أن لا يحسدوا الوثنيين في شيء وعندهم ما عندهم من الغنى، وأنه من الجنون المطبق أن يطلبوا في غير مكان ما خصَّتهم به الحكمةُ الإلهية بغزارة ما بعدها غزارة. وذكّرهم أخيرًا بامتياز الشعب المختار الذي يتوجب عليه أن ينقل إلى العالم كله »نور الشريعة الخالد« (18:4).

كتَب صاحب حك إلى اليهود، ولكنه لم ينسَ الوثنيين. فحاول ان يبين لهم ان الشعب اليهودي ليسوا أناسًا من الهمج ولا أعداء الجنس البشري كما كانوا يتّهمونهم. فالإله الذي يعبدون هو عقل وحكمة، وهو يحبُّ جميع البشر دون تمييز في عرق أو في لون، ويطلب من أبنائه ان يصادقوا  هم أيضًا كل الناس. فيجب على الوثنيين ان يتخلّوا عن التعلق بآلهة متعددة وعن عبادة الأوثان، لان هذا أحدَرهم في فوضى اخلاقيّة هائلة. وليخضعوا للعقل فيتعرفوا إلى خالق الكون الوحيد. حينئذ يحصلون على الحكمة الحقة بعد ان كانت حكتهم أمورًا صبيانيّة. وهكذا يكون حك أيضًا نداء يتوجّه إلى الوثنيين فيحدّثهم بلغتهم عن الله، عن روحه، وعن حكمته ونشاطه.

4 - المحيط الذي وُلد فيه سفر الحكمة.

كيف بدا المحيط اليهودي في الاسكندريّة وفي مصر؟ يقول فيلون ان اليهود كانوا يعدّون هناك قرابة المليون، وقد جاؤوا إلى مصر خلال فترات متعددة. فإذا تفحصنا مثلاً عقيدة الجماعات اليهوديّة التي عاشت في جزيرة الفيل (أو الفنتين) قرب أسوان، لرأينا انهم هجروا بيت ايل، بعد اصلاح يوشيا الديني، وأتوا إلى مصر في سنة 631 - 630 ق.م. ويروي ارستيس المنتحل ان بساميتيك الثاني (594 - 589) هجم على الحبشة بجيش ضم وحدات يهوديّة. وحين أخذ البابليون أورشليم سنة 587، هرب شعب كثير من اليهوديّة وأورشليم إلى مصر (إر 41 - 44). شكّلت وحداتٍ حربيّة منظمة توزّعت في الدلتا وفي مصر العليا. وسيزداد عددهم في الحقبة الفارسيّة من التاريخ اليهودي، أي من نهاية القرن السادس إلى نهاية القرن الرابع ق.م.

وما بدَّل وضع اليهود في مصر، كان تأسيس الاسكندريّة على يد الاسكندر المقدوني سنة 332. أراد الملك الشاب لهذه المدينة الجديدة ان تكون بابا مفتوحًا على الغرب وامتدادًا لأثينة. فكانت في أيّام اللاجيّين الذين حكموا مصر من موت الاسكندر  إلى مجيء الرومان، مدينَة التجارة وعالمًا مصغرًا. وكانت أيضًا مع متحفها ومكتبتها، مركزًا علميًا ازدهر فيه النقدُ الأدبي والتاريخ والجغرافيا والهندسة والفلسفة. فأقام فيها كثير من اليهود الذين جاؤوا من مناطق مصر أو من فلسطين على أثر أحداث سياسيّة متنوعة. فبطليموس الأوّل ابن لاجوس (مؤسس سلالة اللاجيّين) احتل أورشليم وجلب معه اسرى عديدين. كما ان سياسة السلوقيين الدينيّة المتقلّبة دفعت بكثير من يهود فلسطين إلى ان يفضّلوا المنفى إلى مصر على الإقامة في فلسطين. ولقد عيَّن الملك لاقامة اليهود حيًا كبيرًا في شمالي الاسكندريّة أحاطه بسور. ولكنه ضاق بهم، فعيَّن لهم حيًا آخر. وهكذا صار لليهود حيّان من أصل خمسة أحياء في  الاسكندريّة. غير ان المجامع اليهوديّة توزّعت في كل أنحاء المدينة.

كيف كان الوضع السياسي لهذه الجالية اليهوديّة؟ ان الطابع الخاص والوطني للديانة اليهوديّة فرض على الشعب اليهودي ان يعيشوا متلاصقين في جماعة منغلقة على ذاتها. هذه الجماعة سُميت في الاسكندرية »بوليتوما« أي مدينة بادارة محليّة لها استقلالها وتنظيمها وحريّتها على مستوى الضرائب والقضاء والعبادة. كان على رأس الجماعة رئيس (أو إتنارخيس) يعاونه مجلس شيوخ (جروسيا). ولكن هذا لم يمنع اليهود من ان يتمتّعوا بحقوق المواطنية، شأنهم شأن المصريين أو اليونانيين.

كان حكم اللاجيين راضيًا عن اليهود يدافع عنهم ويحميهم. وظلت الحالة كذلك في أيام الرومان. ولقد حصل اليهود مع بعض الملوك على أرفع وظائف في الدولة. ولكن عند تبدُّل الحكّام كانت المضايقات تصيبهم. فحين ملك بطليموس السابع (145 - 116)، بدأ حكمه بأعمال انتقام من اليهود.

وكيف كان الوضع الديني؟ يمكننا القول ان الجماعات اليهوديّة في مصر ظلّت متعلّقة بإيمانها. غير أن بعضَ المجموعات حاولت ان تستقلّ عن أورشليم. ففي القرن الخامس ق.م.، بنت مجموعةٌ هيكلاً في جزيرة الفيل، ارتبطت فيه عبادة يهوه بالالاهة عنات. وكان أيضًا في شمالي البلاد هيكل يهودي أقيم قرب ليونتوبوليس (أو: يهوديّة)، قرب ممفيس، لخدمة الجالية العسكريّة هناك. يَئسِ اونيا الرابع، ابنُ الكاهن الأعظم اونيا الثالث، من الحصول على رئاسة الكهنوت في اليهوديّة، فلجأ إلى مصر. وهناك قدم له بطليموس السادس هيكلاً وثنيًا جعله مثل هيكل اورشليم لكي يقطع الطريق إلى فلسطين على يهود مملكته (كما فعل يربعام. رج 1 مل 12:27ي). ولقد ظل هذا الهيكل قائمًا حتى سنة 73 ب.م. ولكن إذا وضعنا جانبًا هاتين الحالتين الشاذتين، يمكننا القول ان الجماعات اليهوديّة ظلت أمينة لهيكل أورشليم تحجُّ إليه كل سنة وتدفع الضرائب المتوجبة عليها. وكانت تحفظ السبت والأعياد وتمارس الختان حيث تقيم.

ما الذي يميِّز الجماعات اليهوديّة في مصر عن الجماعات اليهوديّة في فلسطين؟ أولاً: تُقام الخدمةُ الدينيّة في المجامع باللغة اليونانيّة. ولهذا ترجمت الكتبُ المقدسة إلى هذه اللغة. ثانيًا: زادوا على الأعياد اليهوديّة عيدًا يحتفلون به بالترجمة السبعينية، وعيدًا يتذكرون فيه خلاصهم من اضطهاد أقرَّه بطليموس السابع. ثالثًا: شددوا على نقاوة الاخلاق ووحدانية الله واهمية الثواب والعقاب على حساب علم الفتاوى العزيز على قلب الكتبة والفريسيين.

كيف كانت علاقات اليهود الدينيّة بمحيطهم الوثني؟ كانت الوثنيّة المصريّة تولد كرهًا ونفورًا لليهود. وكان الوثنيون لا يوافقون اليهود في أمور ثلاثة: يمتنعون عن لحم الخنزير. يحفظون السبت وهذا ينمُّ عن كسل مبطن. لا يحملون صورة أو تمثالاً في عبادتهم، وهذا ما يجعلهم ملحدين. من أجل هذا، كثرت الافتراءاتُ، وأرسلت أقوالُ الاحتقار ضد هذه الجماعة المنغلقة على ذاتها.

غير اننا نلاحظ عند النخبة الوثنية انجذابًا إلى الدين اليهودي، إلى وحدانية الله السامية، إلى الممارسات الخلقية، وإلى التعليم عن الثواب والعقاب. ولهذا سنرى ان أشخاصًا عديدين اعتنقوا اليهوديّة كاملة بما فيها الختان، أو اكتفوا بممارسة الشريعة دون الختان فسُموا »خائفي ا«. وبالمقابل أثَّرت الوثنيّة على بعض اليهود. فإذا كانت المضايقات السلوقيّة دفعت بعض اليهود في أورشليم إلى جحد إيمانهم، فكم يكون تأثير العالم الوثني على اليهود العائشين خارج فلسطين. فاننا وان لم نصل إلى الجحود، فهناك نوع من التلوث يجعل اليهودي يترك تقاليد الآباء ويأخذ بالعادات الوثنية. هذا الوضع دفع يهود الاسكندريّة إلى ان يكتبوا ليدافعوا عن إيمانهم وليحاولوا احتلال مواقع جديدة داخل العالم الوثني. ومن هذه الكتب كان سفر الحكمة الذي دخل بين الكتب القانونيّة دون سائر الكتب التي عرفها ذلك العصرُ في الاسكندريّة.

5 - تصميم سفر الحكمة

يمكننا ان نقسم حك  ثلاثة أقسام: الحكمة ومصير الإنسان، مديح الحكمة، حكمة الله في التاريخ. في القسم الاول يدعو الكاتب البشر إلى اقتناء الحكمة والتعلّق بها ليكون لهم مصير الأبرار. في القسم الثاني يتساءل عن أصل الحكمة وطبيعتها وعملها وكيفيّة الحصول عليها. في القسم الثالث نتعرف إلى دور الحكمة في تاريخ شعب الله، ونستخلص فلسفة التاريخ الخاصة ببني اسرائيل في علاقتهم بالمصريين.

القسم الاول (ف 1 - 5): الحكمة ومصير الإنسان. يضع هذا القسم مصير الأبرار تجاه مصير الأشرار الذين يضطهدونهم. وهدف هذا القسم ان يوطد الإيمان لدى اليهود: فالمضايقات التي يقاسونها تُعِدُّ لهم مجدًا في الحياة الأخرى. ويحرِّض الكاتبُ المؤمنين على ممارسة التقوى التي تقود إلى الخلود.

لا شك في ان الأشرار أعمت بصائرهم الحياةُ الماديّة، فاضطهدوا البار لأنهم ما استطاعوا ان يتحمّلوا رؤيته. ولكنهم حين فعلوا هذا، جهلوا ان الله ادَّخر الخلود للنفوس النقية وأوجب العقاب لأعداء الحكمة. فالمرأة الكثيرة الاولاد تستحق اللوم ان كان سلوكها سيئًا، والمرأة العاقرة تستحقّ المديح ان كانت فاضلة. وإذا طال عمر الأشرار أو قصر عمر الأبرار، فهذا لا يعني شيئًا ايجابيًا. فالأشرار سيُخزون أمام الديان ولن ينفعهم الندم، أما الأبرار فيمجّدهم الله ويحيون إلى الأبد ويكونون في حمى الله وقت الدينونة.

القسم الثاني (ف 6 - 9): مديح الحكمة. يتفوَّه بهذا المديح سليمان. ولكن اسم الملك لم يرد في الكتاب. ويوجّه حديثَه إلى سائر الملوك ليدعوهم إلى فتح قلوبهم لتعاليم الحكمة. ما هي الحكمة؟ إنها واقع سري يفرض علينا ان نتعرف إليه ونتعامل معه. ثم يتحدث الملك عن طبيعة الحكمة وعن أصلها. صلّى، فأعطته الحكمةُ كلَّ الخير. دعا الرب، ينبوع كل معرفة، فصوّر طبيعةَ الحكمة وصفاتها. هي له عروس مثالية وهو يتمنى أن يعيش بقربها. ولكننا لا نحصل على مثل هذه الحياة الحميمة الا بعطية من الله. لهذا وجَّه سليمان صلاة جديدة الى الرب لتُعينه الحكمةُ في مهمته الملوكية، وتعرِّفه بارادة الله، لانها وحدها تعرف هذه الارادة ووحدها تخلِّص البشر.

القسم الثالث (ف 10 - 19): حكمة الله في التاريخ. هذا القسم هو أطول الأقسام وأكثرها تعقيدًا. يُدخلنا في عالم سفر التكوين وسفر الخروج، ولا ينسى ان يتوسّع في موضوع تعدد الالهة، ليحكم عليهم حكمًا قاسيًا مليئًا بالهزء والسخرية. يبدأ الكاتب من البداية، منذ آدم، ليصل إلى موسى. فيبين كيف ان الحكمة حمت الأبرار وعاقبت الأشرار. ويصل سريعًا إلى سفر الخروج ليقدم لنا تأملاً يقابل فيه مصير بني اسرائيل بمصير المصريين، انطلاقًا من الضربات التي حلّت بمصر. اما المبدأ الذي يوجه كلامه فهو: الاداة التي يستعملها الله ليعاقب اعداءه تكون وسيلة خير لبني اسرائيل. فمياهُ النيل التي تحولتْ دمًا لعقاب المصريين، أشبعت عطش بني اسرائيل في البريّة. ويشرع الكاتب بالهجوم على عبادة الحيوانات، ليشدّد على ان الله يعاقب برفق واعتدال ليدفع الناس إلى التوبة. ويعطي مثَل الكنعانيين الذين لم يُبِدْهم الله دفعة واحدة. ثم يعود إلى هجومه على عبادة الحيوانات، فيميّز نوعين من عبادة الأوثان: تأليه العناصر، التعبّد لصُنع أيدي البشر. والشكل الثاني دخل في عادات الناس بطريقة ماكرة فولَّد الشرّ والفساد. لقد حفظ شعبُ اسرائيل نفسَه من هذه الضلالة التي وقع فيها الآخرون. وهنا يعود الكاتب إلى المقابلة بين ما حدث للمصريين وما حدث لبني اسرائيل، فيتوسع في ست نقاط: معجزة السلوى لخير العبرانيين وضربة الضفادع لعقاب المصريين. الحية النحاسية التي تشفي العبرانيين والوحوش الضارية التي تقتل المصريين. المن والبرَد، النور والظلمة، موت أبكار مصر وخلاص شعب اسرائيل، غرق المصريين في البحر وعبور بني اسرائيل كما على اليابسة. وينتهي الكتاب كله بمجدلة: لانك يا رب عظّمت شعبك في كل شيء ومجّدته ولم تهمله، بل ساعدته في كل زمان ومكان.

مثلُ هذا التأليف المتماسك، يدل على أننا أمام كتاب واحد وكاتب واحد. انطلق بعض النقّاد من اختلاف في الايقاع والأسلوب ونقاط البحث، فقالوا: هناك كتّاب  عديدون. ولكن البراهين المقدمة تبدو واهية. فأقسام الكتاب الثلاثة ترتبط بعضها ببعض: كلمات هامة تتكرر. غنى في التعبير، أساليب التوسع المتشابهة، شعلة خطابية، فن دراماتيكي، تشديد على التعارض، النظرة الواحدة إلى مصير الإنسان وإلى التاريخ. إذًا، كاتب واحد دوّن سفر الحكمة.

ولكن الوحدة لا تستبعد تنوع المراجع التي استقى منها الكاتب. فجداله مع أصحاب تعدِّد الالهة قد يعود إلى كتاب هليني، وصلاة سليمان قد تكون أحد المزامير الذي اعتادت ان تتلوه جماعة الاسكندريّة. ومهما يكن من أمر، فالكاتب دمج العناصر التي أخذها في وحدة عضوية تدل على عبقريّته الفذة.

6 - الفن الادبي

إذا تطلعنا إلى حك ككل، نفهم انه لا يوجد سفرٌ يُشبه فنُّه الادبي فنَّ هذا السفر. ويمكننا أيضًا ان  نقول: لا يجد أي قسم من حك ما يوازيه في التوراة. فأسفار التوراة لا تعرف البناء بدرفتين متقابلتين (ديبتيكا). فكتاب الملوك مثلاً يقدم على التوالي ملوك يهوذا وملوك اسرائيل، متتبعًا العنصر الزمني. وهي لا تعرف مديحًا للحكمة حسب طبيعتها واصلها وأعمالها. فسفر الأمثال (ف 8) يقدّم تفكيرًا في جزئين: يتحدث عن قيمة تعليم الحكمة ثم عن دورها عند الملوك وعند الله الذي ينظم الكون. وابن سيراخ (ف 24) يقدم بنية ثنائية: من فم الله إلى الاقامة في يهوذا، وانتشار الحكمة انطلاقًا من الهيكل.

ولقد حاول الشرّاح ان يكتشفوا الفن الأدبي الخاص بسفر الحكمة. هناك المديح (أو التقريظ) وهو فن معروف منذ إيسقراطي (يوناني، 436 - 338 ق.م.) خطيب وارسطو. يتضمّن هذا الفن مقدمة المديح، ثم المديح بحصر المعنى (حسب أصل الشيء وطبيعته وأعماله، والعنصر الأخير الذي يتوسع بواسطة التشبيهات). وهناك الخطاب المقنع.

انه وان يكن في حك بعض عناصر خطاب الاقناع، الا  اننا أمام مديح كما حدّدته الاداب اليونانيّة واللاتينيّة. بعد القسم الاول وفيه اتّهام للخصوم، يعلن الكاتب انه يتطرق إلى طبيعة الحكمة وأصلها وتاريخها. ويقدم خلال عرضه لوحتين عن أعمالها. قال ارسطو: التضخيم ضروري في فن المديح. من هنا كان الكلام عن سموّ الحكمة، عن كرم، مَحتد سليمان وتربيته، وعن احترام الناس له واكرام الملوك لحكمته. فكأني بالكاتب يتحدّث في الوقت ذاته عن الحكمة وعن سليمان. حين يتحدث عن الحكمة، يُنشد طبيعتها وأصلها وأعمالها، وحين يتحدث عن سليمان يذكر اصله وطبيعته، ويدل ان الحكمة دخلت فيه (بالصلاة) فكانت اسمى من كل خير. ويتكلم على أعمال الحكمة من أجل سليمان: انها أم$، وصانعة كل الخيرات الملوكيّة والثقافيّة.

وفي ف 9 - 19 نجد ان البرهان الرئيسي مأخوذ من الماضي ومن تاريخ شعب اسرائيل. هذا  ما فعل فيلون. ولقد أخذ الكاتب أمثالاً يعرفها الجميع ولا يكون فيها جدل في الجماعة اليهوديّة. لهذا لم يذكر اسماء. بدأ بافراد، ثم انتقل إلى الشعبين العبراني والمصري. ومع الخاتمة، يستعيد الكاتب براهينه فيضرب الخصم ضربة قاضية ويُنهي مقالته.

أين يُقرأ المديح؟ بين الطلاب. انه تمرين مدرسي محفوظ للشبيبة، وهدفه ان يوقظ لدى السامع فضيلة من الفضائل، أو يجتذبه إلى مدرسة من مدارس الفلسفة. شدد حك 7 - 9 على شباب سليمان، فأفهمنا أن كلامه يتوجّه إلى الشبيبة. ولم يذكر أي اسم علم، لأنه يفترض ان اليهود يعرفون تراثهم خير معرفة. ولكن لا نضل حين نقرأ التلميحات إلى الملكيّة. فنحن، كما قلنا، أمام خدعة أدبية، والحكيم ملك كما يقول أم 4:9: »الحكمة تجعل على رأسك اكليل نعمة وتقدِّم لك تاجًا جليلاً« (رج سي 4:15: 6:29 - 31).

ويشدد الكاتب على البعد الديني. يتحدث عن البحث عن الحكمة واقتنائها، ولكنه يعرف ان الإنسان لا يقدر ان يحصل عليها بقواه. ولهذا لا بد له، مثل سليمان (1 مل 3:1ي)، ان يطلبها في الصلاة. من هنا وجود الصلاة في قلب حك. ثم ان الكاتب يَنظر إلى التاريخ لا كأنه سلسلة من المآثر البشريّة، بل كعمل خلاص يقوم به الله من أجل شعبه الذي لا بدَّ له ان يتوب. وحين نقرأ القسم الثالث، نرى ان الكاتب لا يواجه مستمعين من البشر، بل يقيم حوارًا مباشرًا مع الله. فكأني بالقسم التاريخي نشيد وامتداد للصلاة التي نجدها في ف 9. لا يعود الكاتب يذكر الحكمة بعد ف 11 (ما عدا 14:5 وبطريقة عابرة)، والأعمال الواردة هي أعمال الله نفسه. غير ان صلاة ف 9 تتوجه إلى الله الذي يقدر وحده ان يولي الحكمة ويوجهها إليها. بعد هذا، فالمآثر الماضية التي تملأ ف 11 - 19 تبرّر طلبنا إلى الله ان يعطينا حكمته. أجل هو الرب في قلب فكر الكاتب، كما هو في قلب تاريخ شعبه.

7 - التقليد الكتابي والادب الهليني

ما هي علاقة حك بالعهد القديم وبالاداب اليهوديّة وبالثقافة الهلينيّة؟

أ - سفر الحكمة والعهد القديم

من الصعب ان نجد التأثير التوراتي على القسم الأول. ففي التعليم عن الحياة الأخرى، يحاول حك ان يجيب إلى تساؤلات جذريّة طرحها سفر أيوب والجامعة: ان صاحب حك يتجاوز التعليم المعروف عن الثواب والجزاء على الأرض، فيعلن خلود النفس والمجازاة في الحياة الأخرى. ولكن يجب ان لا نرى في 2:1 - 9 لوحة مأخوذة من جا يحاول حك ان يرد عليها، لأنه يتطلع بالاحرى إلى التيارات الماديّة والمتعيّة في عصره. ومن النصوص التي الهمت ف 1 - 5 نجد مز 2 (رج 1:1؛ 6:1). والكلام الاساسي المتعلق بالخلود (1:13 - 15) يجد أساسه في تك 1 - 3. وحين يصور 2:10 - 20؛ 5:1 - 6 البارَّ المتألم، فهو يلمح إلى مز 22 (مع جهل لموضوع صمت الله الذي نقرأه في المزامير) وإلى أش 52:13 - 53:12 (مع موضوع الذل والرفعة). ونجد أثرًا من أش 40 - 66 في هذا القسم الأول. مثلاً نجد أش 56:3 - 4، في حك 3:14 (عن الخصي)، وأش 57:1 - 2 في حك 3:14 - 18 (لا مبالاة الشعب عندما يموت البار). ونجد آثارًا من دا 7 - 12 في حك 1 - 5: مثلاً دا 12:3 في حك 3:7، ودا 7:22 - 27 في حك 3:8، ودا 12:10 في حك 3:9 و4:15، وتلمِّح صورةُ الموت المبكر (حك 4:10) إلى اخنوخ (تك 5:24). من الواضح ان حك لا يتبع مرجعًا واحدًا، ولكنه يستند إلى تقليد واسع جدًا ليقدم نظرة مبتكرة.

في القسم الثاني يضع حك أمامنا سليمان الذي يذكّرنا، في قمة مجده، أنه سأل الله الحكمةَ فأعطاه اياها (1 مل 3:5 - 15؛ 2 أخ 1:7 - 12). ثم ان معرفة سليمان الشاملة التي نقرأ عنها في 1 مل  4:13 أوحت بحك 7:17، 20. ولكن صاحب حك يتبع 2 أخ فيُغفل كل ما يثلم صيت الملك في شيخوخته. أمّا بحثُ الحبيب عن الحكمة حبيبته (ف 8)، فيجد جذوره في نش وفي بعض النصوص الحكميّة (أم 4:6؛ 31:1ي في قراءة رمزيّة؛ سي 7:26 - 28؛ 15:2). وحين يتكلم الكاتب عن الحكمة وكأنها شخص، يعود إلى أم 8:1ي؛ سي 24:1ي. اما تشديد حك 7:21 و8:5 على دور الحكمة الفاعل في عمل الخلق فيستنير بعبارة »مهندسًا« التي نقرأها في أم 8:30.

ونصل إلى القسم الثالث ونتذكّر أنَّ سي 44:49 كان قد حاول ان يقرأ ماضي شعب اسرائيل قراءة حكمية. في 10:1 - 14 يعود الكاتب إلى تك. وبعد 10:15 يستفيد من خر وعد (مز 78؛ 105 - 107) ليصوّر ضربات مصر والخيرَ الذي حصل عليه شعبُ اسرائيل. ان حك 19:6 - 21 تعيد قراءة تك 1:1 - 2:4، وحك 19:14 - 17 تعود إلى تك 19:1 - 11 (لا ضيافة عند أهل سدوم). اما الاستطرادان في 11:15 - 12:27 وف 13 - 14 فهما يشكّلان وجهة نتوقّف عندها. نجد تك 1:1 - 2 في حك 1:17 وأش 40:15 - 7 تشير إلى سفينة نوح، وهو 4:2 يعطي لائحة بالرذائل نقرأها في حك 14:25. من خلال حك 15:1 نقرأ خر 34:6 (رحمة ا). ونكتشف أش 44:20 في حك 15:10، وتك 2:7 في حك 15:11، ومز 115:5 - 7 في حك 15:15. اما الصورة المثلَّثة التي نجدها في حك 13:15 (عبادة العناصر، عبادة الاصنام، عبادة الحيوانات) فهي مستلهمة من التوراة ولا سيّما تث 4:16 - 18؛ حز 8:1ي، دا 14:1ي (بال والتنين).

نشير هنا بطريقة عابرة إلى أن حك يورد نصّ السبعينية، وأنه لا يقدِّم النصّ بحرفيته، بل يمزجه بنصّ آخر مأخود من التوراة ومن سائر الكتب اليهوديّة أو الهلينيّة.

ب - سفر الحكمة والاداب اليهوديّة

هناك كتاب أخنوخ (وهو كتاب منحول أي غير قانوني). يعلن في المقدمة الدينونة التي فيها ينال الأشرار عقاب خطاياهم، والأبرارُ النورَ والفرح والسلام والحكمة. ويعود هذا الكتاب في الملحق إلى عقاب الخاطئين ومجازاة الأخيار. فيُعلن: ينزل الأشرار إلى الجحيم ويظلون هناك لعقابهم. اما الأبرار فيتنقّون بالمحن وينهضون من رقاد الجحيم ليشاركوا الملائكة في سعادتهم ويضيئوا كالنيِّرات في السماء. هل عرف حك كتاب أخنوخ؟ الأمر معقول.

وهناك كتابات قمران التي اكتشفت سنة 1947 في مغارة قرب البحر الميت. تعلن جماعةُ قمران حياة ثانية للأبرار وللأشرار. يتمتّع الأولون بحياة في رفقة الملائكة، ويَغرق الآخرون في الجحيم قبل ان يزولوا نهائيًا. على كل حال، ستكون دينونة في أواخر الازمنة. كل هذا يقربنا من حك. ولكن كتابات قمران تقسم الناس إلى أشرار وأبرار وتتكلم عن حتميّة حقيقيّة بحيث لا يستطيع الأشرار أن يتوبوا. غير أن حك يعلن ان الله لا يريد موت الخاطئ (1:14؛ 2:23) بل توبته (11:23؛ 12:2، 20).

وهناك فيلون الاسكندراني الذي استقى من المعين الذي استقى منه حك. نقرب حك 13 - 15 من كتاب الوصايا (62 - 65) لفيلون. وحياة موسى لفيلون تذكرنا ببعض عناصر حك: تفسير بعض الظواهر العجائبية في حك 19:8 - 20. ويشدد فيلون وحك على علاقة المنّ بالكلمة. ولكن يجب ان نشير إلى ان الاختلافات كبيرة بين حك وفيلون.

ج - سفر الحكمة والثقافة اليونانيّة

كتب صاحب حك في اليونانيّة، فانفتح على الثقافة اليونانيّة لغة وأسلوبًا وكلمات. في حك 2:1 - 3 نقرأ خطبة الأشرار المتأثرة بتعليم الابيقوريين، وفي 6:17 - 20 نجد فكرًا يقرِّبنا من الرواقيين. إذا كانت 7:17 - 20 تستعيد 1 مل 5:13 عن  علوم سليمان الشاملة، فإن 7:22 - 23 (تصور روح الحكمة من خلال 21 صفة) تذكر بتحديد الخير عند الرواقي كليًا. وحين يقول حك ان الحكمة تلج الكون وتوحّده، فهو ينسب إلى الحكمة صفة النفس الكونيّة التي قال بها الرواقيون. وفي 8:7 نقرأ الفضائل الأربع الأصلية كما يوردها الفكرُ الرواقي.

8 - نصوص سفر الحكمة والترجمات

أ - المخطوطات اليونانيّة

هناك السينائي (سيناء، القرن الرابع ب.م.) حيث الكتب الحكمية تلي الكتب النبوية (مز، أم، جا، نش، حك، سي). وهناك الفاتيكاني (الفاتيكان، القرن الرابع ب.م.) حيث الكتب الحكمية تلي الكتب التاريخيّة (مز، أم، جا، نش، أي، حك، سي). وهناك الاسكندراني (الاسكندرية، القرن الخامس ب.م.) حيث ترد كتب الحكمة في آخر التوراة (مز، أي، أم، جا، نش، حك، سي). وهناك الافرامي (يعود إلى القرن الخامس ب.م.) هو طرسٌ أي ورقٌ مُسِح ثم كُتب عليه ثانية. مُسح النص الكتابي وكتب فوقه نصّ من أفرام السرياني (الكتابة الثانية تعود إلى القرون الوسطى). وهناك الفينيسيانوس الذي يعود إلى القرن الثامن.

وهناك برديات يَعود بعضها إلى القرن الثاني ب.م. أو القرن الثالث، وهي تتضمن مقاطع من حك. ونشير أخيرًا إلى المخطوطات العديدة المكتوبة بحروف صغيرة جرّارة. مخطوط من الرق في البندقية، يعود إلى القرن الخامس عشر، ومخطوط آخر على الورق في فراري (ايطاليا) يعود إلى القرن الرابع عشر. عدد المخطوطات المكتوبة بحروف صغيرة جرّارة هو 45 مخطوطًا.

ب - الترجمات

الترجمة اللاتينيّة تعود إلى القرن الثاني فترتبط بنصّ أقدم من الذي بين أيدينا. غير ان المخطوطات التي بين أيدينا تعود إلى زمن متأخر. ثم اننا نعرف ان ايرونيموس لم ينقل إلى اللاتينيّة حك. فما نجده في اللاتينيّة الشعبية (أو فولغاتا) هو هذا النص القديم الذي نقل في افريقيا الشمالية في لغة شعبية لا لغة كلاسيكية.

الترجمات القبطيّة. هناك ترجمة كاملة في اللهجة الصعيديّة ومقاطع للاستعمال الليتورجي في اللهجة البحيريّة.

الترجمات السريانيّة. نصّ البسيطة طُبع في بوليغلوتة باريس وقد حقق النصّ جبرائيل الصهيوني، تلميذ المدرسة المارونيّة في رومة. وستأخذ بوليغلوتة لندن هذا النصّ دون ان تغير فيه شيئًا. وسيطبع العالم الطلياني شرياني نصٌّا جاء من مصر ويعود إلى القرن السادس. وكانت الطبعة العلميّة سنة 1959 في ليدن (هولندا). ونجد أيضًا نصّ الهكسبلة الذي يعود إلى القرن السابع والذي نسب إلى بطرس التلي: ترجمة حرفية تساعد على اكتشاف النص اليونانيّ الأصلي.

نقلت التوراة إلى الارمنيّة عن البسيطة في بداية القرن الخامس ثم عن السبعينية. اما المخطوطات فتعود أقله إلى القرن الثاني عشر.

الترجمة العربيّة الموجودة في بوليغلوتة باريس تعود إلى مخطوط واحد من باريس وقد أشرف على طباعته جبرائيل الصهيوني. هذا النص نقلته بوليغلوتة لندن كما فعلت بالنص السرياني. حاولت الترجمة العربيّة ان تنقل النصّ اليوناني بدقة وزادت بعض المرات كلمة أو كلمتين لتجعله واضحًا. ولكنها بسّطت مرات أخرى النص، ونقلته بطريقة تقريبية.

وهنا نشير بطريقة عابرة اننا لا نجد شرحًا واحدًا قديمًا لسفر الحكمة. فأول تفسير غربي يعود إلى القرن التاسع. وسيتبعه تفسير آخر في نهاية القرن الثاني عشر. اما في الشرق فهناك تفسير الراهب ملاخي الذي لا نعرف عن حياته شيئًا. ومتى كنتاكوزينس (ابن الامبراطور يوحنّا السادس واحد رهبان جبل اتوس) الذي قدم تفسيره في القسم الثاني من القرن الرابع عشر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM