يوسف في الرفعة والمجد

يوسف في الرفعة والمجد

سفر التكوين 41/37

الحلقة 62:

أحبّائي، سفر التكوين يتابع خبر يوسف:

- يوسف في العبوديّة

- يوسف في السجن

- والآن يوسف في الرفعة والمجد.

نقرأ سفر التكوين 41/37:

»فحسن هذا الكلام عند فرعون وعند جميع رجال حاشيته« نذكّر هنا ما سبق: كيف أنّ فرعون قصّ على يوسف حلمه أو بالأحرى حلميه. وقال له يوسف: هذان الحلمان هما في الواقع حلمٌ واحد: سنوات من الشبع وسنوات من الجوع. فسرّ يوسف الحلم أو بالأحرى الحلمين وأعطى نصيحة أن يوكّل فرعون رجلاً فهيمًا حكيمًا على كلّ أرض مصر مع موظّفين يجمعون خُمْسَ الغلال:

في هذا قال في 41/37: »فحسن هذا الكلام عند الفرعون وعند جميع رجال حاشيته. فقال لهم: هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله. وقال فرعون ليوسف: بعد ما أعطاك الله كلّ هذه المعرفة فلا فهيم ولا حكيم مثلك أنت تكون وكيلاً على بيتي وإلى كلمتك ينقاد كلّ شعبي ولا أكون أعظم منك إلاّ بالعرش. وها أنا أقيمك حاكمًا على كلّ أرض مصر. ونزع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف وألبسه ثياب كتّان وطوّق عنقه بقلادة من ذهب ثمّ أركبه مركبته الثانية. ونادى الحرس أمامه إركعوا. وهكذا أقامه فرعون على كلّ أرض مصر. وقال فرعون ليوسف: انا فرعون بدونك لا يرفع أحد يده ولا رجله في كلّ أرض مصر. وسمّى فرعون يوسف دصفنات فغنيح« وزوّجه »اسنات« بنت »فوطي فارع« كاهن أون.

وصار يوسف وصيٌّا على أرض مصر. وكان يوسف ابن ثلاثين سنة حين دخل في خدمة فرعون ملك مصر. وخرج من بين يديه، وجال في كلّ أرض مصر. وأثمرت الأرض في سبع سنين الشبع خبزًا كثيرًا فجمع يوسف كلّ غلال السنين السبع التي توالت على أرض مصر وخزّنها طعامًا في المدن. كلّ مدينة وغلال ما حولها من الحقول. فكان ما جمعه من القمح يعادل رمل البحر كثرةً حتّى ترك إحصاءه لأنّه لم يكن يحصى«.

ماذا يعني كلّ هذا النصّ؟

أوّلاً: إكتشف فرعون أنّ الذي تكلّم في يوسف هو روح الله. هذا الرّوح الذي يلهم الإنسان لكيّ يتكلّم، لكيّ يعمل، لكيّ يتصرّف، لكيّ يفكّر، لكي يخطّط، هذا الرّوح الذي قال فيه يسوع إذا كان لكم محاكمة لا تهتمّوا ما تقولون أو ما به تتكلّمون، فإنّكم تعطون في تلك الساعة حكمةً لا يقدر أعداؤكم على مقاومتها. فلستم أنتم المتكلّمين لكنّ روح أبيكم هو المتكلّم فيكم. والرّوح هو الذي تكلّم في يوسفن تكلّم في يوسف فجعله آداة الخير وآداة الخلاص بالنسبة إلى شعب مصر وبالنسبة إلى إخوته الذين ضلّوا في أرض كنعان التي لم يعد عليها مطر. إذًا اكتشف فرعون بحكمته البشريّة وهو صاحب الخبرة أنّ يوسف فيه روح الله وتابع فقال له: »بعد ما أعطاك الله كلّ هذه المعرفة«.

ماذا تستطيع أن تعمل معرفة البشر تجاه المعرفة التي يعطيها الله. حكمة البشر مهما كانت تبقى محدودة، وحدها الحكمة التي يعطيها الله هي التي تجعلنا أعظم من الحكماء. في هذا السبيل يقول بولس: »الربّ جهّل حكمة الحكماء«، جعلها جاهلة، جعلها بليدة مبتورة محدودة. لكن بما أنّ الله أعطى يوسف كلّ هذه المعرفة »فلا فهيم ولا حكيم مثلك«.

وهكذا شدّد الفرعون على أنّ هذه الحكمة وهذا الفهم الذين أعطيا ليوسف إنّما هما عطيّة من عند الله. فلماذا نبحث عن فهم عند الإنسان وعن حكمةٍ عند البشر ستبقى محدودة. ويقول فرعون »أنت تكون وكيلاً على بيتي«. هكذا كان يوسف في بيت »فوتيفار« هذا الوكيل، هكذا كان يوسف في السجن وهو الآن في المملكة، مملكة مصر، أعظم ممالك ذلك الزمان. هو الآن وكيل على كلّ أرض مصر »وإلى كلمتك ينقاد كلّ شعبي«. هذا الذي كان عبدًا صار حرٌّا هذا الذي كان في السجن صار حاكم البلاد. تبدّلت الأمور كلّ التبديل. قد تبدو الأمور تسير مسيرةً بشريّة نسمّيها الظروف، الحظّ، المناسبات، التي يستفيد منها الإنسان لكي يرتفع. نستطيع أن نسمّيها ما شئنا إذا ما عندنا إيمان. ولكن إذا كان عندنا إيمان، نعرف أن كلّ ظروف حياتنا هي في يد الربّ، إذا كان يخرج الخير من الشرّ. الربّ يخرج الخير إذا كان يوجّه كلّ شيء لخير الذين يحبّونه. فكيف نتجاسر أن نقول بعد الآن، هناك ظروف، هناك حظ، سمّوه ما شئتم.

مار بولس يقول »كلّ شيء يؤول لخير الذين يحبّون الله«. يكفي أن نحبّ الله، يكفي أن نعيش معه، يكفي أن نتلمّس حضوره. يكفي أن نطلبه في حياتنا، في أعمالنا، في أقوالنا. عندئذٍ لن تعود الأمور صعبة بالنسبة لنا أو إن هي صعبة نصبر عليها. فالربّ هو الذي يعرف أن ينتشلنا من الضيق، ينتشل أحباءه وينتشلنا نحن. يكفي أن نثق به كلّ الثقة أن نجعل إيماننا به. إذًا ما حصل ليوسف لم يكن وليد الصدفة، الربّ هو الذي دبّر كلّ شيء. هنا أحبّائي نفهم أهميّة الأحلام التي حلم بها يوسف وهو صغير في بيت أبيه. حلم إذًا بأنّه سيكون السيّد وإخوته عبيدًا. ما معنى هذا الحلم؟ أراد الكاتب أن يقول لنا، منذ البداية، أنّ الله هو الذي يوجّه الأمور هو الذي خطّط لها، يعني ذهاب يوسف إلى إخوته والإخوة الذي باعوا يوسف والسجن الذي جُعِلَ فيه يوسف. كان يمكن لو لم يوضع يوسف في السجن أن يبقى في بيت فوتيفار. ولظلَّ هناك حتّى موته ولكنّ السجن الذي وضعه فيه فوتيفار وهذا الإنحدار إلى أعمق أعماق الشقاء ساعده حتّى ارتفع أو بالأحرى ذهب الله إليه، إلى هناك ورفعه إلى أرفع مقام في أرض مصر. إذًا من خلال أحداث البشر، من خلال تصرّفات البشر، هو الربّ يكتب حياتنا بيدنا حرفًا حرفًا. وكلمة كلمة. كم نحتاج إلى إيمان كبير لكي نستشفّ أصابع الله. يقول في الإنجيل: »إن كنتم تعرفون هذا الإصبع الله. وفي ما كان هو روح الله لكن في أحد المرّات: إصبع الله هو الذي يحرّك الأمور لخير الذين يحبّونه وهنا نلاحظ أنّ الربّ هو الذي وجّه حياة يوسف. فوصلت إلى ما وصلت إليه من رفعةٍ. ويقول النصّ، »قال فرعون ليوسف: أنتَ تكون وكيلاً على بيتي وإلى كلمتك ينقاد كلّ شعبي ولا أكون أعظم منك إلاّ بالعرش« يعني جعل يوسف الشخص الثاني بعد فرعون لهذا تقول الآيى 43 »أركبه مركبته الثانية«. وتابع النصّ فيقول بلسان فرعون »ها أنا أقيمك حاكمًا على كلّ ارض مصر«. إنتقل يوسف من أسفل الدركات إلى أرفعها وصل ليكون حاكمًا على كلّ أرض مصر. وعلامة هذا الحكم، نلاحظ هنا حاكمًا وحكيمًا، بما أنّه حكيم، يحقّ له أن يكون الحاكم. فالحاكم هو أساسًا مهما علت درجته في الحكم من الأم والأب، من المعلّم والمدير من صاحب العمل من أيّ مسؤول على أيّ مستوى كان إذا أراد أن يحكم عليه أن يتحلّى بالحكمة وهذه الحكمة هي عطيّة من الله ونتذكّر سليمان في بداية عهده قدّم تقدمة على جبل »شبعون« فقال له الربّ: »أطلب ما تشاء«. فقال: »يا ربّ أطلب منك حكمة، أطلب منك فهمًا حتّى أقود هذا الشعب العظيم، هذا الشعب الكثير«. كان الجواب: »لم تطلب الغنى، لم تطلب الإنتصار على أعدائك، فأنا أعطيك الحكمة، وأعطيك الباقي«. لكن المهمّ، الحكمة هي الأولى والحكمة هي التي هيّأت يوسف لأن يكون الحاكم على أرض مصر وسوف نرى كيف فعل في سنوات الشبع بانتظار أن يفعل في سنوات الجوع. ودلّ فرعون على أنّ ما قاله سيفعله. يقول النص في الآية 42: »نزع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف«. الخاتم علامة السلطة هو الذي يختم. يوضع في الإصبع بشكل ختم. ويختم من يطلب القمح أو غيره. »وألبسه ثياب كتّان« يعني ثياب الأغنياء. الفقراء كانوا يلبسون الخيش وهو الثياب القاسية، الثياب الخشنة. أمّا يوسف فانتقل من حالة إلى حالة، »وطوّق عنقه بقلادة من ذهب« إذًا صار يوسف غنيٌّا بين الأغنياء بعد أن كان فقيرًا بين الفقراء وكلّ هذا نعمة من الرب. »ثمّ أركبه فرعون مركبته الثانية ونادى الحرس أمامه اركعوا وهكذا أقامه فرعون على كلّ مصر«. نستطيع هنا أن نقابل مع النصّ الإنجيليّ لوقا الفصل 15. نصّ الإبن الشاطر، الإبن الضال، كيف أنّ هذا الولد الذي ابتعد عن أبيه، أبوه جعل بيده خاتمًا ألبسه الثوب... وأولم له الوليمة. هناك دائمًا في حياة الإنسان أوقات من الذلّ، أوقات من الألم تليها أوقات من الرفعة، أوقات من الفرح، أوقات من المجد. وهنا يبدو يوسف صورة بعيدة عن يسوع المسيح، يسوع المسيح الذي لم يبدأ حياته بالمجد، كلاّ، أراد له الشيطان أن ينزل عن جناح الهيكل، رفض. أراد له الشيطان أن يحوّل الحجر إلى خبز، رفض. أراده الشيطان أن يكون الملك على الأرض كلّها شرط أن يسجد له، كلاّ، رفض. أرادوه أن يكون المسيح الممجّد الذي لا يمرّ في الألم لا يمرّ في الموت، رفض. لهذا سيقول لبطرس »إذهب خلفي يا شيطان«. أفكارك هي أفكار البشر لا أفكار الناس« هناك مرور في الألم قبل المجد ومرور في الموت قبل القيامة. هذا ما كان يوسف كصورة بعيدة عن يسوع المسيح الذي سيقول لتلاميذه بعد القيامة. كان على ابن الإنسان أن يمرّ ف هذه الآلام أن يعرف هذه الآلام قبل أن يدخل في مجده. وهكذا كان الوضع بالنسبة إلى يوسف. قبل كلّ هذا المجد كان له مرور، كما قلت، في العبوديّة في السجن وربّما التهديد بالموت. وقال فرعون ليوسف في الآية 44 »أنا فرعون بدونك لا يرفع أحد يده ولا رجله في كلّ أرض مصر« يعني لا أحد يتحرّك بدون أمر فرعون كلّ هذا يدلّ على سلطة يوسف الكبيرة على كلّ أرض مصر أوّل سعادة هي سعادة المال صار يوسف غنيٌّا. وهناك سعادة ثانية هي سعادة الأولاد وسمّى فرعون يوسف »صفنات فعنيح«. لماذا سمّاه؟ لأنّه أراد أن يخلقه من جديد، صار رجل ملك مصر. و»صفنات فعنيح« معناها الله يقول إنّه الحيّ أو بالأحرى مخلّص المملكة وزوّجه »أسنات« بنت »فوطي فارع« كاهن مدينة »أون«. وصار يوسف وصيٌّا على أرض مصر.

نلاحظ هنا إذًا، الدرجة الثانية من السعادة هي الزواج وسنعرف فيما بعد أنّه كان ليوسف إبنان الأوّل »منسّى«، قال »أنساني الله أتعابي« والثاني »إفرائيد« »الله جعلني مثمرًا في أرض شقائي« وفي الآية 46: »وكان يوسف ابن 30 سنة حين دخل خدمة فرعون ملك مصر وخرج من بين يديه وجال في كلّ أرض مصر«. هناك فكرتين: اين 30 سنة، هكذا كان اللاّوي يبدأ خدمته ولا ننسى أنّ يسوع، يقول القدّيس لوقا الفصل 3 »ويسوع لمّا بدأ الرسالة كان ابن 30 سنة«. عادةً في الأربعين يبدأ الإنسان عمله، لأنّ عام الأربعين هو نهاية جيل وبداية جيل ثاني. مثلاً إذا أخذنا حياة موسى، اربعين في الشباب، أربعين في البريّة وأربعين في الحياة مع شعبه في الصحراء وحتّى تلال ..... إذًا يوسف قبل الوقت، ابن ثلاثين سنة دخل في خدمة فرعون. هنا تبدأ المسؤوليّة بالنسبة إلى يوسف وسينفّذ حالاً هذه المسؤوليّة. يقول النصّ: »خرج وجال في كلّ أرض مصر«. اخذ فكرة عن هذه البلاد التي سيكون الحاكم عليها باسم فرعون. وننهي النصّ هذا بالبركة، البركة الكبيرة، بركة من قبل الله وتنظيم من قبل الإنسان، أثمرت الأرض فجمع يوسف الغلال، ثمار الأرض هي عطيّة من عطايا الربّ. ولكنّ الربّ أعطانا الفهم، أعطانا الحكمة حتّى ننظّم أمور الأرض، حتّى ننظّم بركات الأرض. الأرض أعطيت لنا هديّة، ونحن نحافظ عليها. الأرض أعطيت لنا منذ آدم لنحرسها ونفلحها وهكذا سيفعل يوسف، سيجمع غلال الارض، ويخزّنها من أجل الحاجة، من أجل زمن الجوع. هذا هو عمل الإنسان، أمّا عمل الله فهنا نقرأه 49: »فكان ما جمعه يوسف من القمح يعادل رمل البحر كثرةً، حتّى ترك إحصاءه، لأنّه لم يكن يحصى«. يعني عندما يعطي الربّ بسخاء، وبسخاء كبير. يعطي بسخاء لأنّ الربّ هو مع يوسف. كان يوسف في بيت فوتيفار، فحلّت البركة، هناك، وهو في أرض مصر فحلّت البركة هناك. لا شكّ حضور الربّ هو الذي يمنح كلّ هذه البركة. وننهي الفصل 41 بعائلة يوسف.

41 - 50: »وولد ليوسف ابنان قبل أن تدخل سنة الجوع، وهما الذان ولدتهما »أسنات« بنت »فوطيّ فارع« كاهن مدينة أوع. وسمّى يوسف ابنه البكر »منسّى« لأنّه قال »أنساني الله كل تعبي وكلّ أهل بيتي«. وسمّى الثاني »أفرايم« لأنّه قال جعلني الله مثمرًا في أرض شقائي. وكملت سبع سنين الشبع الذي كان في أرض مصر وابتدأت سنين الجوع تتوالى كما قال يوسف فكان جوع في جميع البلدان إلاّ في أرض مصر لأنّه كان فيها طعامًا مخزون. فلمّا بدأ أهل مصر يجوعون صرخوا إلى فرعون طالبين الخبز فقال لهم فرعون إذهبوا إلى يوسف وما يقول لكم فافعلوه. واشتدّ الجوع وشمل كلّ أرض مصر. ففتح يوسف جميع المخازن وباع القمح للمصريّين. وجاء الناس من جميع أقطار الأرض إلى مصر ليشتروا قمحًا من يوسف لأنّ الجوع كان شديدًا في كلّ مكان. إذًا كما سبق وقلنا سعادة يوسف تتمّ خطوةً بعد خطوة. سعادة أولى صار غنيٌّا، لبس ثياب الكتّان، طوّق عنقه بقلادة من ذهب، أعطي العظمة، خاتم الفرعون هو في يده. والسعادة الثانية هي العائلة كما قلنا مع ابنين سيكونين بين أسباط إسرائيل الغثني عشر. سعادة بالنجاح الذي حازه عندما نظّم أمور مصر. سعادة لأنّ هذين الولدين ولدا في سنوات الخصب. يقول هذا »قبل أن تدخل سنة الجوع«. وأخيرًا هذه البركة عمّت مصر، عكس سائر البلدان، هناك مجاعة أمّا في مصر فلا.

وننهي كلامنا بما قاله فرعون إلى الناس »إذهبوا إلى يوسف وما قاله لكم فافعلوه«. هذا ما قالته مريم في عرس قانا الجليل »إفعلوا ما يقوله لكم«. كما قلت، صار يوسف صورة بعيدة عن يسوع المسيح ويستطيع أن يعطي شعبه الخبز الذي يحتاجه. ويسوع إشترح المعجزة في عرس قانا الجليل بانتظار معجزة أكبر بكثير هي معجزة الصليب.

وهكذا اكتشفنا يوسف في السجن، في العبوديّة وفي الرفعة والمجد.

أتُرى كلّ هذا سيهيّؤه للّلقاء بإخوته؟ وكيف يلتقي بهم؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM