الفصل 5: بشارة مار لوقا البشير

بشارة مار لوقا البشير

بحسب المطران يوسف الدبس

سنة 1877، ظهر كتاب تحفة الجيل في تفسير الأناجيل. أمّا مؤلِّفه فالخوري (المطران بعد ذلك) يوسف الياس الدبس المارونيّ. يضمُّ هذا الكتاب تفسير الأناجيل الأربعة، وذلك بعد مقدِّمة طويلة تتحدَّث بشكل عامّ عن النصوص السريانيَّة والعربيَّة للكتاب المقدَّس. قبل تفسير كلِّ إنجيل، نقرأ مقدِّمة عن العنوان، عن صاحب الإنجيل، عن اللغة التي كتب فيها. وينتهي الكتاب بذكر الطريقة في تقسيم الإنجيل: »قد اختلف العلماء والنسّاخ في تقسيم بشارة متّى، وقد جزَّأتها النسخة اللاتينيَّة الدارجة (أو: الشعبيّة) إلى ثمانية وعشرين إصحاحًا والسريانيَّة إلى ثمانين فصلاً. ونحن نتبع هذا التقسيم«. وما فعله المطران الدبس في »بشارة متّى«، فعله في »بشارة مرقس«. قال في المقدِّمة: »إنَّ القدّيس مرقس يهوديّ أصلاً من سبط لاوي. وقال بيدا وغيره إنَّه كان كاهنًا هارونيٌّا... إنَّ مار مرقس كان مرافقًا زعيم الرسل في الإنذار« (تحفة الجيل، ص 373). »إنَّ مار مرقس كتب إنجيله سنة 45 لميلاد المخلِّص على ما كتب أوسابيوس في تاريخه. وقال بعضهم إنَّه كتبه بإملاء بطرس معلِّمه حتّى نسب ترتليانوس في الكتاب الرابع ضدَّ مرقيون، إنجيل مرقس إلى بطرس... وارتأى بعضهم أنَّ مرقس كتب أوَّلاً إنجيله باللاتينيَّة في رومة« (ص 374).

أمّا كلامنا فيتوقَّف عند بشارة لوقا. نبدأ بالمقدِّمة فنوردها كلَّها، ثمَّ نتوقَّف عند طريقة عرض الإصحاحات والفصول. ونختار من الشروح وجهتين: الوجهة التاريخيَّة، والوجهة الروحيَّة.

1 - مقدِّمة »بشارة مار لوقا البشير«

جاءت المقدِّمة تتحدَّث عن عنوان »الإنجيل«، عن لوقا وسيرته، عن مؤلِّفَيه وهدفهما.

أ - عنوان الإنجيل

»كذا عنونت هذا الإنجيل النسخةُ السريانيَّة التي طُبعت في رومة سنة 1703. وعنونه غيرُها من النسخ السريانيَّة: »باسم ربِّنا وإلهنا يسوع المسيح، نكتب الإنجيل المقدَّس الذي هو بشارة لوقا الإنجيليّ التي تكلَّم بها مبشِّرًا باليونانيَّة في مدينة الإسكندريَّة العظمى«. وعنوانه في النسخة اللاتينيَّة: »إنجيل يسوع المسيح المقدَّس. كما كتب لوقا«. وفي النسخة العربيَّة القديمة: »باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. إنجيل الأب الأفضل لوقا البشير. افتتاح الإنجيل المجيد«.

»فمن هذا الاختلاف يظهر أنَّ هذا العنوان لم يضعه مار لوقا، بل الكنيسة التي لأجل حُكمها فقط تعتقد أنَّ هذا الإنجيل هو للوقا، وأنّه قانونيّ، خلافًا لأناجيل أبولُّوس وباسيليد وغيرهما. وقال مار أغوسطينوس: إنّي لم أكن أؤمن بالإنجيل لو لم تسلِّمني إيّاه الكنيسة المقدّسة«. وكذا قُل في باقي الأسفار المقدَّسة.

»فينتج عن ذلك أنَّ الأراطقة الذين يُنكرون سلطة الكنيسة وعصمتها من الضلال، لا سيّما البروتستانت، لا يمكنهم أن يثبتوا أنّ الأسفار المقدّسة قانونيّة وملهمة من ا؟. إذًا لا سبيل إلى إثبات ذلك إلاّ، إمَّا من الكتاب المقدَّس وهو لا يذكر القانونيَّة والملهمة على الأقلِّ بالتفصيل، وإمّا من التقليد والبيِّنات القديمة، وهم ينكرون التقليد، والبيِّناتُ القديمة فيها اختلاف باهظ، وإمّا من الذوق والروح الخاصّ، كما يقولون، وهذا خداع وفرديّ والعمل بيَّن بطلانه، فلا يبقى إلاّ حكم الكنيسة الكاثوليكيَّة. وهم ينكرون صحَّته. ولذا تراهم في خلاف دائم على عدد الأسفار المقدَّسة. وقد أنكر بعضُهم بعضًا تدريجًا حتّى اتَّصل الكثير منهم إلى إنكارها بجملتها. وكذا قُل في تفسير معاني آيات الكتاب المقدَّس. فالمعنى الصحيح لها ما تحكم به الكنيسة المقدَّسة، وإلاّ فتنشأ محاورة لا بتَّ لها«.

جعل المطران الدبس نفسه في قلب الكنيسة بسلطتها وعصمتها. فهي التي تحدِّد الأسفار الملهمة. أمّا من لا يقبل بهذه الكنيسة، فلا يستطيع أن يُثبت هذه الأسفار. وماذا عن التقليد؟ البروتستانت يرفضون التقليد ولا يلتجئون إلاّ إلى سلطة الكتاب المقدَّس ويتحدَّث الدبس عن الذوق. وكما دور الكنيسة كبير في تحديد الأسفار القانونيَّة، كذلك دورها في البحث عن معاني الكتاب. لهذا كان الخلاف »على عدد الأسفار«، ويواصل الدبس كلامه فيحدِّثنا عن لوقا، صاحب الإنجيل الثالث.

ب - لوقا وسيرته

»إنَّ مار لوقا منشأه مدينة أنطاكية، كما علَّم أوسابيوس وإيرونيموس وغيرهما كثيرون من القدماء والحديثين. وكان طبيبًا كما علَّم المؤلِّفون المذكورون، سندًا على قول الرسول في رسالة كولوسايس (4: 6): »يقرئكم السلام لوقا الطبيب الحبيب« وكان مصوِّرًا، كما ارتأى سمعان متفرستي ونيكوفوروس. وقيل إنَّه أوَّل من صوَّر صورة مريم العذراء وصورة الرسولين بطرس وبولس. وكان خبيرًا بالعلوم الفلسفيَّة واللغة اليونانيَّة، ولذا كان إنشاؤه في اليونانيَّة أفصح من إنشاء باقي الإنجيليّين«.

يقف الدبس في خطِّ الآباء، وما يحمله التقليد من أخبار، دون أن يتوقَّف عند ما هو تاريخيّ. هكذا كانت تقول مراجعه في القرن التاسع عشر، تجاه الليبراليَّة المتطرِّفة، التي نسيَت الإلهام وراحت تعمل معولها في النصوص المقدَّسة. ويواصل الشارح الكلام عن لوقا الإنجيليّ:

»ذهب أوريجانوس، ونقلا عن أوتيميوس، والقدّيس غريغوريوس الكبير في مقدِّمته على سفر أيّوب: »إنَّ لوقا كان من الاثنين والسبعين (لو 10: 1ي) مبشِّرًا«. والأصح ما ذهب إليه إيريناوس في الكتاب الأوَّل رأس 30 في إصحاح 65 في أشعيا، وفي مقدِّمته على بشارة متّى، وتاوادوريطوس، وبارونيوس، وغيرهم: »إنَّ لوقا لم يكن من الاثنين والسبعين مبشِّرًا، ولم يشاهد المسيح. بل كتب ما سمعه من الرسل ومريم العذراء، كما شهد عن نفسه بقوله في بداية إنجيله: »حسبما عهد إلينا أولئك الذين كانوا منذ القديم معاينين، وكانوا خدّام الكلمة« (لو 1: 2). ولهذا دعاه الآباء متواترًا: »تلميذ الرسل، ولا سيَّما بولس الذي كان لوقا رفيقًا، ملازمًا له، حتّى نسب ترتليانوس (في الكتاب الرابع ضدَّ مرقيون الرأس 5) إنجيل لوقا إلى بولس الرسول، لأنَّ بولس لقَّنه، كما لقَّن بطرسُ الرسول مرقس الإنجيليّ.

»وقد استنتج بارونيوس من الأبركسيس (16: 10): »إنَّ لوقا لازم بولس الرسول في طروادة، سنة 51 للمسيح، وبعد ملازمته له بعض سنوات، افترق عنه مرسَلاً إلى أمصار أخرى، إلى أن رجع بولس إلى بلاد اليونان بعد أن جال أصقاعًا عديدة، وكان عازمًا أن يسافر إلى سورية ومنها إلى رومة (كما في الأبركسيس 20: 3). فأخذ لوقا بين من أخذهم معه، كما روى لوقا في آ5 وآ15 من الإصحاح المذكور (أع 20: 5-6). واستمرَّ لوقا مرافقًا له إلى أن سُجن بولس المرَّة الأولى، في رومة، في السنة الثامنة لنيرون. ولهذا ينتهي كلام لوقا في الأبركسيس. هناك من ذكر أعمال الرسل وخاصَّة بولس«.

»إنَّ لوقا، بعد أن سُجن مار بولس في رومة، مضى مبشِّرًا بالإنجيل في دلماثيه (في كرواتيا، أوروبّا الشرقيَّة) وفرنسا وإيطاليا ومكدونيا، إلى أن نال إكليل الشهادة في باتراس، مدينة آخائية (اليونان) سنة 61 للمخلِّص، كما ارتأى بارونيوس في تلك السنة، نقلاً عن غريغوريوس النازينزيّ ولينوس ونيكوفوروس. وذكر القدّيس إيرونيموس وبيدا أنَّ مار لوقا لم يرتكب في حياته خطيئة مميتة البتَّة، وعاش عيشة قشفة بإماتة متَّصلة، وحفظ بكارته دائمًا. ولذلك كانت العذراء الكلّيّ طهرها تحبُّه أكثر من الباقين«.

وهكذا صار لوقا الإنجيليّ في خطِّ تقويٍّ دفاعيّ، ذاك الرسول الذي ضاهى مار بولس في نشر الإنجيل. كما سار في خطِّ النسّاك في حياة »تميت« الجسد. وأخيرًا، عاش البتوليَّة التي هي كمال الحياة المسيحيَّة. وإذ تكلَّم هذا الإنجيليُّ عن مريم العذراء، ذُكر أنَّه رسم صورتها. وقيل هنا إنَّها »كانت تحبُّه أكثر من الباقين« وهو العائش البتوليَّة على مثال بتول البتولين والبتولات. ولم يبقَ للدبس سوى أن يقول كلمة عن كتابة لوقا للإنجيل.

ج - كاتب الإنجيل

»إنَّ مار لوقا كتب الأبركسيس والإنجيل. أمّا الأبركسيس فلا ينوط بنا الكلام فيه. وأمّا الإنجيل، فكتبه باليونانيَّة لليونان، وارتأى ترتليانوس، كما قدَّمنا، والبعض أنَّ لوقا كتب ما لقَّنه إيّاه بولس الرسول. واستحسن ملدوناتوس رأي من قالوا: »إنَّ لوقا لم يأخذ إنجيله عن بولس وحده، بل من غيره من الرسل أيضًا« كما يظهر من قوله المتقدِّم إيراده: »حسبما عهد إلينا أولئك الذين كانوا منذ البدء معاينين، وكانوا خدّام الكلمة«. وارتأى بارونيوس أنَّه كتبه برفقة بولس سنة 58 للمخلِّص. ويقول إيرونيموس: »إنَّ لوقا كتب الإنجيل في آخائية وبواتيا، حيث كان بولس تلك السنة. وارتأى آخرون أنَّه كتبه قبل ذلك، وهذا يعوَّل عليه إن صحَّ ما كتبه مار إيرونيموس في كتابه في المؤلِّفين الكنائسيّين32 وترتليانوس في الكتاب الرابع ضدَّ مرقيون، رأس 5. ومار أنسلموس وغيره في تفسير رسالة كورنتوس الثانية (8: 18). وهو أنَّ قول الرسول في المحلِّ المذكور »أخانا الذي مِدحتُه الإنجيل«، يُراد به مار لوقا. وهذا قد أثبته بإسهاب القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ والمعاصر بنوع ما لمار لوقا، لأنَّ رسالة كورنتوس المذكورة قد كتبها الرسول سنة 58 للمسيح. ولهذا، إذا كانت حينئذٍ المدحة للإنجيل، فيلزم القول إنَّ هذا الإنجيل كُتب قبل ذلك. ومن ثمَّ قال إوتيميوس وتاوفيلكتوس في المقدِّمة على إنجيل لوقا: »إنَّ هذا الإنجيليّ كتب سنة 49 لميلاد المخلِّص«. إلاَّ أنَّ لوقا لم يكن لازم بولس حينئذٍ، إذ قدَّمنا أنَّه لازمه سنة 51. فيظهر إذًا أنَّ لوقا دوَّن إنجيله بعد سنة 51 المذكورة، وقبل سنة 58 إذ كان إنجيله انشهر في هذه السنة، كما مرَّ من قول الرسول«.

ما نلاحظه هو أنَّ الدبس أو من أخذ عنهم، يتحرّون المراجع ويقرأون النصوص. أمّا رسالة كورنتوس الثانية، فكُتبت في تلك الفترة المذكورة أو قبلها بقليل. لكنَّ العلم الحديث يعتبر أنَّ النسخة الأخيرة لإنجيل لوقا كانت حوالي سنة 85، وفي أيِّ حال بعد دمار أورشليم الذي حصل سنة 70 ب.م. ويواصل الدبس كلامه حول الهدف من كتابة الإنجيل:

»إنَّ القدّيس لوقا تعمَّد في كتابة إنجيله، بعد متّى ومرقس، أمرين: الأوَّل، دحض الأناجيل الكاذبة التي كانت ظهرت وقتئذٍ في سورية وبلاد اليونان، منسوبة إلى توما وماتيّا والاثني عشر رسولاً وغيرهم، كما أشار إلى ذلك في فاتحة إنجيله بقوله: »لأجل أنَّ كثيرين راموا أن يكتبوا قصص الأمور التي نحن بها عارفون« (لو 1: 1). وكما ذكر أوريجانوس ومار أمبروسيوس وتاوافيلكتوس في مثل هذا المحلّ ومار إبيفانيوس في أرطقة 51. الثاني، تحرير ما عدل عنه متّى ومرقس من أقوال المسيح وأفعاله: كطفوليَّته، وصبوّته، والبشارة بسابقه يوحنّا المعمدان، والحبل به ومولده، وبشارة العذراء وحبلها بالمخلِّص وولادتها له في المذود وختانته وتقديمه إلى الهيكل ووجدانه بين العلماء. ورجوع المجدليَّة وزكّا العشّار واللص اليمينيّ، ومثل الفرّيسيّ والعشّار والسامريّ، والخروف الضالّ، والدرهم الضائع، والابن الشاطر، وألعازر والغنيّ، وغير ذلك ممّا أهمله متّى ومرقس، وممّا يدلُّ على رحمة المسيح ورأفته بالخطأة. فإنَّ لوقا كان طبيبًا للأجساد. وبعد ارتجاعه، عالج النفوس بذكر مراحم ا؟ التي بها يتطهَّر الخطأة، كما قال القدّيس أنسلموس في تفسير الإصحاح الرابع من رسالة كولوسايس«.

قدَّم الدبس (أو مراجعه) ملخَّصًا لإنجيل لوقا، أو أقلَّه أهمّ ما فيه بالنسبة إلى متّى ومرقس. قال إنَّهما »أهملا«. في الواقع، لسنا أمام إهمال، بل نقل تقليد يختلف عن تقليد آخر. وفي ما يخصُّ التعليم، استقى متّى ولوقا من المعين الواحد، وقدَّم كلُّ واحد منهما النصَّ بحسب نظرته الخاصَّة والمحيط الذي يكتب له. أمّا مرقس فهو أوَّل الأناجيل. والتصميم الذي قدَّمه سنة 69-70 ب.م.، أخذ به الإنجيليّون الثلاثة الآخرون، وأضافوا عليه ما أضافوا من تقاليد وصلت إليهم.

2 - طريقة التفسير

أخذ الدبس ترقيم النصِّ الكتابيّ من التقليد اللاتينيّ كما حدَّده مجمع ترنتو، في إيطاليا، في القرن السادس عشر، وسارت فيه الكنيسة الكاثوليكيَّة. قسَّم هذه النصوص في »إصحاحات«، وداخل الإصحاحات كانت الفصول التي توازي مقاطع في الكتاب المقدَّس يمكن أن نقرأها في احتفال ليتورجيّ. ونحن نأخذ ف 1 من إنجيل لوقا الذي يمتدُّ على ثمانين آية في ترجماتنا الحديثة. كيف تعامل معه هذا الشارح المارونيّ؟

دعاه أوَّلاً »الإصحاح الأوَّل«. وكانت مقدِّمة تُدخل المؤمنين في هذه الآيات الثمانين: »فحواه تبشير رئيس الملائكة لزكريّا بالحبل بيوحنّا المعمدان، وإبكام زكريّا لعدم تصديقه، وتبشير جبرائيل لمريم العذراء بتجسُّد المسيح في حشاها بفعل الروح القدس، وزيارة العذراء لإليصابات وارتكاض يوحنّا في حشاها، ونبوءة إليصابات وتسبحة مريم ؟، وميلاد يوحنّا وانحلال لسان زكريّا وتمجيده ؟، ونبوءته على ابنه وعلى المسيح«.

أ - الفصل الأوَّل

ذاك ما دعاه الشارح »الإصحاح الأوَّل« (1: 1-80). وقسَّمه إلى فصول. بدأ الفصل الأوّل مع آ1 (أو عد 1): »لأجل أنَّ كثيرين راموا أن يكتبوا قصص الأمور التي نحن بها عارفون«. ويبدأ الشرح:

»إنَّ هذه الآية فاتحة من لوقا لإنجيله، يورد بها الداعي الذي حمله على تحريره، ارتأى ملدوناتوس أنَّ قوله »كثيرين« يشير به إلى متّى ومرقس. إلاّ أنَّ هذين اثنان، لا كثيرين. ولذا يظهر أنَّه أشار بذلك إلى الأناجيل المزوَّرة المنسوبة إلى ماتيّا وتوما وغيرهما من الرسل. ثمَّ إلى نيقوديموس، والناصريّين والعبرانيّين، لا إلى أناجيل كيرنتوس ومارينتوس كما زعم إبيفانيوس. ولا إلى إنجيل باسيليد، لأنَّ هؤلاء كانوا بعد لوقا، كما يتَّضح من تاريخ أوسابيوس (ك 3، رأس 32)«.

إذًا، كثرت الأناجيل فوجب على لوقا أن يقدِّم إنجيلاً جديرًا بالثقة. ونقرأ عد 2: »حسبما عهد إلينا أولئك الذين كانوا منذ القديم معاينين، وكانوا خدّام الكلمة«.

»يبيِّن الإنجيليّ هنا أنَّه أخذ ممَّن يُوثَق بقولهم ويُعتمد إليه. قال فم الذهب: »إنَّه أشار بذلك إلى الرسل كلِّهم«. وقال تاوفيلكتوس: »إنَّه أشار إلى بطرس ويعقوب ويوحنّا (= الرسل) لدعوتهم السبّاقين«. وكانوا »معاينين« »منذ القديم«، أي منذ البدء كما قرأت اللاتينيَّة الدارجة (الفولغاتا). وقد أعجب ملدوناتوس رأي من قال إنَّه أشار قبل الجميع إلى مريم العذراء، إذ من المؤكَّد أنَّ لوقا نظرها، وعاشرها، وكتب عمّا هي به أعلم، كبشارتها وحبلها العجيب وزيارتها إليصابات، إلخ.

»وللكلمة في الآية معنيان: الأوَّل، كلمة الآب، أي المسيح، وعليه كأنَّه يقول: كما سلَّم إلينا الرسل الذين عاينوا المسيح وخدموه. والثاني، الإنذار، وعليه كأنَّه يقول: كما عهد إلينا من عاينوا أعمال المسيح وخدموه بالإنذار والتبشير بالإنجيل. فالمعنى الأوَّل أورده مار إيرونيموس في المقدِّمة على بشارة متّى، والثاني طُبِّق وأظهر، ومرجع المعنيين إلى واحد«.

عد 3. رأيت أنا، إذ كنتُ قريبًا من كلِّ ذلك بالاجتهاد، أن أكتب إليك كلَّ شيء حسب ترتيبه، أيُّها الشريف تاوافيلا.

»وقرأت اللاتينيَّة الدارجة: »رأيتُ أنا أيضًا، إذ كنت مقتفيًا كلَّ شيء منذ البدء، بالاجتهاد، أن أكتب إليك بحسب الترتيب أيّها العظيم تاوافيلا«.

هي مقابلة بين النصّ السريانيّ الذي يرد شرحه، والنصّ اللاتينيّ الذي طالبت به رومة مند بداية الطباعة، لكي يكون هو المعيار لصحَّة الترجمة، كما أُوضح في مجمع ترنتو (رقم 1504، ص 386): »إذا لم يتقبَّل أحد هذه الأسفار (كانت لائحتها في رقم 1502-1503) على أنَّها مقدَّسة وقانونيَّة في مجملها، كما جرت العادة أن تُقرَأ في الكنيسة الكاثوليكيَّة، وكما توجد في الطبعة المنتشرة اللاتينيَّة القديمة؛ إذا احتقر التقاليد السابقة عن معرفة واختيار حرّ، فليكن محرومًا«. ويواصل الدبس:

»إنّ الإنجيليّ أبان في العدد السابق أنَّه أخذ عمَّن يُوثَق بهم. وهنا يبيِّن أنَّه مارس »الاجتهاد« في الأخذ عنهم، وأنَّه لذلك رأى أن يكتب »حسب الترتيب«. ولا يُفهَم من ذلك ما فهمه بعضهم أنَّ لوقا وحده حفظ النظام في كلِّ ما كتبه، بل المراد أنَّه حفظ نظام التاريخ، إذ تكلَّم أوَّلاً في ما تقدَّم ميلاد المسيح، ثمَّ في مولده وطفوليَّته وصبوَّته، ثمَّ في إنذاره وعجائبه، ثمَّ في آلامه وموته ودفنته، وقيامته وظهوره وصعوده.

»وقد ظنّ أوريجانوس وغيره أنَّ تاوافيلا الذي كتب إليه لوقا إنجيله، هو اسم كلِّ إنسان تقيّ، لا عَلَم شخص. فإن تاوافيلوس تأويله: محبّ ا؟. والصحيح أنَّ تاوفيلوس هذا كان رجلاً شريفًا في أنطاكية رجع إلى الإيمان على يد بطرس، فكرَّس داره كنيسة، وأقام بطرس كرسيَّه الأوَّل فيه، كما روى القدّيس إكليمنضوس الرومانيّ في الكتاب العاشر. وزاد تاوافيلكتوس: »إنَّ تاوافيلا هذا كان تلميذًا للوقا. فإنَّ بطرس كان يكلِّف غيره بتعليم المؤمنين أيضًا لكثرتهم. وقد وصف تاوافيلا بالشريف أو العظيم، لأنَّه كان واليًا في أنطاكية أو من رجال ندوتها«.

ما نلاحظ في هذا التفسير، تواتر العودة إلى آباء الكنيسة: أوسابيوس، إيرونيموس، إكليمنضوس... فالشارح أو من أخذ عنه، يهمُّه أن يكون في خطِّ التقليد الكنسيّ، مع امتدادات حديثه. ونقرأ شرح آ4-5:

لتعرف حقيقة الكلمات التي تَتَلمذَت لها. كان في أيّام هيرودس، ملك اليهوديَّة.

»ذكر الإنجيليّ أيّام هيرودوس، توكيدًا للتاريخ بتعيين زمان مولد يوحنّا والمسيح، وإشارة إلى نبوءة يعقوب على المسيح بزوال قضيب الملك من يهوذا وانتقاله إلى أجنبيّ (تك 49: 10). كما كان هيرودس الذي هو أدوميّ أصلاً وعسقلانيّ موطنًا، وهو الأوَّل بهذا الاسم وأبو الباقين وحدهم. وذرِّيَّته، وإن كانت عديدة، فلم تدُم إلاَّ مئة سنة، وانقرضت إلاّ القليلون منها، كما شهد يوسابيوس في الكتاب الثامن عشر، رأس 7«.

كاهن. شرعيّ وهارونيّ. اسمه زكريّا. وكان نبيٌّا كما يظهر من 1: 64-65. وقد أحصاه السنكسار الرومانيّ بين القدّيسين، وتذكاره في الخامس من تشرين الثاني. وروى بارونيوس تبعًا لأوريجانوس وغريغوريوس النزينزيّ وغيرهما، أنَّه شهد قتله هيرودوس بين الهيكل والمذبح، وأنَّه هو المراد بقول المخلِّص (مت 23: 37): »إلى دم زكريّا ابن براشيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح«. وروى الحجريّ أنَّ رأسه محفوظ في كنيسة مار يوحنّا لاتران في رومة، وأنَّه شاهده. وتأويل زكريّا تذكرة الربّ. من خدمة آل أبيّا. لمّا كثر عدد الكهنة الهارونيّين، فوقاية من البلبال في خدمة الهيكل، قسَّمهم داود أربعًا وعشرين عيلة يخدمون الهيكل على التعاقب، كلّ عيلة أسبوعًا. ومجانبة للخصام على التقدُّم، اقترعوا، فمن أصابته القرعة الأولى كان الرتبة الأولى، ومن أصابته الثانية، ففي الثانية، وهلمَّ جرٌّا. فأبيّا، جدّ زكريّا، في تلك الأيّام، كان في الرتبة الثامنة، وذلك جميعه يظهر في سفر الأيّام الأوَّل ومن سفر الملوك الرابع.

ويتواصل الفصل الأوَّل حتّى عد 24-25:

ومن بعد تلك الأيّام، أي بعد انقضاء خدمة زكريّا، حبلت إليصابات امرأته، وكتمت حالها خمسة أشهر قائلة: هذا ما صنع بي الربُّ في الأيّام التي نظر إليَّ فيها لينزع عاري من بين بني البشر.

»إنّ تبشير زكريّا كان في شهر أيلول، كما يظهر من تعييد كنائس كثيرة لذلك في 23 منه. ومن قوله الآتي »في الشهر السادس« ومن التعييد لبشارة العذراء في 25 آذار، ولمولد يوحنّا في 24 حزيران، كمال الأشهر التسعة. وكتمت إليصابات حبلَها لحيائها به، مع عقريَّتها وطعنها بالسنّ، كما قال أمبروسيوس. وبعد نهاية الخمسة أشهر، حبلت العذراء بالمسيح. وعرفت ذلك إليصابات، ورأت أنَّ حبل عذراء أعجب وأغرب من طاعنة بالسنّ، فرفعت الحياء ومجَّدت مشتهر (علانيَّة) ا؟ الذي كانت تمجِّده قبلاً سرٌّا، لأنَّه نزع عارها من بين الناس، إذ كانت العقريَّة عارٌّا في ذلك العصر، وإشارة إلى اللعن من ا؟«.

ب - الفصول الثلاثة الباقية

قُسِّم هذا الإصحاح الأوَّل أربعة فصول. تحدَثنا عن الفصل الأوَّل (1: 1-25) وموضوعه بشارة زكريّا. والفصل الثاني (1: 26-38) موضوعه بشارة العذراء. في آ39-56، يكون الفصل الثالث: زيارة مريم العذراء لنسيبتها إليصابات. ويمتدُّ الفصل الرابع من آ57 إلى آ80 وفيه كلام عن مولد يوحنّا، وإيراد نشيد زكريّا بعد أن »انفتح فمه«. ونكتفي من الفصل الثاني بالآيات 35-38:

عد 35: أجاب الملاك وقال لها: روح القدس يأتي، وقوَّة العليّ تحلُّ عليك، لأنَّ الذي يُولَد منك قدُّوس وابن ا؟ يُدعى.

»إنَّ الذي تجسَّد هو أقنوم الكلمة، ابن ا؟ وحده، لا الآب ولا الروح القدس. إلاّ أنَّ فعل الجسد فعَلَه الثالوثُ كلُّه، لا الابن وحده، لأنَّه من أفعال ا؟ الخارجيَّة التي تعمُّ الثالوث كلَّه. وقد فُعل التجسُّد بالروح القدس وحده، كما تُنسَب الحكمة إلى الابن، والقدرة على كلِّ شيء إلى الآب، كما علَّم مار أغوسطينوس في رأس 40 في الإنكيريديون. والروح القدس صوَّر جسد المسيح ونفسه في حشا العذراء، ولكن لا يمكن أن يُدعى أباه، لأنَّه لم يأخذ شيئًا من جوهره، كما علَّم مار أغوسطينوس أيضًا في الكتاب المذكور رأس 38. وأخصّ الأسباب لتجسُّد المسيح بفعل الروح القدس لا بفعل بشر ما أورده مار أغوسطينوس في الكتاب الأوَّل في الزيجة والشهوة وهو أن يولد تقيٌّا، مقدَّسًا، دون خطيئة أصليَّة، لأنَّه ابن العذراء لا ابن آدم. ولذا استنتج القدّيس أنسلموس في كتابه في حبل العذراء رأس 11، أنَّه لو وُلد إنسان بأعجوبة من أنثى دون رجل، لكان بريئًا من الجريرة الأصليَّة إذ لا يكون ابن آدم.

»وقوله: وقوَّة العليّ تحلُّ عليك وفي اليونانيَّة واللاتينيَّة »تظلِّلك« قد فهم الجميع أنَّه استعارة، إلاّ أنَّ في شرحها أقوالاً أحسنها وأظهرها أنَّ المعنى: أنَّ قوَّة العليّ تغطّيك فتفعل بك أمرًا سرّيٌّا خفيةً أي تجسُّد الكلمة. وكثيرًا ما ظهرت في العهد القديم قدرة ا؟ المنظورة والغير المدركة بواسطة السحاب والغمام«.

هي قراءة لاهوتيَّة يقدِّمها الشارح. أوَّلاً، الابن وحده تجسَّد. نحن هنا في أفعال ا؟ الداخليَّة. ولكنَّ الثالوث هو الذي فعل. لأنَّنا هنا في الأفعال الخارجيَّة. الروح فعل فعل التجسُّد، وصوَّر جسد يسوع دون أن يكون »أباه« وجاء كلام عن الخطيئة الأصليَّة وارتباطها بآدم. ويشرح الدبس عد 37: لأنَّ ليس عند ا؟ أمر عسير:

»وقرأت اللاتينيَّة الدارجة: ليس عند ا؟ كلمة غير ممكنة. وفسَّر بعضهم الكلمة بالشيء قائلين: إنَّه اصطلاح عبرانيّ. وقال بعضهم: الكلمة بمعنى الوعد، كأنَّه يقول: كلُّ ما وعد به ا؟ يمكنه صنعه، لأنَّه على كلِّ شيء قدير. تقول (أيُّها المعترض): ا؟ لا يستطيع أن يموت، ولا أن يضلّ، ولا أن يأثم، فليس (إذًا) على كلِّ شيء قدير. فاسمع القاعدة التي ذكرها مار أغوسطينوس في الكتاب الخامس في مدينة ا؟ رأس 10: »إنَّ ا؟ يقدر على كلِّ شيء إلاّ ما كانت القدرةُ عليه عدمَ قدرة، وما لو قدر عليه لما كان قادرًا على كلِّ شيء كالموت والضلال والإثم. فلا يقدر ا؟ على المستحيلات، كصنع شيء مثلَّث الزوايا ومربَّعها معًا. وذلك ليس عدم قدرة في ا؟، بل عدم أهليَّة في الموضوعات. فكون الشيء مثلَّثًا ينسخ كونه مربَّعًا وبالعكس. وكذا الموت والضلال والإثم في ا؟ من المستحيلات، إذًا لا يمكنه أن يأثم دون أن يبطل أن يكون إلهًا، وهذا مستحيل«.

بعد اللاهوت جاء دور الفلسفة والكلام الدفاعيّ: ا؟ لا يقدر كلَّ شيء! وجاء الجواب من أغوسطينوس في مدينة ا؟: لا تكون الاستحالة في ا؟، بل في الموضوعات. هناك ترتيب في الكون. ونقرأ شرح الآية الأخيرة في مشهد بشارة مريم العذراء. عد 38: قالت مريم للملاك: »ها أنا أمة الربّ، فليكن لي كقولك«. وانصرف من عندها الملاك.

»فتأمَّلْ تواضع مريم واحتشامها وتسليم إرادتها ؟. فالملاك قال لها إنَّها تكون أمٌّا ؟، فدعت ذاتها أمة لا أمٌّا للربّ. وقولها »فليكن« هو قول موافق، مرتض، كما قال بيدا والدمشقيّ في ك3 رأس 2 وغيرهما. وقول مشتهٍ وراغب في أنَّ المسيح يتجسَّد في حشاها ويخلِّص العالم، إذ كانت تطلب ذلك بحرارة كذا فسَّر أمبروسيوس وأوتيميوس وغيرهما.

»وتأمَّل بعفاف مريم إذ قالت: »فليكن لي كقولك«. فكأنّها تقول له: أروم أن أكون أمٌّا ؟ بحيث أبقى عذراء كما قلتَ لي.

»نسأل: في أيِّ دقيقة بالحصر تجسَّد ابنُ ا؟ في حشا مريم؟ ففي ذلك أقوال. قال بعضهم: تجسَّد بها قبل إتيان الملاك إليها، فبشَّرها بماضٍ لا بمستقبل. وقال نيكوفوروس في كتاب واحد رأس 8: تجسَّد بها عند قول الملاك: السلام لك يا ممتلئة نعمة. وقال آخرون، منهم أغوسطينوس في خطبة 3 في البشارة: إنَّه تجسَّد بها عند قول الملاك: الربُّ معك. لكنَّ هذه الأقوال غير صحيحة، قول الملاك بعد ذلك: تقبلين حبلاً في المستقبل، لا في الماضي. ولقولِ العذراء: فليكن لي كقولك. فإن لم يكن ذلك قبلاً، فالصحيح أنَّه تجسَّد بها حال قولها: فليكن لي كقولك. فصوَّر للحال الروحُ القدس من دمها الطاهر جسد المسيح ونفسه، وملأ نفسها من النعمة والمجد، واتَّحد به أقنوم الكلمة اتِّحادًا أقنوميٌّا، وتصوَّر كاملاً في حشا أمِّه، لا كباقي الأطفال. فهذا ما علَّم به أثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس وغيرهم كثيرون. ويُثبت ذلك أيضًا كون الملاك أرسل يبشِّرها، فلم يكن لائقًا أن تحبل قبل أن تُظهر رضاها. وكونه انصرف من عندها بعد أن قالت: فليكن لي كقولك، إشارة إلى تمام رسالته حينئذٍ. وقد ازدادت مريم نعمًا عظيمة عند تجسُّد ابن ا؟ فيها«.

قراءة روحيَّة عن مريم العذراء. حلَّ فيها الابن فازدادت نعمًا. وبان تواضعها، هي الأمة، الخادمة، مع أنَّها أمُّ ا؟. ثمَّ برز عفافها: تبقى أمٌّا وهي بتول. ومساءلة تعود إلى القرون الوسطى: في أيِّ وقت تجسَّد الابن؟ نحن لا نستطيع أن نحدِّد »الدقيقة«، بل نقول: ساعة حدَّثها الملاك وأجابت نعم، تمَّ سرُّ التجسُّد في حشا مريم.

وهكذا بدت طريقة الدبس في شرح الكتاب: مقابلة بين لغة ولغة. طرح لاهوتيّ وروحيّ. أسئلة متعدِّدة حول العقيدة وأمور طُرحت في الماضي على الكنيسة ويمكن أن تُطرح الآن. فهدف الكاهن، والمطران فيما بعد، هو التعليم، وتسهيل قراءة الإنجيل على المؤمنين بشكل عامّ، وعلى الكهنة بشكل خاصّ لكي يساعدهم في الوعظ والإرشاد. لهذا جعل في نهاية تحفة الجيل فهرسًا يدلُّ على »أخصّ الموادِّ الدينيَّة والأدبيَّة والتاريخيَّة« (ص 1001-1025). ونودُّ هنا أن نورد وجهتين خاصَّتين تبرزان شخصيَّة الخوري الدبس: هو المؤرِّخ وقد كتب تاريخ سورية في ثمانية أجزاء. لهذا نقرأ شرحه لبداية الفصل الثالث. وهو حامل كلام ا؟. لهذا نقرأ شرحه للفصل الخامس عشر مع نداء الربِّ إلى التوبة.

3 - رجل التاريخ ورجل الروح

أ - بشارة يوحنّا المعمدان (لو 3)

هو الإصحاح الثالث في شرح الدبس. فحواه: ابتداء يوحنّا بالإنذار في البرِّيَّة، وتعليمه وشهادته ليسوع، وقبْض هيرودوس عليه، واعتماد المسيح، والصوتُ من السماء المعلن كونه ابن ا؟، وإيراد جدود المسيح بالجسد من يوسف إلى آدم. وقسّم الشارح هذا الإصحاح إلى فصلين: الفصل التاسع الذي يشرح آ 1-22. والفصل العاشر (آ23-38) الذي يورد نسب المسيح. ونبدأ بالفصل التاسع في قلب الإصحاح الثالث:

عد 1 في سنة خمس عشرة من مُلك طيباريوس قيصر. قد انتقل مار لوقا بكلامه على المسيح من السنة الثانية عشرة لمولده إلى سنة 30. ففي هذه السنة ابتداءُ المخلِّص بوظيفة التعليم والإنذار بحسب عادة اليهود بألاّ يباشر أحدٌ وظيفة التعليم أو الكهنوت قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره.

»وطيباريوس هذا على ما يظهر من تاريخ سواتونيوس لسيرته هو ابن ليفيا، التي بعد أن ولدت طيباريوس تزوَّجها أغوسطوس قيصر، الذي لمّا مات غايوس ولوشيوس (ولوقيوس) ابنا بنته يوليا، اتَّخذ طيباريوس ابنًا له وأورثه المُلك. وكان أغوسطوس ملك سبعًا وخمسين سنة بعد قتل يوليوس قيصر. ومات في 19 من آب فخلفه طيباريوس. ولمّا سمع بقداسة المسيح وعجائبه، أراد أن يحصيه بين الآلهة، فقاومه رجال الندوة في رومة، لأنَّه أراد صُنع ذلك دون مشورتهم«.

نقرأ في 1أخ 23: 3 أنَّه لم يُحصَ من اللاويّين إلاّ الذين عمرهم ثلاثون سنة وما فوق. هذا بالنسبة إلى العالم اليهوديّ، وبالنسبة إلى العالم الرومانيّ، جاءت المراجع كثيرة وأوَّلها سواتانيوس. وبعد طيباريوس، يأتي الكلام عن هيرودس في ارتباط مع ما قال متّى في إنجيله.

في ولاية بيلاطس البنطيّ على اليهوديَّة. إنَّ أرستيلاوس (أرخيلاوس) بن هيرودوس، قاتل الأطفال، عزله أغوسطوس عن ولايته على الربع، ونفاه في السنة العاشرة بعد توليته، والثانية عشرة لمولد المسيح، كما ارتأى بعض المؤرِّخين المدقِّقين. وألحق أغوسطوس اليهوديَّة أي سهمَيْ يهوذا وبنيمين بإقليم سورية التي كان واليها قورينوس، كما تقدَّم (2: 2). فولّى كورينوس كوبونيوس على اليهوديَّة، فكان كوبونيوس أوَّل والٍ، والحالة هذه على اليهوديَّة، وخلفه مرقس أمبيفيوس ثمَّ أنيوس روفوس. وفي أيّامه مات أغوسطوس، وخلفه طيباريوس، فولّى على اليهوديَّة فالريوس كراتوس، ثمَّ بيلاطس البنطيّ، سنة 13 لمُلك طيباريوس. فولّى بيلاطس تسع سنوات. وفي السنة الثانية لحكمه، اعتمد المسيح. وفي الخامسة، صُلب ومات. ثمَّ نُفيَ بيلاطس بأمر طيباريوس، سنة 23 لحكمه وهي الأخيرة. وأقيم مكانه مرشلّوس (أو: مرقلّوس) ثمَّ كومانوس، ثم كلوديوس فالكس، ثمَّ بورشيوس (بورقيوس) فسطس. وأمام هذين الأخيرين، احتجَّ مار بولس (أع 23: 24). وخلف فسطوس ألبينوس، ثمَّ قلوروس. وفي السنة... لحكمه، وهي سنة 12 لنيرون، شرع اليهود يعصون الرومانيّين، وبعد خمس سنين، اجتاح طيطوس أورشليم وأخضع اليهوديَّة كلَّها. ذكر كلَّ ذلك يوسيفوس في الكتاب 18 من القدميّات (العاديّات) رأس 1 وما يليه«.

جال الدبس (ومرجعه) في حقبة تاريخيَّة وصلت إلى دمار أورشليم سنة 70 ب.م. وذكر الأسماء العديدة التي تتقاطع بين سفر الأعمال والمؤرِّخ فلافيوس يوسيفس. ويتواصل الشرح مع وهيرودوس رئيس الربع على الجليل:

»إنَّ هيرودوس قاتل الأطفال، كان له عدَّة أولاد. قتل هو بعضهم وبقي له ثلاثة بنين: أرشيلاوس، وهيرودوس أنتيباس، وفيلبّوس. فاختصموا بعد أبيهم على الخلافة له في الولاية، قسمها أغوسطوس مرابعة: فأعطى أرشيلاوس اليهوديَّة. ولما عزله، أقام مكانه كوبونيوس، كما تقدَّم. وأعطى هيرودوس أنتيباس الجليل، وفيلبّوس إيطوريا وكورة أنطركون، وليسانيوس الأبليَّة، وكان كل$ من هذه الأقاليم بمنزلة مملكة كما قال بلينوس في كتاب 5 رأس 18. ولذلك دُعيَ المتولُّون فيها، أحيانًا ملوكًا، وأحيانًا رؤساء الربع (راجع بشأن هذه العبارة ما ذكرتُ في المقدِّمة في الكلام على الترجمتين السريانيَّة والعربيَّة)«.

وفيلبّوس رئيس الربع على إيطورية وكورة أنطركون،

»أو أنطرخون. إنَّ فيلبّوس كان أخا هيرودوس لأبيه، لأنَّ أمَّ فيلبّوس أورشليميَّة، وأم هيرودوس سامريَّة، كما روى يوسيفوس. وقال أدريكوميوس في رسم الأرض المقدَّسة: إن إيطوريا دُعيَت بهذا الاسم نسبة إلى ياطور بن اسماعيل، وأنَّها كانت تبتدئ من الأردنّ فتمتدُّ إلى الغرب حذاء جبل لبنان، إلى جبال صيدا وصور. وأمّا كورة أنطرخون فقال فيها بلينيوس (ك 5، رأس 18): إنَّها بلاد في عبر الأردنّ، موقعها بين فلسطين وسورية المجوَّفة أي بلاد البقاع. وتأويل اسمها باليونانيَّة: المحجرة، لأنَّ أرضها محجرة (= كثيرة الحجارة)، صعبة المسالك، أو لأنَّ فيها كثيرًا من الكهوف والمغاور (وتُعرف الآن ببلاد الشقيف)«.

وليسانيوس رئيس الربع على الإبليَّة

»زعم بيدا وأوريكوميوس أنَّ ليسانيوس هو ابن هيرودوس أيضًا، وأخو الثلاثة الباقين. وعلَّم يوسيفوس خلاف ذلك فقال: إنَّ ليسانيوس هو ابن ليسانيوس الشيخ، ابن بتولماوس ميناوس، والي مدينة كلشيد (خلقيس) التي كانت بجانب لبنان. وخلف أباه في ملكه قبل أن يعيِّن الرومانيّون هيرودوس، قاتل الأطفال، واليًا على اليهوديَّة. وليسانيوس الشيخ قتله مرقس أنطونيوس، أحد أعضاء حكومة ثلاثة الرجال في رومة، بطلب كلوبطرا معشوقة أنطونيوس، التي كانت ترغب في إلحاق ولاية ليسانيوس بمملكة مصر. فخلفه ابنُه ليسانيوس الصغير، وثبَّته طيباريوس على ولايته (روى ذلك يوسيفوس في ك14 وك 15 في القدميّات). والأبليَّة كانت مدينة كبيرة في سورية المجوَّفة بالقرب من لبنان، وباسمها سُمِّيت المقاطعة كلُّها. وقد ذكر لوقا الولاة العالميّين والروحيّين، كما سيجيء، للتدقيق في التاريخ، ولبيان زوال القضيب من يهوذا وانتقاله إلى هيرودوس الأجنبيّ وأولاده، وإيضاحًا لاحتياج الشعب الإسرائيليّ إلى مجيء المسيح، لمضايقته بوُلاة، بعضهم كافر وبعضهم أثيم، ولأنَّ أكثر من ذكرَهم ستأتي أسماؤهم في بشارته«.

بعد السلطة العالميَّة، ها هي السلطة الروحيَّة في زمن يوحنّا المعمدان ويسوع المسيح. وحنّان وقيافا رئيسا الكهنة.

»كيف يذكر لوقا رئيسين للكهنة، مع أنَّ اليهود لم يكن عندهم إلاّ رئيس أحبار واحد؟ أجيب: »قال أوسابيوس (ك 1 من تاريخه، رأس 10) إنَّ يوحنّا المعمدان شرع بإنذاره في أيّام حنّان، واستمرَّ إلى حبريَّة قيافا. وقال آخرون: إنَّ حنّان وقيافا كانا يتداولان الحبريَّة، كلَّ سنة. واستند القائلون بذلك إلى يو 11: 49: »إنَّ قيافا كان عظيم الكهنة تلك السنة«. ولكن قد فنَّد ذلك يوسيفوس (ك 18، رأس 1). وإذ عدَّ أحبارًا عديدين توسَّطوا بين حنّان وقيافا، وأثبت أنَّ قيافا أقامَه حبرًا فالريوس كراتوس، سالف بيلاطس في ولاية اليهوديَّة، وبقي قيافا في مدَّة ولاية بيلاطوس كلِّها. فالصحيح إذًا، أنَّه كان لليهود عظيم أحبار واحد وهو قيافا. وأمّا رؤساء الكهنة فكانوا كثيرين، كما يظهر من بشارة متّى (26: 3). وورد ذكرهم مرّات في قصَّة آلام المسيح. وكان أخصَّ هؤلاء الرؤساء حينئذٍ قيافا وحنّان. فقيافا كان عظيم الأحبار، وحنّان كان حما قيافا وذا اعتبار عظيم عند اليهود. ولذلك لمّا قُبض على المخلِّص في البستان، اقتيد أوَّلاً إلى حنّان ثمَّ قيافا كما روى متّى (ف 26). ولذلك أيضًا ذكر لوقا حنّان وقيافا«.

هكذا كتب الدبس التاريخ، مستعينًا بمن سبقه من الشرّاح، مضيفًا ما يتعلَّق بالمحيط العائش فيه. وهو إن أخذ من الذين سبقوه، لبث حرٌّا في انتقاء ما يجب انتقاؤه. وفي النهاية، يعطي رأيه. وجاء هذا الرأي صائبًا حين الكلام عن حنّان وقيافا، وأمور غيرها كثيرة. وتبقى الوجهة الروحيَّة، التي بها ننهي كلامنا عن المطران يوسف الدبس في شرحه لإنجيل لوقا.

ب - أمثال حول رحمة الآب (ف 15)

ذاك هو الإصحاح الخامس عشر. »فحواه« تذمُّر الكتبة والفرّيسيّين على المسيح لقبوله الخطأة. وبرهانه: كم تُسرُّ ا؟ توبةُ الخاطئ بثلاثة أمثلة: مثل الخروف الضالّ، ومثل الدرهم المفقود، ومثل الابن الشاطر«.

بعد مقدِّمة طويلة، يرد الفصل الثالث والخمسون كما في التفسير، الذي بدايته آ11، ونهايته بنهاية مثل الابن الشاطر (آ32).

أوَّلاً: المقدِّمة

بعد أن يورد الدبس آ1-4 حول الخروف الضالّ يشرح:

»إنَّ الخروف حيوان ساذج. فإذا ضلَّ لا يعلم أن يعود، فيحتاج أن يَنشده الراعي. فالمراد بالخروف الضالّ، الإنسان الخاطئ. فإنَّه يضلّ بخطاياه وشهواته ماشيًا إلى التهلكة. ويُراد بالراعي، المسيح الذي انحدر من السماء إلى الأرض ليردَّنا من طريق جهنَّم ويهدينا طريق السماء. ويُراد بالتسعة والتسعين، الأبرار. قال بطرس في رسالته الأولى (2: 25): »أنتم كنتم ضالّين، فرجعتم الآن إلى الراعي«.

عد 5 وإذا وجده حمله على منكبيه فرحًا.

»لمّا كان الخروف بطيء السير، لا يمكنه أن يلحق القطيع إذا مشى، حمله الراعي ليردَّه إلى القطيع حالاً. كذا فعل المسيح إذ حمل خطايانا ليفي عنها«.

عد 6 ويأتي به إلى بيته، ويدعو أصدقاءه وجيرانه قائلاً لهم: »افرحوا معي لوجود خروفي الضالّ«.

»يشير إلى عظمة فرحه الذي لم يسعْه قلبُه. أراد أن يشرك به محبّيه ومجاوريه«.

عد 7 أقول لكم: »هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من التسعة والتسعين الصدّيقين الذين لا يحتاجون التوبة«.

»فإنَّ الملائكة والطوباويّين في السماء يفرحون فرحًا عظيمًا بتوبة كلِّ خاطئ. ويعلمون ذلك بوحي ا؟. وفرحُهم، لأنَّ هذا خير عظيمٌ للخاطئ إذ يجتاز بالتوبة إلى مصاف القدّيسين، ومن جهنَّم إلى السماء. (وخير) للملائكة لشفقتهم على البشر، ولأنَّ الإنسان بالتوبة، يصير شبيهًا بهم بالقداسة، ولأنَّه يملأ الكراسي التي فرغت منهم (وخير) ؟، لأنَّه مغرم بالنفوس، ظمآن إلى خلاصها والجميع يسيرون بمرضاته تعالى.

»فبهذا البرهان، أفحم المخلِّص الكتبة والفرّيسيّين. وأبان بطلان تذمُّرهم لتردُّده مع الخطأة. ومن البيِّن أنَّ الفرح بتوبة خاطئ، يكون أعظم منه بتسعة وتسعين بارٌّا لم يخطأوا، إذ يُزاد عليهم جديد يُحسُّ به أكثر من الفرح الدائم العامّ. فإنَّ كلَّ حديث مفرح، يسبِّب فرحًا حديثًا يُحسّ به أكثر ممّا تقدِّمه، وإن لم يتفاوته حقيقة. فالراعي لا يرضى أن يفقد تسعة وتسعين خروفًا ليجد واحدًا. لكنَّه إذا ضلَّ خروف ووجده، يفرح في الحال بوجدانه، أكثر من الفرح بالتسعة والتسعين المالكها دائمًا. قال القدّيس برنردس: »إنَّ دموع التائبين هي خمر الملائكة«.

عد 8 أو أيَّة امرأة لها عشرة دراهم وضاع منها واحد فإنَّها توقد سراجًا وتكنس البيت وتطلبه مجتهدة حتّى تجده.

عد 9 فإذا وجدته تدعو صديقاتها وجاراتها قائلة لهنَّ: »افرحن معي لوجودي درهمي التالف«. أقول لكم: »هكذا يكون فرح قدّام ملائكة ا؟ بخاطئ واحد يتوب«.7

»تفسيرُ المثل بيِّنٌ ممّا تقدَّم. قال القدّيس كيرلُّلس بالمعنى الروحيّ: إنَّ المسيح علَّمنا بمثل الخروف السابق أنَّنا خليقة ا؟ ورعيَّته. وبهذا المثل، أوضح لنا أنَّنا مخلوقون على صورته ومثاله. فصُوَر الملوك تُنقَش على الدراهم. وفسَّر غريغوريوس الكبير هذا المثل تفسيرًا أكمل فقال ما ملخَّصه: إنَّ المراد بالمرأة عين المراد بالراعي، من المثل السابق، أي المسيح حكمة ا؟. فصورة ا؟ تُنقش على العملة. فأضاعت المرأة الدرهم، ومعناه أنَّ الإنسان تحوَّل عن صورة خالقه. فأضاءت المرأة السراج، أي ظهرت حكمة ا؟ بالناسوت، لأنَّ السراج نورٌ في خزف. فذلك كاللاهوت في الجسد. وهَدْمُ البيت أو كنْسُه كما في أكثر النسخ، عبارة عن قلق الضمير للفحص عن الخطايا. والصديقات والجارات يُراد بهنَّ القوّات السماويَّة. وكونُ دراهم المرأة عشرة، إشارة إلى مراتب الملائكة التسع والإنسان عاشرها، إذ خُلق لتكملة عدد المنتخبين«.

ثانيًا: مثل الابن الشاطر (15: 11-32)

هو الفصل الثالث والخمسون في تفسير الدبس (تحفة الجيل، ص 613).

عد 11 وقال لهم يسوع أيضًا: إنسان له ابنان

عد 12 فقال له ابنه الصغير: »يا أبتاه، أعطني نصيبي من بيتك«. فقسم بينهما ماله.

»إنَّ مقصد المسيح من إيراده هذا المثل، هو مقصده من المثلين السابقين، أي أن يبيِّن عظم فرح الملائكة وسكّان السماء بتوبة الخاطئ، وبطلان تذمُّر الكتبة والفرّيسيّين عليه لمؤاكلته الخطأة. إن أخصّ الأشخاص في هذا المثل الثلاثة »الأب وابنان له. فالأب يريد به: ا؟ الذي خلقنا أو المسيح الذي افتدانا. وأمّا الابنان، فقال القدّيسان غريغوريوس وأغوسطينوس وأكثر الآباء القدماء: إنَّه يراد بالكبير منهما الشعب اليهوديّ، الذي لبث متَّحدًا مع ا؟. وبالصغير منهما، الأمم الذين انفصلوا عن ا؟ بعبادة الأوثان.

»فهذا التفسير مناسب خاصَّة لتذمُّر اليهود على الأمم، لقبولهم إيمان المسيح. لكنَّ الأطبق منه لمقصد المخلِّص، أنّ المراد بالابن الأكبر الأبرار، وبالأصغر الخطأة.

فإنَّ المسيح أورد المثل ضدَّ الكتبة والفرّيسيّين، لتذمُّرهم عليه بمعاشرة الخطأة. وهذا التفسير ذكره مار إيرونيموس في رسالة 146 إلى داماسيوس. والمال الذي قسمَه الأبُ بينهما، ذهب أغوسطينوس في المباحث الإنجيليَّة وإيرونيموس في المحلّ المذكور وغيرهما، أنَّ المراد به: الاختيار المعتوق. وذهب تيوفيلكتوس: إنَّ المراد به الطبع الناطق الذي يرافق حرّيَّة الاختيار. وذهب أمبروسيوس، وهو الأنسب، أنَّه عبارة عن نعمة ا؟ والفضائل والخصال الحميدة، لأنَّ الاختيار المعتوق والنطق لا يمكن تلفهما أو تبديدهما، كما سيُقال في المال. والأصحّ: أنَّ المراد بالمال، كلَّ مواهب ا؟ الخاصَّة: الجسد والروح، الطبيعة والنعمة«.

عد 13 وبعد أيّام قليلة، جمع ابنُه الصغير كلَّ ما خصَّه، وشدَّ مسافرًا إلى بلد بعيد، وهناك بدّد ماله بعيشِ بذخٍ.

»قال مار أغوسطينوس: البلد البعيد الذي سافر إليه الابن الأصغر، عبارة عن نسيان الخاطئ ا؟ ونسيان ا؟ له. وقال القدّيس إيرونيموس في المحلّ المذكور: »إنَّنا لا نكون مع ا؟ أو نبتعد عنه بقسمات المكان، بل بالانعطاف. »وتبديد المال بعيش بذخ«، عبارة عن فقدان مواهب الطبيعة والنعمة، بالانصباب على الخطايا والملذّات المحرَّمة«.

وأورد الشارح آ14، 16، فقال:

»قال مار أغوسطينوس: الجوع الذي حدث في ذلك البلد، عبارة عن الافتقار إلى كلام الحقّ والخلوّ من الفضائل، كما قال بعضهم. فالخاطئ بَعد بُعده عن ا؟، يفتقر إلى كلِّ شيء. والرجل الذي انطلق إليه، قال مار أغوسطينوس، يُراد به أحد الشياطين. وقال مار أمبروسيوس: هو أركون هذا العالم. ومرجع المعنى إلى واحد. والخنازير عبارة عن الأرواح النجسة أو الأفكار الرديئة، كما قال فم الذهب. ورعايتها كناية عن فعل ما يُرضي الشياطين. والخرُّوب يراد به، على رأي مار أغوسطينوس وغيره، العلوم العالميَّة الباطلة التي لا نفع منها. والأصحّ أنَّ المراد بها، اللذات اللحميَّة التي تهيِّج شهوة النفس ولا تشبعها، كالخرّوب الذي يهيِّج الشهيَّة ولا يُشبع. فالشهوات للخاطئ كالماء للمستقي«.

لاحظنا هنا كيف أنَّ الدبس شرح النصَّ عبارة عبارة ولفظًا لفظًا، لكي يستخلص منه المعنى الروحيّ أو الخلقيّ من أجل المؤمن. غاص الابن الصغير في الخطيئة وفي الشهوات البشريَّة. فهل يبقى في تلك الأوحال، أم يخرج منها؟

عد 17 فرجع إلى نفسه قائلاً: »كم الآن من الأجراء في بيت أبي يفضل الخبز عنهم، وأنا ههنا أهلك جوعًا«.

»الأجراء في بيت أبيه، كناية عمَّن يعبدون ا؟، ويعملون الفضيلة أملاً بالخير الزمنيّ. وفي الآية، إشارة إلى أنَّ ا؟ يُرسل المصائب ويُحلُّ النوازل على الخاطئ ليرتدَّ إليه بالتوبة«.

عد 18 فأقوم إذًا وأمضي إلى أبي قائلاً له: »يا أبتِ، أخطأت إلى السماء!؟

»أي آثامي تصرخ للانتقام منّي في السماء. أو أنَّ المكان فيه موضع المستمكن، وعليه فالمعنى: أخطأت ؟ الساكن في السماء«.

وقدّامك. أي أمام وجهك، أو ضدَّك. فما أجسم قحة الخاطئ الذي يجسر أن يخطئ قدّام ا؟ الحيّ، والناظر كلَّ شيء، والمنتقم من الآثام«.

عد 19 »ولست أهلاً لأن أُدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحد أجراءك«.

»كأنَّه يقول: اجعلني واحدًا من المؤمنين الأدنياء، مُثلاء صانع التوبة المشتهرة كما كان يصنعها المؤمنون الخطأة في الأجيال الأولى:

عد 20 فمضى آتيًا إلى أبيه. وفيما كان بعيدًا، رآه أبوه فترأَّف عليه وأسرع فاعتنقه وقبَّله«.

»يشير به المسيح إلى إشفاقه العجيب على الخطأة التائبين، وإسراعه إلى الغفران إذ يجعل نفسه بمنزلة ملتهفٍ أو ارتداد الخطأة، ولا ينتظر دنوَّهم منه، بل يُسرع إلى ملاقاتهم بعلامة المصالحة والمحبَّة، التي هي المعانقة والتقبيل«.

عد 21 فقال له ابنه: »يا أبتِ، أخطأتُ في السماء وقدّامك، ولست أهلاً لأن أُدعى لك ابنًا.

»قد أهمل قوله: اجعلني كأحد أجرائك، الذي كان عزم أن يقوله، كما مرَّ. إمَّا لأنَّ أباه قاطعه الكلام بمعانقته وتقبيله له، إمّا لأنَّ معانقة أبيه وتقبيله له، أزالت منه الرغبة في أن يكون كأحد الأجراء، وعلَّلته بالأمل أن يكون ابنًا. ومع هذا، ارتأى طيطوس أنَّ الابن قال ذلك، لكنَّ الإنجيليّ أهمل ذكره لأنَّه معلوم ممّا تقدَّم«.

عد 22 فقال أبوه لعبيده: »أخرجوا الحلَّة الأولى ولبِّسوه، وضعوا خاتمًا في يده، وألبسوه الحذاء.

«يريد بالعبيد، الملائكة والكهنة، على ما قال تاوفيلكتوس. أو: الواعظين، على ما قال مار أغوسطينوس. فهؤلاء هم خدّام المصالحة بين الخاطئ وا؟. يريد بالحلَّة الأولى، النعمة والمحبَّة السابقة، على ما قال إيرونيموس، أو: ثوب الحكمة، على ما قال أمبروسيوس. أو: المقام الذي خسره آدم، على ما فسَّر أغوسطينوس. والختم، عبارة عن صورة ا؟، التي اختلفت الآراء في الفضيلة التي تقدَّم بها. أو، عن خاتم الإيمان المخلِّص، على ما فسَّر بيدا. أو: عن علامة الختم المسيحيّ، وإشارة الخطبة، وعربون العرس، على ما قال فم الذهب. وبالحذاء في الرجلين، يُشار إلى الاستعداد السريع إلى عمل الفضائل، كما قال إيرونيموس وغيره. وقال مار أغوسطينوس: الحذاء في الرجلين لئلاّ يقع أيضًا في العالم وتمسّ قدماه الأرض«.

نتوقَّف عند هذا الحدّ، ونتعلَّم الكثير من هذا التفسير الذي يستند بشكل دائم إلى آباء الكنيسة. فالمحاولات عديدة في هذا الصدد، سواء مع تادروس الملطيّ في مصر، أو الأب ميشال نجم في لبنان. وهكذا يكون الخوري يوسف الياس الدبس، الذي سيصير مطران بيروت سنة 1872، سبّاقًا في هذا المضمار، سواء في ما قرأه من مراجع وهو العارف باللاتينيَّة، أو في ما أخذه عن الشرّاح الذين كانوا قبله، وقد ذكرهم بأسمائهم.

الخاتمة

تلك قراءة بعض المقاطع لتفسير »بشارة مار لوقا البشير«. في تحفة الجيل لتفسير الأناجيل. الذي دوّنه المطران يوسف الدبس. قرأنا المقدِّمة، وطريقة التفسير، قبل التشديد على الوجهة التاريخيَّة كما على الوجهة الروحيَّة. هو تفسير كامل متكامل، يستحقُّ اليوم أن نقرأه، بل أن نعيد طباعته، كما حصل بالنسبة إلى »الجامع المفصَّل«. فمثل هذه الكتب لا تعتق، لأنَّها ليست بنت ساعتها وتزول، بل هي تتجذَّر في التقليد الكنسيّ وتتجاوب مع الناس اليوم، كما تجاوبت معهم في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. بعد ذلك، لن نقول إنَّنا بدأنا اليوم نقدِّم التفاسير الكتابيَّة في اللغة العربيَّة. فمنذ القرن الثامن إن لم يكن قبل ذلك، ظهرت ترجمات للكتاب المقدَّس وتفاسير، وامتدَّت عبر العصور، وكان الخوري يوسف الياس الدبس، حجرًا حيٌّا في هذا المدماك الذي يُفهم المؤمنين كلمة ا؟ التي نشرحها ونعظها، لأنَّها في النهاية النور والحياة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM