شهادة الزور وعواقبها

 

شهادة الزور وعواقبها

1- المدخل

أحبّائي، الربّ يباركنا ويرافقنا في قراءة الكتب المقدّسة. مع هذه الحلقة ننتهي من قراءة الوصايا العشر مع لا تشهد على غيرك شهادة زور، كما في سفر الخروج فصل 20.

وتكلَّم الربّ فقال: أنا الربّ إلهك الذي أخرجك من دار العبوديّة، لا يكن لك آلهة سواي. وفي آ 16: لا تشهد على غيرك شهادة زور. نتذكّر دائمًا أنّ الوصايا حتّى تلك التي تتعلّق بالقريب. إمّا بالزوجة، إمّا بالقريب إمّا بالغريب، لا تستند إلاّ على أمر الله. فالله هو الذي يأمر المؤمن بأن يعيش بحسب الوصايا. فالإنسان لا يستطيع أن يأمر الإنسان، وإن كانت له سلطة ليتذكّر هذا الإنسان أن لا سلطة له إلاّ من عند الله.

لهذا السبب، كلّ مرّة نقرأ الوصايا نعود إلى الأساس: أنا الربّ إلهك لا يكن لك آلهة سواي. وفي كلامنا عن شهادة الزور، نتذكّر ما طُلب من شاهد الزور: أن يكون رأى، أن يكون شاهد، أن يكون سمع، وإلاّ كانت شهادته شهادة زور، شهادة كذب تحمل الشرّ إلى القريب. وقد قال الحكماء: إنّ شهادة الكذب تحمل الشرّ إلى القريب. وقالوا: شهادة الزور أمر يكرهه الله، يمجّه، يعتبره رثٌّا، فكأنّ الإنسان ينجّس الهيكل.

ولا ننسَ ما يقول مار بولس: أنتم هيكل الله. فالإنسان الذي يشهد شهادة زور هو هيكل الله، وحين يفعل ما يفعل، ينجّس هذا الهيكل. والإنسان الذي يشهد شهادة زور على قريبه، إنّما هو يحطّم هيكل الله. إذًا شهادة الزور يمجّها الله، يعتبرها أمرًا رثٌّا.

2 - ستّة بل سبعة

نقرأ سفر الأمثال (6: 16 - 19): »ستّة يبغضها الربّ والسابع ممقوت عنده. العينان المرتفعتان واللسان الكاذب واليدان السافكتان الدم الزكيّ، والقلب الذي ينوي نوايا السوء، والرِجلان المسرعتان إلى عمل الشرّ، والشاهد الزور الذي ينفث الأكاذيب، وملقي الشقاق بين الإخوة«.

نلاحظ أوّلاً اللسان الكاذب، ثمّ القلب الذي ينوي نوايا السوء. ثمّ شاهد الزور الذي ينفث الأكاذيب. وأخيرًا من يكذب يرمي الشقاق بين الإخوة. نرى هنا الشرّ الكبير الذي يُحدثه مثلُ هذا الإنسان. لهذا يقول: هناك 7 أمور. لا ننسَ الرقم 7 الذي يدلّ على الملء، على التمام، على كلّ شيء. يعني بعد الخطايا هذه، لا نجد خطايا تُذكَر. هذه الخطايا تهدم البيوت، تدمّر المجتمعات. ومؤكّد لو أنّه لم يكن يوجد في النهاية مُلقي الشقاق بين الإخوة، لكان كلام الزور هو قمّة هذه الخطايا، بسبب الشرّ الذي يتركه وراءه. وفي أيّ حال، شاهد الزور في النهاية يُلقي الشقاق بين الإخوة. ومهما يكن من أمر، فهذا يرافقه اللسان الكاذب ونافث الأكاذيب. نحن أمام أسرة واحدة، عائلة واحدة من الشرّ متعدّدة الوجوه. سبعة شرور مكروهة عند الله.

3 - شاهد أمين وشاهد كاذب

وسيعود سفر الأمثال مرارًا إلى هذه الرذيلة. يقول مثلاً: الشاهد الأمين لا يكذب، وشاهد الزور ينفث الكذب. في أيّ حال، نحن نختار أن نكون هذا أو ذاك. أن نكون الشاهد الأمين، أو أن نكون شاهد الزور. وأن أميّز الواحد عن الآخر على مستوى الكلام. ويتابع سفر الأمثال أيضًا: شاهد الحقّ ينقذ النفوس ورجل المكر ينفث الكذب. نتذكّر مثلاً دانيال لمّا كانوا يأخذون سوسنّة إلى الرجم، إلى القتل، لأنّها زنت كما قال شاهدان كاذبان. جاء دانيال وقدَّم شهادة الحقّ، وكان أوعى من القاضي الذي حكم بسرعة فكان بعمله منقذًا لهذه النفس، نفس سوسنّة. والذي يريد الشرّ ينفث الأكاذيب، كما تنفث الحيّة السمّ من فمها. شاهد الحقّ ينقذ النفوس، وشاهد المكر ينفث الكذب. عمله هو عمل الحيّة بسمّها الذي لا يمكن إلاّ أن يكون قاتلاً.

ويتابع الحكيم قائلاً: شاهد الزور لا يزكَّى، ونافث الأكاذيب لا يفلت من عقاب الله، من دينونة الله. شاهد الزور لا يزكَّى، لا يمكن أن يبرَّأ، لأنّ عليه أن يعوّض الشرّ الذي فعله. فإن هو تسبّب بموت قريبه، فكيف يمكن أن يعيد الحياة إلى شخص مات بسبب شهادة زور من قبله؟ وسيقول أيضًا سفر الأمثال: ليس فقط لا يفلت بل هو يهلك. وأخيرًا نقرأ في سفر الأمثال 21: 28: شاهد الزور يهلك، والإنسان المستقيم يتكلّم كلام المنتصر. يكون رأسه مرتفعًا، يكون بألف خير، ينظر إلى الله بجرأة ولا يخاف أبدًا.

4 - يسوع في كلامه وفي حياته

في هذا الإطار ردّد العهد الجديد ما قاله العهد القديم. تذكّر الوصايا أمام الشابّ الغنيّ، فجاءت الوصيّة عن شهادة الزور مع القتل والسرقة والزنى. وهكذا استعاد يسوع وصايا العهد القديم وطبّقها على العهد الجديد. هو ما جاء يلغي هذه الوصايا، جاء يكمّلها، يعمّقها. ليس فقط على مستوى الكذب ولو كان بسيطًا، بحيث طلب منّا أن يكون كلامنا نعم إذا كان نعم، ولا إذا كان لا. وما نقرأه في الأناجيل نجده أيضًا عند القدّيس بولس الذي أجمل الوصايا كلّها في وصيّة المحبّة: لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور.

في الآلام قاسى يسوع شهادة الزور حين حكموا عليه. يقول النصّ: جاؤوا بشهود زور يقولون إنّه منع من دفع الجزية لقيصر، وقالوا، وقالوا. ولكن في الواقع يقول الإنجيل: لم تتّفق شهاداتهم. يبقى أنّ هؤلاء الذين جاؤوا ليشهدوا بالزور، أخطأوا خطأً كبيرًا. والخطيئة الكبرى هي خطيئة هؤلاء الذين دفعوهم إلى ان يأتوا ليشهدوا بالزور. ولا ننسَ أيضًا الجنود الذين كانوا على القبر: شهدوا بالزور، شهدوا كذبًا. لم يقولوا إنّ يسوع قام من بين الأموات، بل قالوا: جاء التلاميذ وسرقوه. وهكذا انطلت الكذبة على من يحبّ الكذب، على من لا يريد الحقيقة.

إذًا شهدوا على يسوع شهادة زور. وشهدوا أيضًا على إسطفانس الذي رُجم بسبب شهادة الزور. وخصوصًا بولس وغيره من التلاميذ: كانوا ضحيّة شهادة الزور. فكلّ هؤلاء، إسطفانس، بولس، بطرس وغيرهم، ساروا على خطى معلّمهم يسوع، على ما قال إشعيا النبيّ: »كشاة سيق إلى الذبح، وكحمل صامت أمام الذين يجزّونه لم يفتح فاه« (أش 53: 7).

إذا عدنا إلى عظة الجبل، لا نجد كلامًا عن شهادة الزور كما هو الأمر بالنسبة إلى القتل وإلى الزنى. قال الربّ: قيل لكم: لا تقتل، أمّا أنا فأقول لكم، من غضب على أخيه. قيل لك: لا تزن، أمّا أنا فأقول لكم من نظر إلى امرأة فقد زنى بها.

5 - الاحتيال والمراءاة

لكنّنا نجد امتدادًا لهذه الرذيلة، لشهادة الزور، في الحديث عن الحلف، عن القسم وما يرافقه من كذب على الناس واحتيال على ا؟، كذب على الناس واحتيال على الله، وكأنّ الله لا يعرف. فالفرّيسيّون تعلّموا أن يحتالوا على الشريعة إرضاءً للناس. ولكن الربّ يعلم ما في قلوبهم. يكذبون على الناس، يتلاعبون بالشريعة. ولكن يقول النصّ: من أساء إلى كلام الربّ لا يسلم من العقاب.

وكيف كانوا يحتالون؟ قيل لا تحلف باسم الله، قالوا: نحن لا نحلف باسم الله بل نحلف فقط بالسماء. أغلق يسوع الباب أمامهم، فمنع الحلف بها. ثمّ إنّ السماء تدلّ على الله. حلفوا بالأرض، الأرض موطئ قدمي الله. هي لا تخصّ الإنسان حتّى يُقسم بها. حلفوا بمدينة أورشليم، وأورشليم هي مدينة الملك الأعظم، هي مدينة يهوه. وراحوا أيضًا في الاحتيال أبعد من ذلك، فميّزوا بين الهيكل وذهب الهيكل. قالوا هناك فرق بين من يحلف بالهيكل ومن يحلف بذهب الهيكل.

لهذا سمّاهم يسوع مرائين، متظاهرين، كاذبين، مخادعين، يفكّرون بشيء ويقولون بآخر، ينظرون إلى جهة ويفكّرون في جهة أخرى. لهذا قال لهم يسوع: يا مرائين، من حلف بالهيكل لا يلتزم بيمينه. ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم بيمينه! ما هذا الكلام. الهيكل هو الأهمّ أم الذهب الذي في الهيكل. أمام هؤلاء المرائين، جاء كلام يسوع قاسيًا، قاطعًا: أيّها الجهّال العميان، أيّهما أعظم الذهب أم الهيكل الذي يقدِّس الذهب؟ وقالوا أيضًا من حلف بالمذبح لا يلتزم بيمينه، ولكن من حلف بالقربان الذي على المذبح يلتزم بيمينه. نلاحظ هنا هذه الفتاوى، هذه التحاليل التي تُفرغ الشريعة من محتواها، تُفرغ الإيمان من مضمونه. ما قيمة القربان بدون المذبح، والمذبح يدلّ على حضور الله.

لهذا السبب سمّاهم يسوع الجهّال. هم لا يعرفون أو هم ينكرون الله. هم العميان، وأبشع من العميان. سيقول لهم يسوع في إنجيل يوحنّا: لو كنتم عميانًا لقلنا إنّكم عميان، ولكن تتظاهرون بالعمى. ونبّههم: لماذا اللّف والدوران؟ وهكذا كشف يسوع مثل هذا الشرِّ عند الفرّيسيّين الذين يتلاعبون، الذين يغرّرون بعقول السذّج. يأتي أناس بسطاء ويسألونهم فيقدّمون لهم أجوبة من هذا النوع، أجوبة تفرغ الوصايا من مضمونها.

6 - كلامكم نعم، نعم

بعد هذا الكلام القاسي، طبّق يسوع في صيغة إيجابيّة وصيّة لا تتحمّل أيّ تأوين، قال: ليكن كلامكم نعم نعم، ولا لا. وما زاد على ذلك كان من الشرّير (مت 5: 37). هذا يعني كجواب أوّل: يجب أن يكون كلامك صادقًا جدٌّا بحيث لا تحتاج إلى حلف. من يحلف كثيرًا، يكذب كثيرًا. من يكون كلامه مترجرجًا، يحتاج إلى الحلف لكي يُسند كلامه. ولكن إن كان الكلام صادقًا صادقًا، فهو لا يحتاج أبدًا إلى الحلف.

ذاك هو المعنى الأوّل لوصيّة يسوع. والمعنى الثاني »ليكن كلامكم نعم نعم« هو البعد عن كلّ كذب. الكذب هو ابن الظلمة، أمّا نحن فأبناء النور. فلماذا نحبّ العيش في الظلمة؟ قال يسوع: من كانت أعماله حسنة أقبل إلىالنور. أمّا إن كانت أعماله شرّيرة، فهو يفضّل الظلمة لئلاّ تنفضح أعماله. نلاحظ هنا المقابلة بين الكذب والظلمة، بين الحقّ والنور. من جهة أعمال الكذب، الأعمال الشريرة التي تفضّل الظلام. ومن جهة ثانية أعمال الحقّ، الأعمال الحسنة التي تذهب إلى النور، التي تطلب النور.

ولا ننسَ ما يقول لنا يسوع المسيح: أنتم نور العالم. لتكن أفعالكم حسنة فيمجّد الناسُ أباكم الذي في السماوات. وفي النهاية يقول القدّيس يعقوب في خطّ إنجيل متّى: »وقبل كلّ شيء يا إخوتي لا تحلفوا بالسماء ولا بالارض ولا بشيء آخر، لتكن نعمكم نعم ولاؤكم لا، لئلاّ ينالكم العقاب«. هذا ما حاول بولس أن يعيشه ولا سيّما في حياته الرسوليّة. قال في 2 كور 1: 9: »إنّ كلامنا معكم ما كان نعم ولا«. ومثاله كان في ذلك يسوع المسيح الذي ما كان لا، بل نعم كلّه.

ولهذا استطاع بولس أن يقول لأهل كولوسّي: »لا يكذب بعضكم على بعض، لأنّكم خلعتم الإنسان العتيق وكلّ أعماله، ولبستم الإنسان الجديد«. الإنسان العتيق يحمل في طيّاته الكذب وشهادة الزور والافتراء والنميمة. أمّا الإنسان الجديد فهو لا يحمل إلاّ الحقّ والكلام الصادق.

7 - لا للكذب

وقال الرسول لأهل أفسس: »امتنعوا عن الكذب وليتكلّم كلّ واحد منكم كلام الصدق مع قريبه. لأنّنا كلّنا أعضاء بعضنا لبعض«. إذا كان الكذب هو الظلمة، فلماذا نسمح بأن تدخل الظلمة إلى جسم الكنيسة. وإذا كان الشيطان هو أبا الكذب، فكيف نُدخله في جماعاتنا، في كنيستنا، في عيالنا، في مجتمعنا. كلاّ. كلامنا يكون نعم إذا كان يجب أن يكون نعم، وإلا فهو لا.

في هذا الإطار نفهم التفسير الروحيّ الذي أعطاه لوقا لموت حنانيّا وسفّيرة في سفر الأعمال 5: 1 - 11. قال بكلّ بساطة: الاثنان كذبا على الروح القدس، استسلما للشيطان. وكان حكم لوقا قاسيًا وبرّر ما فعله بطرس لمّا قال: خذوه وادفنوه. ثمّ أتبع المرأة بالزوج. لا شكّ هناك موت طبيعيّ لمرض أو غيره، ولكن المهمّ أنّ سفر الأعمال انطلق من الكذب ليدلّ على أنّ الكذب ولا سيّما الكذب على الروح القدس لا يمكن أن يكون بلا عقاب قاس.

وطُرح السؤال: كيف تقوم كنيسة مبنيّة على الكذب؟ إذا كانت كذلك راحت إلى الدمار. من أجل هذا تصرّف بطرس بهذا الشكل، فاقتلع الشرّ سريعًا على ما يقول الكتاب مرارًا أمام كلّ خطيئة تشكّل ضررًا لشعب الله. يقول لهم: انزعوا الشرّير من بينكم. من القتل والسرقة إلى الزنى وشهادة الزور. خطايا تحرم الذين يقترفونها من ملكوت الله. هذه الوصايا الأربع تعرِّفنا كيف نعيش داخل العائلة الواحدة، داخل الجماعة الواحدة، داخل الكنيسة الواحدة. وإلاّ جعلنا من هيكل الربّ، من كنيسة الربّ، مغارة للّصوص. ونبّهنا القدّيس بولس أنّ من يقترف مثل هذه الخطايا يُحرَم من ملكوت الله. أمّا الموقف المطلوب فهو المحبّة التي تلخّص جميع الوصايا، بل تلخّص الشريعة والأنبياء.

يبقى علينا أن نحبّ والربّ يفعل الباقي فينا وبواسطتنا. هذه، إخوتي، نظرة سريعة إلى الوصايا العشر. تلك التي تتعلّق بالله وتلك التي تتعلّق بالقريب. وقد جاءت في لوحتين. واحدة قُرئت في المحطّة الثالثة، فأشارت إلى واجباتنا تجاه الله. واللوحة الثانية قدّمت لنا واجباتنا تجاه القريب. وها نحن توسّعنا فيها. يبقى أمامنا حديثان لاحقان. عن محبّة الربّ: أحبّ الربّ إلهك. وعن محبّة القريب: أحبب قريبك كنفسك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM