المنّ طعام للأجيال

 

المنّ طعام للأجيال

1 - المقدّمة

أحبّائي، نواصل تأمّلنا في سفر الخروج. نحن ما زلنا نرافق هذا الشعب الذي خرج شعبًا صغيرًا جدٌّا، بضع قبائل، وعاشوا في البرّيّة كالرعاة وراء قطعانهم، ورأوا في كلّ شيء، مهما كان صغيرًا، بركة من الربّ، وعطيّة من الربّ، وخصوصًا ذاك الطعام الذي وصل إليهم وسمّوه المنّ.

لهذا في هذا الفصل 16 من سفر الخروج، يكون كلامنا الأخير عن المنّ الذي هو طعام للأجيال. العنوان إذًا المنّ طعام للأجيال. هو يعلّم المؤمنين كيف يتقاسمون خيراتهم، وكيف يقدّسون يوم الربّ. وأخيرًا يعرفون أنّ الربّ رفيقهم في البرّيّة كما في الأرض المزروعة.

فقال موسى: »كلوه اليوم لأنّ اليوم سبتٌ للربّ، واليوم لا تجدونه في البرّيّة. ستّة أيّام تلتقطونه، وفي اليوم السابع سبت لا تجدونه فيه«. ولمّا جاء اليوم السابع، خرج بعضهم ليلتقطوا، فما وجدوا شيئًا. فقال الربّ لموسى: »إلى متى ترفضون أن تعملوا بوصاياي وشرائعي؟ أما ترون أنّي أنا الربّ وضعت لكم السبت، فأعطيكم في اليوم السادس طعام يومين؟ فليلزم كلّ واحدٍ منكم مكانه، ولا يخرج منه في اليوم السابع«. فامتنع الشعب عن العمل في اليوم السابع. وسمّى بنو إسرائيل ذلك الخبز منٌّا. وهو كبزر الكزبرة، أبيض، وطعمه كطعم القطائف بعسل. وقال موسى: »هذا ما أمر الربّ به ملء الغمر منٌّا يبقى لكم مدى أجيالكم، فيرى أبناؤكم الخبز الذي أطعمتكم في البرّيّة حين أخرجتكم من أرض مصر«.

وقال موسى لهارون: »خذ جرّة، واجعل فيها ملءَ الغمر منٌّا، وضعْه أمام الربّ محفوظًا مدى أجيالكم«. فوضعه هارون أمام تابوت العهد محفوظًا كما أمر الربّ موسى. وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة، إلى أن وصلوا إلى أرض آهلة بالسكان على حدود أرض كنعان. وكان الغمر عشر القفّة (16:25 - 35).

2 - يوم الربّ

ما زلنا، أحبّائي، في الكلام عن السبت. قلنا: إذا أخذ الشعب المنّ وأبقى منه إلى الغد، فهو يدوّد وهو ينتن. ولكن يوم الجمعة أخذوا غمرين أي ما يكفي ليومين، فما أنتن ولا دوّد. تساءل الناس، فأفهمهم موسى: هو الربّ يعطيهم يوم الجمعة ما يكفي ليومين. يعطيهم يوم الجمعة ما يكفي ليوم الجمعة ويوم السبت. فقال موسى: كلوه اليوم، لأنّ اليوم سبتٌ للربّ.

يعني ما جمعتم البارحة تستطيعون أن تأكلوه اليوم، واليوم لا تجدونه في البرّيّة. إذًا الربّ يعطي في الواقع ما نحتاج إليه كلّ يوم بيومه.

كم يمكننا أن نتأمّل ونفكّر بهؤلاء الذين يعملون سبعة أيّام في الاسبوع، ويعتبرون أنّ مالهم سيزداد وخيراتهم تكثر. يقول النصّ: واليوم لا تجدونه في البرّيّة. إذا كان الربّ لا يبارك، فماذا يستطيع الإنسان أن يفعل. وكم هو مهمّ أن نترك للربّ يومًا يقدّسه الربّ.

آية 26: »ستّة أيّام تلتقطونه وفي اليوم السابع سبت لا تجدونه فيه«. كم هو مهمّ أن نعرف أن نفصل بين أيّام لنا وأيّام للربّ. ولمّا جاء اليوم السابع، خرج بعضهم ليلتقطوا فما وجدوا شيئًا. مع ذلك أرادوا أن يذهبوا يوم السبت لكي يلتقطوا بعض الطعام، في الواقع ما وجدوا.

»فقال الربّ لموسى: إلى متى ترفضون أن تعملوا بوصاياي وشرائعي؟ أما ترون أنّي أنا الربّ وضعتُ لكم السبت حتّى أعطيكم في اليوم السادس طعام يومين؟« موسى رأى، والربّ رأى أنّ الشعب لم يعمل بوصايا الربّ وشرائعه.

ترك لنا الربّ الوصيّة التي تقول: قدّس يوم الربّ. إحفظ يوم الربّ. هذا اليوم ليس لك أيّها الإنسان، هو للربّ: تجمع كلّ أعمالك، كلّ أتعابك، كلّ ظروف حياتك، وترفعها إلى الربّ، ودائمًا تعود هذه العبارة: أنا الربّ. لسنا هنا أمام أمور يمكن أن نعملها أو لا نعملها، أمور تنفع أو تضرّ. كلاّ. الربّ قال ونحن نطيعه. هو الربّ يقول والإنسان يسمع.

3 - طعام يومين

فأعطيكم في اليوم السادس طعام يومين. إذًا لا نسأل ماذا نعمل في اليوم السابع. إذا كان الربّ هو الذي يأمر، فهو الذي يؤمّن. جميل أن نقول لفلان: اشترِ هذا الشيء. ولكن يجب أن نعطيه المال. وإذا قال الربّ لا تعملوا في اليوم السابع، فلأنّه يؤمّن في اليوم السادس طعام اليوم السادس واليوم السابع. ألقوا همّكم عليه وهو يهتمّ بكم. لهذا، فليلزم كلّ واحد منكم مكانه ولا يخرج منه في اليوم السابع.

لا يخرج، يعني لا يخرج إلى العمل، إلى الحقل أو غيره. فامتنعَ الشعب عن العمل في اليوم السابع. هذا على المستوى النظريّ. ولكن على المستوى العمليّ، ما زال حتّى اليوم، يوم الأحد غير مكرّس ؟. هذا اليوم هو في الواقع يوم عمل. فالإنسان لا يستطيع أن يرتاح أبدًا أو لا يحقّ له. هذا على المستوى النفسانيّ. وعلى مستوى حياة الجماعة وحياة العائلة، هذا يولّد الصعوبات، يولّد المشاكل.

وينهي الكاتب هذا الكلام عن المنّ وارتباطه بالسلوى: »وسمّى بنو إسرائيل ذلك الخبز منٌّا. وهو كبزر الكزبرة أبيض، وطعمه كطعم القطائف بعسل«.

أخذَنا الكاتبُ إلى مستوًى روحانيّ، فحدَّثنا عن هذا الطعام الذي يعطيه الربّ كلّ يوم بيومه، عطيّة من الربّ، وعطايا الربّ مجّانيّة نحن لا نستحقّها. إنّه يعطينا لأنّه يحبّنا، كان هذا كلام عن عطيّة الربّ التي هي طعام كلّ يوم بيومه، وبعد هذا، كلام عن المساواة رغم كلّ ما نجمع ورغم كلّ ما نكدّس. في النهاية من معه الكثير لن يفضل عنه، من معه القليل لن ينقص عنه. وكلام أخير عن راحة يوم السبت، لأنّ الربّ في اليوم السادس يعطينا طعام يومين. عاد الكاتب إذًا في آية 31 إلى الشيء البسيط. حدثّنا عن هذا المنّ، كما قلت، عن هذا الصمغ الذي يلتصق ببعض الأشجار وأعطانا طعمه. هو مثل كزبرة، وطعمه كطعم قطائف بعسل. أفهمنا أنّ الانطلاق كان انطلاقًا واقعيٌّا، ولكنّ الكاتب الملهم أعطاهُ بعدًا روحيٌّا. فما عاد المنّ قطعة صغيرة لا تكفي عائلة. صار المنّ يكفي جميع الشعب في كلّ أيّام إقامته في البرّيّة.

وسيقول الكاتب فيما بعد: سيكون هذا المنّ رفيق بني إسرائيل أربعين سنة. هو زمن المحنة، الزمن الذي عاشه الشعب في البرّيّة. وماذا نعمل لكي يبقى ذكر هذا العمل، ذكر هذا الطعام حاضرًا في قلب الناس، في قلب المؤمنين؟ قال موسى: »هذا ما أمر الربّ به. ملء الغمر منٌّا يبقى لكم مدى أجيالكم، فيرى أبناؤكم الخبز الذي أطعمتكم في البرّيّة حين أخرجتكم من أرض مصر«. هي كمّيّة قليلة تكون بمثابة خميرة تؤمّن الطعام للأجيال الآتية.

4 - طعام البرّيّة

نتذكّر هنا إيليّا النبيّ وتلك الأرملة. كانت مجاعة وعدم مطر، مدّة ثلاث سنوات. قالت له: »لم يبقَ لي سوى القليل من الزيت والطحين«. عجنَتْها وخبزتها، وقدّمت قرصًا لإيليّا. ثمّ قدّمت لها ولابنها. وقال لها إيليّا: »قارورة الزيت لن تفرغ وكيل الطحين لن ينفذ«. وهكذا يمكن أن نقول إنّ هذا الغمر من المنّ سيبقى حاضرًا مدى الأجيال، سيكون شاهدًا على أنّ الربّ يهتمّ بشعبه، يهتمّ بكلّ فرد منّا. كما أطعمهم الخبز في البرّيّة، هكذا يطعمهم الخبز في كلّ مكان.

هم تذكّروا ما أكلوه في مصر، ولكنّه كان خبزًا مملؤًا بالمرارة ولحمًا ممزوجًا بالعبوديّة. أأخرجهم من مصر كي يقتلهم؟ كلاّ. فالربّ الذي أطعمهم في مصر رغم عبوديّتهم، هو الذي يُطعمهم في البرّيّة رغم النقص في الماء والخضر وكلّ أنواع الطعام. وسيطعمهم في أرض كنعان حين يدخلونها، ويكون هذا المنّ الذي احتفظوا به، حفظوا غمرًا منه في المعبد، سيكون هذا المنّ الشاهد على أنّ الذي أطعم شعبه في الماضي، يطعمه اليوم ويطعمه حتّى النهاية.

وهنا نفهم من خلال هذا المنّ، منٌّا من نوع آخر. عندما كسر يسوع الأرغفة في إنجيل يوحنّا الفصل 6، تذكّر العبرانيّون أنّهم أكلوا المنّ. كثَّر يسوع لهم الخبز، وأطعم خمسة آلاف من خمسة أرغفة. أمّا هم، فتذكّروا المنّ الذي رافقهم والذي يسمّونه طعام السماء. ولكن يسوع ابتعد عن الطعام الأرضيّ، عن الخبز اليوميّ، وابتعد عن المنّ الذي يمكن أن يدوّد وينتن، ووصل إلى منٍّ آخر، إلى طعام آخر، إلى خبز جسده وشراب دمه.

رفعهم يسوع من المستوى المادّيّ إلى المستوى الاستعاريّ والمجازيّ، فرفعهم إلى المستوى الإلهيّ. إن كانت لنا مع يسوع حياة جديدة كما قال لنيقوديمس: »إن لم يولد الإنسان من فوق فلن يرى ملكوت الله«. إن كانت لنا حياة جديدة، إن كنّا ولدنا ولادة جديدة، فنحن نحتاج إلى طعام جديد هو خبز المسيح، هو جسد المسيح، هو دم المسيح. هذا المنّ سيتّخذ معنًى كبيرًا جدٌّا في العهد القديم كما في العهد الجديد، فيدلّ على عناية ا؟ بشعبه. ونتذكّر أيضًا هنا إيليّا لما كان في البرّيّة قرب سيل كريت الواقع في شرقيِّ الأردنّ. يقول التقليد: جاء من يؤمّن له الطعام. ونرى في الإيقونات الغراب بلونه الأسود يحمل الطعام إلى إيليّا في برّيّته.

5 - تذكار مدى الأجيال

16: 33: »وقال موسى لهارون: خُذْ جرّة واجعل فيها ملء الغمر منٌّا، وضَعْه أمام الربّ محفوظًا مدى أجيالكم«. هنا نتذكّر أيضًا ما وصلنا إليه في العهد الجديد والرسالة إلى العبرانيّين. ونلاحظ أيضًا أنّ موسى يأمر هارون، وهارون هو الذي ينفّذ. هارون هو كاهن وهو المسؤول عن المعبد. فوضع هارون المنّ أمام تابوت العهد. وهناك كان محفوظًا كما أمر الربّ موسى.

تابوت العهد يدلّ على حضور الله. ولكنّنا لا نستطيع أن نرى الله، بل نرى مجده. وكيف نرى مجده؟ نرى مجده من خلال أعماله، وهنا من خلال عنايته بشعبه، رغم الصحراء وما فيها من فقر وما فيها من قحط ويباس. هذه الجرّة الصغيرة، ملء الغمر من المنّ هنا، لكي يذكّرنا بواجب رفع المجد إلى الربّ الذي يعتني بنا.

آ 35: »وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة«. مهمّ جدٌّا، أحبّائي. الربّ لا يهتمّ بنا مدّة قصيرة، ثمّ يتخلّى عنّا ويتركنا. كلاّ. إهتمّ بهم جيلاً كاملاً. أربعين سنة. دائمًا أربعون سنة في الكتاب المقدّس تدلّ على الجيل. ثمّ إنّ الأربعين هي زمن المحنة، وبعد المحنة يأتي اللقاء بالربّ.

نتذكّر مثلاً صيام موسى أربعين يومًا، صيام إيليّا وصيام يسوع. هنا نجد الأربعين سنة. إذًا كلّ هذا يدلّ على محنة يمرّ فيها المؤمن بانتظار أن يصل إلى لقاء بالربّ. وذلك إلى أن وصلوا إلى أرض موآب، إلى أرض آهلة بالسكّان، على حدود أرض كنعان.

6 - بعد المنّ طعام الأرض المزروعة

في سفر يشوع 5:12، يقول النصّ: لمّا وصلوا إلى الأرض قرب أريحا، زرعوا، حصدوا، استطاعوا أن يخبزوا وأن يطبخوا. لهذا توقّف المنّ وما عاد الربّ يعطيهم. ظلّ يعطيهم ذلك الطعام، ذلك المنّ، حتّى وصلوا إلى أرض آهلة بالسكّان. هناك سيعطيهم بركة من نوع آخر. في البرّيّة أعطاهم المنّ وكأنّه طعام جاهز، أمّا في أرض كنعان فأعطاهم أن يزرعوا، أن يفلحوا، أن يحصدوا. خصوصًا أعطاهم المطر.

كان العبرانيّون يعتبرون أنّ بعل هو الذي يعطي المطر، وأنّ بعل هو الذي يعطي الخصب. ولكنّهم سيفهمون في النهاية أنّ الربّ هو إله الصحراء، وأنّه أيضًا إله الأرض المزروعة. هو حاضر في كلّ مكان، يرسل بركته في كلّ مكان.

وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة إلى أن وصلوا إلى أرض آهلة بالسكّان، على حدود أرض كنعان. وبدأت حياة من نوع جديد، مع شرائع جديدة، مع وصايا جديدة، فتعلّم الناس كيف يعيشون حياتهم مع الربّ في إطار جديد.

أحبّائي، انتهينا في حلقات أربع من التأمّل في الطعام الذي هيّأه الربّ لشعبه. هيّأ لهم الخبز، المنّ. وهيّأ لهم اللحم طير السلوى. هو ما تركهم، هو ما تخلّى عنهم.

وهكذا نفهم أنّ الكاتب ينطلق من الواقع اليوميّ، سواء الخبز، أو المنّ الذي هو صمغ يلتصق ببعض الأشجار. ثمّ ينطلق من واقع آخر، هو طير السلوى الذي يأتي لاهثًا تعبًا، فيرتمي على الرمل وعلى الشاطئ. إنطلق من أمرين بسيطين جدٌّا ومعروفين في العالم القديم. وأعطانا عدّة أمثولات روحيّة. أمثولات على عناية الربّ. أمثولات على المحبّة والمشاركة. أمثولات على تقديس يوم الربّ. أمثولات على تذكّر الربّ وشكره، على كلّ ما يعطينا أيّاه. أعطانا أمثولات على حضور الربّ من الغروب إلى الصباح ومن الصباح إلى الغروب. هو لا يتركنا أبدًا، سواء في الليل أو في النهار، هو الحاضر معنا يهتمّ بأمورنا ويطلب منّا أن لا نهتمّ فوق العادة، ولا نكون كالوثنيّين الذين لا يعرفون الله.

يقول لنا القدّيس متّى: أمّا أنتم فما تفكّرون بهذا، فأبوكم يعرف ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه.

وهكذا نعود من هذا الفصل إلى تلك الصلاة التي علّمنا إيّاها: أنتم لا تهتمّوا، بل تعلّموا أن تقولوا: أبانا الذي في السماوات. أعطنا خبزنا كفاف يومنا، واغفر لنا خطايانا ونجّنا من الشرير، لأنّ لك الملك والقدرة والمجد إلى أبد الآبدين. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM