الضربة العاشرة: موت الأبكار

الضربة العاشرة: موت الأبكار

أحبّائي نتابع قراءة سفر الخروج وما زلنا في الفصل 12 بما فيه من غنًى كبير. في هذا الفصل كان كلامٌ عن عيد الفصح، العيد الذي يحتفل به الرعاة قبل الانطلاق من موضع إلى آخر. من موضع نفذ فيه العشب والماء إلى موضع فيه العشب والماء. ثمّ كانت قراءة حول عيد الفطير، هذا العيد الزراعيّ الذي يمتنعون فيه عن أكل الخمير، والخمير يدلّ على الفساد. عيد من سبعة أيّام يقطع بين سنة وسنة، فلا ينتقل الفساد من سنة إلى سنة.

والآن نصل إلى ما لـمّحنا إليه أكثر من مرّة، إلى الضربة العاشرة وموت الأبكار. منذ الفصل 11 من الخروج، فهمنا أنّ الربّ حدّد الضربة القاضية: سوف يقتل الأبكار في مصر، أو بالأحرى سوف يقتل بكر فرعون في مصر. فتهتزّ البلاد بطولها وعرضها، وترى المصيبة الكبيرة وتفهم أنّ الطاعة للربّ تُجنّبها شرورًا أخرى. نقرأ إذًا الضربة العاشرة حول موت الأبكار في 12: 29-36:

ولـمّا انتصف الليل، فتك الربّ بكلّ بكرٍ في جميع أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على عرشه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وضرب جميع أبكار البهائم. فأفاقَ فرعون في الليل، هو وجميع رجاله وسائر المصريّين، وارتفع صراخٌ عظيم في مصر، حيث لا بيتَ إلاّ وكان فيه ميت.

فاستدعى فرعون موسى وهرون في الليل، وقال لهما: »قوما اخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل. واذهبوا اعبدوا الربّ كما قلتم. وغنمكم وبقركم خذوها كما قلتم، واذهبوا، ولا تبقوا عندي«.

واستعجل المصريّون بني إسرائيل على الرحيل عن أرضهم وقالوا: »لئلاّ نموت كلّنا«. فحمل الشعب عجينهم قبل أن يختمر، فكانت معاجنُهم مشدودة في ثيابهم على أكتافهم. وفعل بنو إسرائيل كما قال لهم موسى، فطلبوا من المصريّين مصاغ فضّة وذهب وثيابًا. وأعطى الربُّ الشعب حظوة عند المصريّين، فوهبوهم ما طلبوا. وهكذا سلبوا المصريّين.

نصّ الضربة العاشرة جاء في إطار من الشرائع. كيف يعيّد العبرانيّون عيد الفصح؟ وكيف يعيّدون عيد الفطير؟ وأعطى الربّ التعليمات لموسى وموسى أعطاها للشعب. هذا في معنًى روحيّ. لكن قد يكون موسى أخذ هذه التعليمات من القبائل التي عرفها في برّيّة سيناء، وخلفاؤه قد يكونون أخذوا الكثير عن الكنعانيّين المقيمين في فلسطين. إذًا هذا التشريع كلّه صار إطارًا وُضعت فيه الضربة العاشرة وموت الأبكار. طلب موسى في المقطع السابق (آية 24): »احفظوا هذا الأمر فريضة لكم ولبنيكم إلى الأبد«. هنا يتطلّع موسى إلى المستقبل ويتابع: وإذا دخلتم...

1 - مستويات عديدة

هنا نحن أمام أكثر من مستوًى في هذا النصّ. المستوى الأوّل هو مستوى الرعاة والمزارعين. الأوّلون يعيّدون الفصح والآخرون يعيّدون الفطير. ثمّ المستوى الثاني مستوى موسى. أخذ موسى ما أخذ، وجعله في إطار عبادة الله الواحد. لم يعد الله هو الذي يقتل مثل ملاك الموت. وهناك عادات بسيطة، منها، أن لا يخرج أحد من منزله في تلك الليلة. أُعطيت معنًى آخر. والمستوى الثالث هو مستوى الممارسة في أرض كنعان، في أرض فلسطين، منذ دخول الشعب العبرانيّ إليها سواء من الشرق أو من الجنوب.

وبعد ذلك، سوف تمتدّ العادة، سوف تمتدّ الممارسة، لتصل إلى كلّ من ارتبط بالشعب العبرانيّ. نتذكّر أنّ هذا الارتباط كان يقوم بأن يكون الجميع حول المعبد. المعبد يقام في وسط القبائل أو في وسط عدد من المدن والقرى. وكلّ قبيلة تؤمّن حماية المعبد وممارسة شعائر العبادة فيه خلال شهر من السنة. ولهذا السبب نعرف أنّ الشعوب اختارت أن تنقسم 12 قبيلة. كلّ قبيلة تخدم المذبح، تخدم الهيكل، شهرًا من شهور السنة. ذاك كان وضع العبرانيّين، وضع الإسماعيليّين، وضع الآدوميّين، وضع العرب وأخيرًا وضع أوروبّا ومعبد دلفوي في اليونان.

إذًا، الجميع مطلوب منهم أن يحفظوا هذه العبادة. ولكن كيف تنتقل العبادة؟ أتُرى تتوقّف العبادة عند الجيل الذي عرف موسى؟ أو عند الجيل الذي جاء بعد الجيل الذي عرف موسى، فلا تتعدّى الثلاثة أجيال؟ كلاّ. هذه العبادة يجب أن تدوم إلى الأبد، فكيف تنتقل؟ هنا يأتي دور الآباء. الآباء يُفهمون البنين (آ 12:26): إذا قال لكم بنوكم: »ما معنى هذه العبادة؟« الأبناء يسألون والآباء يجيبون.

2 - دور الآباء في تعليم الأبناء

»قولوا هي ذبيحة فصح نقدّمها للربّ« (آ 27). هذا ما كان يفعله الرعاة في القديم. ولكن يضيف النصّ الملهم كلامًا عن الملاك الذي عبر عن بيت بني إسرائيل في مصر فخلّصهم لمّا فتك بالمصريّين. في عبارة واحدة: برز عمل ا؟ حين خلّص الشعب من قبضة المصريّين، وحين حمل شعبه إلى أرض سيناء بانتظار أرض الميعاد.

على الآباء، على الوالدين، أن يُفهموا أبناءهم، أن يُفهموا بناتهم معنى هذه العبادة. عندما نتحدّث عن التعليم الدينيّ في بيوتنا، في مدارسنا، في جماعاتنا، في حلقات دروسنا، نعرف أنّ المعلّم الأوّل للأبناء والبنات إنّما هو الوالد والوالدة. ولهذا يطلب مرّات عديدة من الأمّ أن تسهر على هذه التربية الدينيّة التي بدونها يخسر الإنسان هوّيّته الروحيّة والإيمانيّة، كما يخسر هوّيّته الاجتماعيّة والإنسانيّة.

وبعد أن قال موسى للشعب ما قال على مستوى عيد الفصح وعيد الفطير، نقرأ: »فركع الشعب ساجدين«. والركوع علامة الخضوع وعلامة الطاعة. وذهب بنو إسرائيل فعملوا كما أوصى الربّ موسى. إذًا دلّوا في عمل خارجيّ، في فعلة خارجيّة، في حركة خارجيّة، على الطاعة، ثمّ نفّذوا ما طُلب منهم. في هذا الإطار من الشرائع جاءت الضربة العاشرة.

نذكر هنا ما قلناه في السابق عن معنى الليل، الليل هو الساعة التي فيها يمدّ الربّ يده، يمدّها ليقتل لا سمح الله أو ليحيي. مروره هو موت لمن يريد الموت، وحياة لمن يريد الحياة. موت لمن يرفض نداءه، وحياة لمن يفتح له قلبه. في الخطّ الأوّل، سيفتك الربّ بكلّ بكر في جميع أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على عرشه إلى بكر الأسير الذي في السجن.

3 - مرّ الربّ في الليل

في الفصل 11  نقرأ: »من بكر فرعون إلى بكر الجارية التي تدير الرحى«. المهمّ لا هذا التفصيل أو ذاك. المهمّ هو كلمة كلّ أو جميع التي اعتدنا أن نقرأها. فالربّ يصيب الجميع. وعندما »يضرب« تكون ضربته نداء إلى التوبة، إلىالعودة إليه. إذًا، مرّ الربّ في الليل، ودائمًا نعرف أنّ الليل هو رمز الموت. مرّ الليل، مرّ الموت، فأمات من أمات من الناس والبهائم. لماذا يشدّد فيقول بكر فرعون؟ أبكار البهائم؟ البكر هو الأوّل، وعندما نصيب البكر إنّما نصيب المجموعة كلّها. االبكر هو البداية، وعندما يحصل ما يحصل للبداية سيكون الشرّ حتّى النهاية. ويقول: ضرب جميع أبكار البهائم حتّى ضرب أيضًا البهائم كلّها.

كلمة بكر لا تعني فقط المعنى المادّيّ: هو الابن الأوّل. ولكنّها تعني أيضًا على مستوى المعنى الأنتروبولوجيّ، المعنى الإنسانيّ، المعنى الحضاريّ، أكثر من البكر. البكر يدلّ على الجميع، فإذا ما ذُبح البكر نال الفداء الجميعُ. كذلك عندما يموت البكر، إنّما يموت القطيع كلّه، تموت العائلة كلّها، تموت القبيلة كلّها. وهنا جمع الكاتب من الأعلى إلى الأسفل. بكر الفرعون وبكر الأسير. بكر فرعون على العرش وبكر الأسير في السجن. وأخيرًا لم ينحصر هذا الموت في بكر البشر بل وصل إلى أبكار البهائم. وكما قلنا أكثر من مرّة، لفظة »جميع«، لفظة »كلّ« تدلّ على الكلّيّة: لم يفلت أحد. في الواقع لا يفلت أحد من عقاب ا؟، من دينونة ا؟. كما لا يفلت أحد من مجازاة ا؟ على الخير. الربّ هو سيّد أعمالنا، سيّد حياتنا، سواء آمنّا به أو لم نؤمن، الربّ هو السيّد ونحن نأخذ منه الوصيّة لكي نعيش بحسبها. »فأفاق فرعون في الليل...« (آ30).

نلاحظ دائمًا الفئات الثلاث في مصر، الفرعون الذي هو تجسيد للإله على الأرض، الذي هو صورة ا؟ على الأرض، ومع الفرعون جميع رجاله. في النصّ الأساسيّ، جميع عبيده. يعني الموظّفين في القصر الملكيّ أو في كلّ ما يتعلّق بالملك. والفئة الثالثة سائر المصريّين. هو، فئة أولى. جميع رجاله، فئة ثانية. سائر المصريّين الفئة الثالثة. أجل، لم ينجُ أحد من هذه الضربة التي فتكت بمصر. لا يحسب الفرعون نفسه أنّه إله. والموظّفون الكبار لن يحسبوا نفوسهم بعيدين عن عقاب ا؟، عن مجازاة ا؟. »وارتفع صراخ...«. نلاحظ هنا الصورة البيانيّة. إذا كان في كلّ بيت ميت، فهذا يعني أنّ على هذا البيت أن يطرح على نفسه السؤال: لماذا دخل ا؟ إلى بيته؟ لماذا تدخّل ا؟ في بيته؟ فتدخُّله هو نداء.

»فاستدعى فرعون موسى وهرون في الليل« (آ31) في السابق، رفض أن يطلقهما، أن يطلق الشعب. أمّا الآن فهو يطردهم طردًا: »اذهبوا، اعبدوا الربّ كما قلتم«. خضع الفرعون للربّ. فهمَ الفرعون أنّ الذي يعمل بيد موسى، بعصا موسى، هو أقوى منه. لذلك رضخ للأمر الواقع. إستسلم كما يستسلم ملكٌ لملكٍ آخر. فهمَ فرعون أنّه إن كان هو سيّد مصر كلّها، أعظم بلد في ذلك الزمان، إلاّ أنّ فوقه سيّدًا أقوى منه، هو الربّ.

أراد العبرانيّون أن يخرجوا، فوضع شروطًا. أوّلاً: تذهبون بدون أولادكم ونسائكم. ثمّ: تذهبون وتتركون هنا بقركم وغنمكم. أمّا الآن ففرعون يطلب منهم أن لا يتركوا شيئًا وراءهم، أن يأخذوا كلّ شيء: غنمكم، بقركم، لا تبقوا عندي أبدًا. لن يبقى من أثركم أثر. صار الشعب العبرانيّ بالنسبة إلى المصريّين وأوّلاً بالنسبة إلى الملك، صار علامة شؤم، علامة ضربة قاسية. ولم يكتفِ الفرعون بأن يقول لهؤلاء العبرانيّين أن يمضوا، بل المصريّون أنفسهم توسّلوا إليهم.

أحسّ المصريّون أنّ يد الربّ هي هنا. أنّ يد الربّ هي التي تعاقب، بحيث لا يستطيع أحد أن يفلت من عقاب الربّ. لهذا طلبوا من بني إسرائيل، استعجلوهم أن يتركوا هذه الأرض ويذهبوا إلى أرض أخرى.

»فحمل الشعب عجينهم« (آ 34). نلاحظ هنا أوّلاً الارتباط بعيد الفطير. العجين لم يختمر بعد. في الواقع لا يستطيع الرعاة أن ينتظروا العجين حتّى يختمر. فماذا كانوا يفعلون؟ كانوا يضعون المعجن في ثيابهم على أكتافهم حتّى يأخذ بعض الحرارة ويختمر بعض الشيء. فارتبط هنا عيد الفطير بانطلاقة الرعاة، كما ارتبط أيضًا بالحياة في مصر والخروج من مصر. أمور بسيطة، أمور عمليّة طلبها موسى. ولكنّها سوف تأخذ معنًى كبيرًا في حياة المؤمنين على مرّ العصور.

وتقول الآية 35: »وفعل بنو إسرائيل كما قال لهم موسى«. هي الطاعة التامّة لما يقوله موسى. سوف نرى فيما بعد تذمّر العبرانيّين على موسى. ولكن في الوقت الحاضر، والأمور ما زالت على مستوى الطقوس وشرائع العبادة، حتّى الآن الأمور هي على مستوى الطاعة. ويعود النصّ إلى ما قاله فيما مضى: طلبوا من المصريّين مصاغ فضّة وذهب وثيابًا، وأعطى الربّ الشعب حظوة عند المصريّين فوهبوهم ما طلبوا. وهكذا سلبوا المصريّين.

هنا نتذكّر ما يقوله الترجوم في هذا الموضع: إن كانوا أخذوا ما أخذوا من المصريّين فهم يستعيدون ما سلبهم إيّاه المصريّون. لا شكّ عندما يذهب الشعب إلى العيد، يلبس أجمل الثياب، يضع مصاغ الفضّة والذهب. العيد يعني أنّنا نخرج من العادة اليوميّة وندخل عادة العيد. يأتي العيدُ مرّة في السنة أو حسب فترة معيّنة. حين طلب العبرانيّون اللباس والحليّ من فضّة وذهب، إنّما أرادوا أن يذهبوا إلى العيد، أن يذهبوا إلى الحجّ.

وهكذا انطلقنا من عيد الفصح وما فيه من شرائع أخذها موسى عن الرعاة وأدخلها في إطار ديانة »يهوه«. وكانت شرائع أخرى على مستوى عيد الفطير الذي يمتدّ سبعة أيّام، هو أيضًا دخل في إطار العيد. عيد الفصح وعيد الفطير ارتبطا بالضربة العاشرة وموت الأبكار. وهكذا عيدٌ زراعيّ وعيد البدو أخذا معنًى جديدًا، ارتبطا بأهمّ خبرة عاشها العبرانيّون، هي خبرة الخلاص من أرض مصر. فلم يبقَ على الشعب سوى أن ينطلق بقيادة موسى فيدلّ بعمله وخطواته الأولى على هذا الخلاص الذي تمّ له فيعبر البحر الأحمر واصلاً إلى جبل سيناء. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM