عيد الفطير

 

عيد الفطير

1- من المعبد إلى معبد أورشليم

أحبّائي نتابع قراءتنا لسفر الخروج. في حلقة سابقة تحدّثنا عن عيد الفصح. والعيد كما قلنا هو ما يعود مرّة كلّ سنة. والعيد في اللغة العربيّة يرتبط بالحجّ. الحجّ يعني الانتقال من موضع إلى آخر. الناس لا يعيّدونه حيث يقيمون. بل ينتقلون. في أيّام الرعاة كانوا ينتقلون إلى أرض الانتجاع، إلى أرض فيها عشب وماء. ولمّا أقام العبرانيّون، بنو إسرائيل، في أرض فلسطين، كانوا يذهبون إلى المعبد القريب.

وكانت هناك معابد عديدة: شكيم، بيت إيل، دان، بئر سبع، حبرون وغيرها من المعابد. ولكن في إصلاح يوشيّا سنة 622 قبل المسيح، صار العيد يُحتفَل به فقط في أورشليم. تركّزت شعائر العبادة فقط في أورشليم. فكان جميع المعيّدين في عيد الفصح يأتون إلى أورشليم ويطلبون من الكاهن أن يذبح لهم ضحيّتهم وهم يأكلونها. ولكن بعد سنة 70 بعد المسيح، ودمار الهيكل وزوال الكهنوت، ظلّ الشعب اليهودي يعيّد عيد الفصح، ولكنّه يستغني عن الخروف إذ لا كاهن يذبح له هذا الخروف، ولا هيكل يتقبّل دم هذا الخروف.

ثمّ إنّ عيد الفصح صار في المسيحيّة عيد عبور يسوع المسيح من هذا العالم إلى الآب (يو 13:1). قال يوحنّا: »ولمّا علم يسوع أنّ ساعته أتت لينتقل من هذا العالم إلى الآب«. في العهد القديم، عيد الفصح هو عيد عبور الربّ، يعبر في أرض مصر. يعبر قرب بيوت العبرانيّين، ولكنّه لا يجعلها تتأثّر بعبوره الفاتك والمهلك الذي يصيب الخطأة. هذا الفصح المسيحيّ صار عبور المسيح إلى موته وقيامته وصعوده.

2 - الفصح والفطير

عيد الفصح هذا ارتبط بعيد آخر هو عيد الفطير. عيد الفصح هو عيد الرعاة يعيّدونه في البرّيّة مع قطعانهم. عيد الفطير هو عيد المزارعين، عيد الفلاحين، الذين يعيّدون لا بواسطة خروف يذبحونه، بل بواسطة طعام يلتقطونه، ولا سيّما الخبز الفطير. إذًا نقرأ سفر الخروج 12:15 وما يلي.

يتابع موسى كلامه إلى الشعب فيقول:

»وتأكلون الخبز الفطير سبعة أيّام. في اليوم الأوّل تُخرجون الخمير من منازلكم، وكلّ من أكل خميرًا من اليوم الأوّل إلى السابع أقطعه من بني إسرائيل. وتقيمون في اليوم الأوّل احتفالاً مقدّسًا، وفي اليوم السابع احتفالاً مقدّسًا. وفي هذين اليومين لا تعملون عملاً إلاّ من أجل تهيئة الطعام لكلّ واحد منكم.

»حافظوا عليه فريضة لكم مدى أجيالكم. كلوا فطيرًا من عشيّة اليوم الرابع عشر إلى عشيّة اليوم الحادي والعشرين من الشهر الأوّل. ولا يَكُنْ خمير في بيوتكم سبعة أيّام. وكلّ من أكل خميرًا أقطعه من بني إسرائيل، دخيلاً كان أم أصيلاً، لا تأكلوا شيئًا مختمرًا، بل في جميع مساكنكم تأكلون فطيرًا«.

فدعا موسى جميع شيوخ بني إسرائيل وقال لهم: »قوموا خذوا لكم غنمًا حسب عشائركم وقدّموا ذبيحة فصحٍ للربّ. وخذوا باقة زوفا واغمسوها بالدم الذي في الطست ورشّوا منه على العتبة العليا وجانبَي الباب. ولا يخرج أحد منكم من باب منزله حتّى الصباح، ويمرّ الربّ ليفتك بالمصريّين، فإذا رأى الدم على العتبة العليا وجانبي الباب، عبر عنه ومنع ملاك الموت من أن يدخل بيوتكم ليفتك بكم. واحفظوا هذا الأمر فريضة لكم ولبنيكم إلى الأبد. وإذا دخلتم الأرض التي يعطيها لكم الربّ كما قال، فاحفظوا هذه العبادة. وإذا قال بنوكم: ما معنى هذه العبادة؟ فقولوا: هي ذبيحة فصح للربّ الذي عبر عن بيوت بني إسرائيل في مصر فخلّصها لـمّا فتك بالمصريّين«. فركع الشعب ساجدين، وذهب بنو إسرائيل فعملوا كما أوصى الربّ موسى.

3 - خبز وخبز

»تأكلون الخبز الفطير سبعة أيّام«. هنا نتذكّر نوعين من الخبز: الخبز الفطير يعني الذي لا خمير فيه. والخبز الخمير يعني المختمر، الذي فيه الخمير. والخبز الخمير يُمنع في مثل هذا العيد، لأنّ الخمير يرمز إلى الفساد. لهذا السبب تنتهي سنة وتبدأ سنة جديدة، لئلاّ ينتقل الفساد من سنة إلى سنة. هناك قطعٌ. هناك توقّف عن الخبز الخمير. شيء مؤلم جدٌّا: سبعة أيّام. والسبعة عدد الكمال كأنّنا أمام حقبة كاملة تفصل بين سنة وسنة. يجب أن لا ينتقل الخمير من سنة إلى سنة، لهذا يطلب موسى أو المشترع الذي عاش بعد موسى (يمكن 500-600 أو 700 سنة) يطلب المشترع أن لا يبقى هناك إلاّ الخبز الفطير. فكلّ من أكل خميرًا من اليوم الأوّل إلى اليوم السابع أقطعه من بني إسرائيل، يعني يعتبر نفسه أنّه ليس من الشعب.

المهمّ أحبّائي أن نعرف أن ما تفعله الجماعة يُفرض على كلّ فرد من الجماعة، نحن لسنا أمام مقاتلين أفراد، كلّ واحد يسير في طريقه، بل أمام عمل مشترك، كلّنا نعمل العمل عينه المشترك، كلّنا نشارك في العبادة عينها. كلّنا نعبد العبادة عينها، هنا نتذكّر بعض المرّات أشخاصًا يريدون مثلاً أن يصوموا ساعة يريدون هم، أو أن ينقطعوا عن اللحم أو غيره من الأكل ساعة يريدون هم، لا شكّ هناك بحث عن الإماتة، عن إمساك النفس، عن عفّة النفس، وهذا أمر جيّد جدٌّا. لكنّ العمل يصبح أكثر فائدة، يصبح أكثر كنسيٌّا حقٌّا عندما نعمله مع الآخرين. وهنا نتذكّر أيضًا في عباداتنا في الكنيسة خلال القدّاس: هناك من يقف ساعة يجلس الآخرون، أو يسجد ساعة يقف الآخرون. هذه علامة أنّنا وحدنا، كلاّ. ما من أحد هو جزيرة في البحر. فنحن متّصلون بعضنا ببعض.

4 - نحتفل معًا، نعطِّل

هذا العمل الذي نقوم به يتجاوب مع عمل الآخرين، كما قلنا في الحلقة السابقة. يذبح كلّ جماعة بني إسرائيل معًا (12:6). معًا. وهنا معًا نتوقّف عن الخمير، معًا نأكل الخبز الفطير، معًا نعيّد للربّ. فمن أراد أن يكون وحده يَكون وكأنّه انقطع عن الشعب. هذا ما يسمّى الحرم. لم يعد متّصلاً بالآخرين. هذا العيد يدوم سبعة أيّام. يقول النصّ في الآية 16: في اليوم الأوّل احتفال مقدّس. وفي اليوم السابع احتفال مقدّس. يبدأ الأسبوع بالاحتفال والتجمّع، وينتهي الأسبوع بالاحتفال والتجمّع. ولكن نكون كلّنا جاهزين، كلّنا مشاركين. يُمنَع كلّ عمل في هذين اليومين أي اليوم الأوّل واليوم السابع. نقرأ في الآية 16: »في هذين اليومين لا تعملون عملاً إلاّ من أجل تهيئة الطعام لكلّ واحد منكم«.

لا نعمل إلاّ الضروريّ الضروريّ من أجل الحياة فقط. والضروريّ تهيئة الطعام، وما عدا ذلك كلّ شيء ممنوع. يجب أن نعيّد، يجب أن نتفرّغ من أجل العيد. نلاحظ مرّات عديدة تشديد الكتاب المقدّس على العطلة. نعطّل، نتعطّل عن العمل، لا نشتغل يوم العيد، نرتاح يوم العيد.

وهناك راحة أيضًا يوم السبت، لا نعمل عملاً لكي نتكرّس للربّ، فإن تـمّمنا العمل ارتبطنا بالعمل، أمّا إذا تركنا كلّ عمل، فنكون قد ارتبطنا بالله. العيد يخصّ الله. فالسبت والأحد يخصّان الله.

ويتابع النصّ في الآية 17: »حافظوا على عيد الفطير«. هنا نذكر ما قلته سابقًا: إنّ هذا العيد هو عيد زراعيّ وإنّ العبرانيّين لم يعرفوه حين كانوا في الصحراء، في البرّيّة، بل عرفوه لمّا جاؤوا إلى أرض كنعان، إلى أرض فلسطين. أخذوه عن الكنعانيّين الذين كانوا يقيمون هناك. ولكن حين أخذوا بهذا العيد ومارسوه، صار فريضة على الجميع.

5 - كلّ شيء لكم

المهمّ أنّ الشعب العبرانيّ ما ألغى هذا العيد، كلاّ. لكنّه أخذه وأعطاه معنًى جديدًا. في هذا المجال نتذكّر كلام القدّيس بولس: »كلّ شيء لكم«. يعني عادة الناس، لغة الناس، أخبار الناس، الصور، كلّ العبادات، الاحتفالات كلّها لكم. من هنا نفهم أن لا شيء غريب عن يسوع. يقول لنا مار بولس: »كلّ شيء لكم وأنتم للمسيح والمسيح لله«. كلّ شيء لكم شرط أن تكونوا أنتم للمسيح.

والشعب العبرانيّ ما ألغى الاحتفال بعيد الفطير، مع أنّه في الأصل عيد وثني، عيد ارتبط بعالم الزراعة. وكيف سيعطيه مسحة دينيّة، مسحة إلهيّة؟ حين يربطه بالخروج من أرض مصر. ففي آ 17 يقول: »حافظوا على عيد الفطير«. لماذا؟ لأنّ في هذا اليوم ذاته أخرجتكم جميعًا من أرض مصر. جمع الكاتب ألف سنة أو أكثر في لحظة واحدة. عيد الفطير الذي يمارسه الكنعانيّون في فلسطين، والخروج من مصر الذي تمّ على يد موسى: صار العيدان عيدًا واحدًا. فمن لا يحافظ على عيد الفطير كان وكأنّه يرفض الخروج من أرض مصر، كان وكأنّه يريد العودة إلى أرض العبوديّة إلى أرض الحياة في مصر.

ولكن هذا العمل الخارجيّ يدلّ على ارتباطه بتاريخ الشعب: »حافظوا عليه، فريضة لكم مدى أجيالكم«. نحافظ على العيد، لا سنة واحدة أو يومًا واحدًا، بل مدى الحياة. هذا العيد صار قطعة من حياة الشعب: »كلوا فطيرًا من عشيّة اليوم الرابع عشر إلىعشيّة اليوم الحادي والعشرين من الشهر الأوّل« (آ 8). سبعة أيّام أيضًا. سمعنا في آ 15: »تأكلون الخبز الفطير سبعة أيّام«. ونعود في الآية 18 فنقول: »كلوا فطيرًا من عشيّة اليوم الرابع عشر إلى عشيّة يوم الحادي والعشرين من الشهر الأوّل«.

6 - سبعة أيّام نكرّس السنة

نلاحظ أنّ عيد الفطير يبدأ في الرابع عشر، يعني في اليوم الذي فيه يؤكل خروف الفصح. نحن نحتاج إلى ليلة البدر، إلى ليلة يكون فيها القمر مشعٌّا جدٌّا، حتّى نستطيع أن نعيّد طوال الليل. ويمتدّ العيد سبعة أيّام، وكأنّنا بهذه السبعة أيّام نكرّس السنة كلّها للربّ. أجل، السنة تبدأ في الربيع فكأنّنا في هذا العيد أمام باكورة سنة كاملة. كما تكرّس الباكورة فتحفظ الغلال، كما يكرّس بكر الغنم، فيُحفظ القطيعُ كلّه، كذلك يكرّس أسبوع في بداية السنة، فتكرّس السنة كلّها.

ويتابع النصّ فيقول: »لا يكن خمير في بيوتكم سبعة أيّام«. يُمنع الخمير، يُمنع كلّ فساد. »فكلّ من أكل خميرًا أقطعه من بني إسرائيل، دخيلاً كان أم أصيلاً«. جعل نفسه خارج الجماعة. ولا ننسَ في عالم البرّيّة والصحراء عندما يُطرد شخص من القبيلة، ولم تستقبله قبيلة أخرى، كان وكأنّه ذاهب إلى الموت. لكنّ الكتاب يقول: »في كلّ مرّة أقطعه«. وكأنّ الربّ هو الذي قطعه أو قتله، كلاّ. ولكنّ ذهابه خارج القبيلة يعني أنّه انقطع، لأنّه خرج على عادات القبيلة. يبدو وكأنّه ميت، وكأنّه مقطوعٌ من الحياة مع الآخرين.

وينتهي النصّ فيقول: »لا تأكلوا شيئًا مختمرًا. بل في جميع مساكنكم تأكلون فطيرًا«. هنا نحسّ أنّنا في زمن المنفى، لم يعد الناس قريبين من هيكل أورشليم حيث يُذبح خروف الفصح، وحيث يجتمع الناس. أينما كنتم أيّها المؤمنون، أينما كانت مساكنكم، تأكلون فطيرًا: عمل واحد، ممارسة واحدة، عبادة واحدة في كلّ أقطار الأرض. مثل هذا يجمع المؤمنين في واحد فيصبحون معًا، إن لم يكن على مستوى الجسد، فعلى مستوى النفس، على مستوى الروح، على مستوى النيّة.

7 - تعليمات من الربّ

ونتابع قراءة 12:21: فدعا موسى جميع شيوخ بني إسرائيل وقال لهم: »قوموا خذوا لكم غنمًا بحسب عشائركم وقدّموا ذبيحة فصح للربّ«. بعد أن سمع موسى التعليمات من الربّ، ها هو يأمر بواسطة شيوخ القبيلة، أو شيوخ القرية. أو شيوخ الحيّ، أو شيوخ الضيعة، أن ينظّموا ما طلبه الربّ: أوّلاً خروف الفصح ثمّ الزوفا، ليرشّ البيوت. وهناك ملاحظة صغيرة في آ 22: »لا يخرج أحد منكم من باب منزله حتّى الصباح«. هذه العادة تجد ما يقابلها ونحن بصورة إيمانيّة في الشرق. ليلة اعتماد المسيح، يبقى المؤمن في بيته لأنّ الزائر الإلهيّ يزوره، وهي زيارة تدوم طوال السنة. ومَن كان خارج منزله، خسر نعمة عظيمة.

نحن بلا شكّ أمام عادة قديمة جدٌّا: كانوا يعتبرون أنّ الفاتك يمرّ في الليل، فمن كان خارج الخيمة يقتل. هنا يُطبّق المبدأ على المنزل، يعني يبقى الناس في بيوتهم، وهكذا ينجو كلّ واحد من الضربة التي يمكن أن تفتك بالخارجين على شريعة الله ويعود مرّة ثانية فيذكّر ما فعله الربّ يوم خروج بني إسرائيل. (آ 23): »ويمرّ الربّ ليفتك بالمصريّين، فإذا رأى الدم على العتبة العليا وجانبي الباب، عبر عنه ومنع ملاك الموت من أن يدخل بيوتكم ليفتك بكم«.

نلاحظ أنّ الذي يقتل ليس الربّ، بل ملاك الموت. ملاك يعني رسول الموت. كأنّي بالكاتب أراد أن يبعد عن الله القول بأنّه هو الذي يكون بجانب ملاك الموت، فيمنعه من أن يقتل. ولكن نعرف أنّ سنّة الموت ترتبط بالخطيئة: »يوم تأكل من الشجرة المحرّمة، أي يوم تتعدّى على الوصايا، تموت موتًا«.

ويتابع النصّ في آ 24: »احفظوا هذا الأمر فريضة لكم ولبنيكم إلى الأبد«. هذه الفريضة ليست مرتبطة بشعب من الشعوب، بقبيلة من القبائل، بجيل من الأجيال، هي إلى الأبد، يبقى على الآباء أن يخبروا البنين بما عملوه أو لماذا يعملون ما يعملون.

وهكذا ارتبط عيد الفصح بعيد الفطير، عيد البدو الرعاة، بعيد الفلاحين والمزارعين. إرتبط هذان العيدان بالخروج من مصر وصار للعيد معنًى مقدّس، صار اليوم الأوّل واليوم السابع يومَين مكرّسَين للربّ. نحتفل بهما للربّ. وهذا ما يصل بنا إلى عيد الفصح، العيد المسيحيّ. ولكن هناك لن يكون الحمل خروفًا من القطيع بل يكون يسوع المسيح بالذات. وهو الذي قال عنه يوحنّا المعمدان: »هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم«. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM