الربّ يعيد البناء

 

الربّ يعيد البناء

المزمور الأربع والأربعون

أحبّائي، بعد صرخة الشعب في ضيقه، بعد أن قابل بين ماضٍ مجيد وحاضر هزيل، هو يطلق صرخته وهو واثق أنّ الربّ يعيد البناء، أنّ الربّ يعيد بناء أورشليم، الربّ يعيد بناء هيكل أورشليم، الربّ يعيد بناء شعبه.

لا شكّ في أنّ الإنسان ينتظر الكثير، ولكنّه في الواقع ينال القليل. والهيكل الكبير الذي سبق وبناه سليمان فسيطر، فتفوّق على كلّ الهياكل التي كانت في أرض فلسطين. هذا الهيكل لن يعود كما كان بعد المنفى، صار هيكلاً صغيرًا. وهذا ما جعل بعض الناس، بعض المؤمنين، يضحكون: هذا هو الهيكل! ونقول الشيء عينه بالنسبة إلى الشعب. الشعب لم يعد كما كان. الملكيّة ضاعت، وانتهت في طفل يعيش في مذود اسمه يسوع المسيح ابن يوسف بن داود. ينتظر الشعب الكثير ولكنّه ينال القليل.

1 - فقراء الربّ

أنشد الشعب أنّ الله في محبّته سوف يبني، سوف يعيد البناء، ولكن لا على المستوى الأرضيّ فقط، على مستوى الشعب العائد من المنفى. هناك مؤمنون من نوع آخر. لم يعد لهم امتيازات، ولا لهم الملك، ولا لهم الهيكل بذهبه الذي يُرى من بعيد، ولا لهم الشرائع إلخ... كلّ هذا لم يعودوا يفتخرون به. صاروا يفتخرون بأنّهم فقراء الربّ، بأنّهم مساكين الربّ، بأنّهم أولئك الذين جعلوا كلّ ثقتهم بالربّ.

هذا هو الشعب الجديد الذي يبنيه الربّ خلال خمسة قرون من الزمن فيصل بنا إلى زكريّا وإليصابات، إلى يوسف ومريم، إلى سمعان الشيخ وحنّة النبيّة، إلى هؤلاء الذين جاءوا إلى يسوع. الشعب الجديد يبنيه الله، والحجر الأساس هو ابنه يسوع المسيح. نعم، ا؟ يبني شعبه ولكن لا بالطريقة التي انتظرها الشعب.

من المؤسف أن تكون مرّات عديدة انتظاراتُنا زمنيّة، مادّيّة، أرضيّة. نريد أن نرى بعيوننا، أن نلمس بأيدينا. نريد أن نُنزل السماء على الأرض وأن نرى الله كلاّ، فالربّ يريد أن يرفع الأرض إلى السماء. هو يرفعنا وعندئذ نرى الله ورؤيتنا تكون ساعتئذ رؤية السعادة، رؤية الملء الذي ننتظره. الشعب العبرانيّ الذي مضى إلى المنفى، لم يجد كماله فيما وصل إليه. في أيّ حال، كانت فرق، شعوب، جماعات مشتّتة، مبعثرة، ولن يجمعها إلاّ ذاك الذي يجمع في شخصه كلّ ما في السماء وكلّ ما على الأرض. نعم ا؟ وا؟ وحده يبني شعبه، ساعة يشاء وكما يشاء. يبقى على المؤمن، يبقى على الشعب أن يتجاوب مع عمل الله أن يُصغي إلى الله، أن يضع يده في يد الله ويعرف أن ينتظر وقد ينتظر طويلاً. فالربّ أمامه الأبديّة وما لا ينهيه على هذه الأرض، ينهيه في السماء. في أيّ حال، مهما عمل البشر، مهما نظّم الناس يبقى عملهم ناقصًا، يبقى تنظيمهم غير كامل. فالربّ هو الذي يكمّل، فالربّ هو الذي يتمّم كلّ نوايا قلوبنا، كلّ ما نحتاج إليه. كلّ ما نتوق إليه. لأنّ هذا التوقان في قلبنا، هذا التمنّي في قلبنا، إنّما هو نور من لدنه تعالى.

هذا، أحبّائي، ما نقرأه في القسم الأخير من المزمور 44. كان القسم الأوّل، صرخة الشعب في الضيق مع تذكّر الماضي المجيد.

نقرأ 44: 2-9: بآذاننا سمعنا يا ا؟. آباؤنا هم الذين أخبرونا بجميع الأعمال التي عملتها في أيّامهم، في الأيّام القديمة... فنحن على الدوام نهلّل لك، ونحمد إلى الأبد اسمك.

2 - الحاضر الهزيل

هذا القسم الأوّل من المزمور يشدّد على ما فعله الله في الماضي وكان الماضي مجيدًا. وننتقل إلى القسم الثاني من المزمور 44: 10، الماضي كان مجيدًا، ولكنّ الحاضر هو هزيل.

يقول: لكنّك اليوم خذلتنا وأهنتنا، ولا تخرج للقتال مع جيوشنا... من كلام المعيّرين الشاتمين، ومن كلّ عدوّ منتقم. هي لغة متشائمة، لغة حزينة، لغة الموت، لغة الضياع. إذًا الحاضر هو هزيل تجاه الماضي الذي كان مجيدًا. ولكن هل ييأس المؤمن؟ كلاّ. فقد جعل ثقتَه في محبّة الله الذي يعيد بناء شعبه.

نواصل قراءة المزمور 44: 18-27: هذا كلّه وقع علينا. وما نسيناك ولا خُنّا عهدك، قلوبنا لم ترتدّ إلى الوراء ولا مالت خطواتنا عن سبيلك... فَقُمْ لنصرتنا، يا ربّ، وافْدِنا من أجل رحمتك. وهكذا ينتهي المزمور: قم لنصرتنا وافدنا من أجل رحمتك. هنا نتذكّر أنّ العهد القديم خصوصًا لا يتوقّف عند الأسباب الخارجيّة، أسباب الهزيمة، أسباب الحرب. من ينتصر أو من لا ينتصر. إذا انتصر الشعب اعتبر أنّ الله هو الذي أعطاه النصر. وإن خُذل الشعب، هُزم الشعب، يعتبر أنّ الله هو الذي أعطاه الهزيمة، هو الذي جعله ينهزم. وكأنّ الإنسان لا دور له في كلّ هذا. هنا نحن أمام اثنين: أوّلاً نحن ما خنّاك، ونعود إلى بداية سفر القضاة الذي يجعل المعادلة تامّة: إذا كان الشعب خان الربّ، فالربّ يتركه، يسلّمه إلى الأعداء. ولكن إذا كان الشعب يتوب إلى الربّ، فالربّ ينجّيه يرسل إليه المخلّص.

3 - الحاضر والمستقبل

هذا يمكن أن يكون في الماضي، ويمكن أن يكون في المستقبل. المؤمنون الذين يتألّمون في الضيق، في المنفى، بعيدًا عن الوطن، بعيدًا عن أورشليم، عن الهيكل، مركز إقامة الله، رمز حضوره؛ هذا الشعب يقول للربّ: ونحن مع ذلك كنّا أمناء لك. غير أنّ هذا ليس بصحيح. لم يكن الشعب أمينًا للربّ. وفي سفر الملوك الثاني فصل 17، بعد سقوط السامرة سنة 722، ماذا قال كاتب سفر الملوك؟ قال إنّ هذا الشعب رفض الله مرّة بعد المرّة. أرسل الله إليه الأنبياء فرفض أن يسمع لهم. ولمّا تعب الربّ، كدت أقول يئس الربّ، أسلمهم، ليذهبوا إلى المنفى. كان ذلك سنة 722. وإن كتبَ سفر الملوك الثاني ما كتب، فهو لم يكتب لأهل السامرة لأنّ أهل السامرة مضوا إلى المنفى. فهو يكتب إلى أورشليم. ولكنّ سكّان أورشليم وحكّام أورشليم لم يكونوا أفضل من حكّام السامرة. لهذا السبب هم يقولون للربّ: نحن كنّا أمناء لك، نحن ما خنّا عهدك. لكنّ هذا الكلام ليس بصحيح. كما الصغير يتّهم الكبير. ولكنّ الربّ بقلبه الواسع يقبل هذا الاتّهام. وفي النهاية سيفهم الشعب أنّ الربّ لا يخون، الإنسان هو الذي يخون؛ أنّ الربّ لا يترك المؤمن، الإنسان هو الذي يترك الربّ. هذا مهمّ جدٌّا. ربّنا لا يتركنا أبدًا. نحن نبتعد عنه فنحسّ وكأنّه تركنا، لأنّ الربّ يحترم حرّيّتنا إلى أقصى حدود الاحترام. يحترم حرّيّة القرار عندنا، ولا يمكن أن يُكرهنا في شيء. فهو إله المحبّة، ومتى كانت المحبّة تكره حبيبها؟ مستحيل! فكيف نريد للربّ أن يفرض علينا، أن يُكرهنا على عمل نحن لا نريده. بل هو ينتظر الساعة التي فيها نريد أن نسمع له، مثل عروس نشيد الأناشيد: لم تفتح لحبيبها الباب لأنّها قالت إنّها غسلت رجليها فلا توسّخهما، وخلعت ثوبها فكيف تلبسه. ولكنّها لمّا اشتمّت رائحة العطر الذي تركه العريس وراءه، لبست ثوبها وقامت تركض في الليل لتبحث عن حبيبها.

الربّ له طرقه في اجتذاب كلّ واحد منّا، وهو يعرف متى يجتذبنا. هنا الربّ، قالوا له: نحن ما خنّاك، نحن كنّا دومًا أمناء لوصاياك. ولكنّ الوضع لم يكن كذلك فكأنّي بهم يقولون: نحن الآن في الضيق وفي المنفى نحاول الأمانة لك ولوصاياك ولحضورك في حياتنا. ذاك هو القسم الثالث من المزمور 44 مع آية 18.

4 - الحنين إلى الماضي

نقرأ النصّ: هذا كلّه وقع علينا وما نسيناك ولا خنّا عهدك، هذا الماضي الهزيل كلّه وقع علينا. تشتّتنا، استُعبدنا، صرنا ذليلين، أُهنّا، أبغضونا، كثر الأعداء حولنا. كلّ هذا وقع علينا وما نسيناك وما خنّا عهدك. من يستطيع أن يقول إنّه بلا خطيئة. قلوبنا لم ترتدّ إلى الوراء، ولا مالت خطواتنا عن سبيلك. قلوبنا يعني الفكر، العاطفة، الإرادة لم ترتدّ إلى الوراء، مثل العبرانيّين لمّا كانوا في برّيّة سيناء. كانوا يتذكّرون البصل والبطيخ والسمك، واللحم في مصر، ويتوقون إلى حياة من العبوديّة. ويقولون إنّهم لن يتراجعوا إلى الوراء: يا ليتنا متنا في مصر! ودائمًا هو لنا هذا القلب الذي يرتدّ إلى الوراء، وكأنّه يريد أن يعيش بعيدًا عن الله

نتذكّر أيضًا امرأة لوط التي كانت تتوق بعد إلى أرض سدوم وعمورة. فشابهت أهل سدوم وأهل عمورة وصارت شاهدًا لكلّ من يريد أن يتطلّع إلى الوراء. ويسوع يقول لنا من يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يستحقّني، لا يستحقّ أن يتابع الطريق. والمؤمنون يقولون للربّ: لم ننظر إلى الوراء، قلوبنا لم ترتدّ إلى الوراء ولا مالت خطواتنا عن سبيلك أو عن طريقك. سبيل الربّ هو الوصايا. وهنا نتذكّر شخصًا مثل أخنوخ. يقول الكتاب عنه: سلك مع الله سار في السبيل الذي رسمه له الله.

5 - شعب الربّ يخون الربّ

ويواصل المرتّل كلامه: فلماذا سحقتنا في القفر وكسوتنا بظلال الموت. سرنا في الصحراء وكسوتنا بظلال الموت أو بالظلمات، يعني رافقتنا في البرّيّة الموحشة التي لا نجد فيها سوى بنات آوى. وتركتنا في الظلمة نتيه ولا نعرف كيف نصل وإلى أين سوف نصل.

آية 21: إن نسينا اسم إلهنا أو بسطنا أكفّنا لإله غريب أفلا يكشف الله ذلك وهو من يعرف خفايا القلوب؟ نعم الربّ كشف ذلك، الربّ عرف أنّ شعبه نسيه، أنّ شعبه تطلّع إلى الآلهة الغريبة، وفي أيّ حال، حتّى اليوم، نبحث نحن عن الآلهة الغريبة، نبحث عن مخلّص غير المخلّص الذي باسمه نخلص. إن نسينا اسم إلهنا؟ نعم نسينا اسم إلهنا، وكم هو مهمّ أن نتذكّر في كلّ ساعات حياتنا إن كان الله هو الذي يوجّه أفكارنا، أقوالنا، أعمالنا، تصرّفاتنا.

آية 23: من أجلك نُقتَل على الدوام ونُحسَب مثل غنم للذبح. أجل هذا الإنسان هو في المنفى، يعيش بعيدًا عن أرضه. فكأنّي به يُقتَل يومًا بعد يوم. من يُقتل يموتُ مرّة واحدة، أمّا العائش في الذلّ، في الإهانة، في المنفى، في أشغال العبوديّة، فهو يموت كلّ يوم. والقائد والحاكم يستغلّه كما يستغلّ الإنسان أخاه. وعندما لا يعود ينفع شيئًا، يُرمَى خارجًا. والطلب: أفق، لماذا تنام، يا ربّ؟ ولكن هل ينام الربّ؟ انهض، لا تخذلنا إلى الأبد، ولكن الربّ لا يخذل أحدًا. نفوسنا تمرّغت في التراب وبطوننا لصقت بالأرض. أشغال الفلاحة، أشغال العبوديّة مع الجوع، الإنسان كلّه عائش في الجوع. هل يستطيع المؤمن أن يرجو شيئًا من البشر؟ كلاّ. من الملك؟ لم يعد هناك من ملك. هل يقدّم ذبيحة؛ ولكن لم تعد هناك من ذبيحة. القلب المتخشّع المتواضع هو الذبيحة، وأنت لا ترفضه يا الله.

ولكن هذا الوضع ميئوس منه. من يستطيع أن يخلّص الإنسان؟ لا أحد سوى الله. لهذا قال له: أنت نائم. أمّا الآن فيقول له: قم! ودائمًا عندما يقوم الإنسان، يقف. نحن أمام وقفة النصر، وقفة الفرح، وقفة البهجة، وقفة الغلبة. قم! يكفي أن يقف الربّ فتتبدّل الأمور كلّها. فقم لنصرتنا، يا ربّ، ولكنّنا نحن لا نستحقّ هذه النصرة. ما الذي يدفع الربّ إلى أن يعمل من أجلنا؟ من أجل رحمتك. لأنّك أنت إله يرحم، لهذا تقوم إلى نصرتنا. لأنّك إله تحمل الفداء للبشر. ساعتئذ نفهم أنّك تَنصر مؤمنيك. لا تبيعهم بيع الغنم. لا تحسبهم كغنم للذبح. أنت ما جئت يا ربّ لتذبح خرافك. أنت الراعي الصالح يا من تستعدّ لأنّ تبدّل حياتك من أجل الرعيّة. أتُرى تسمح فترسل غنمك للذبح؟ كلاّ، يا ربّ ثمّ كلاّ. فأنت، يا ربّ، تعطينا النصر، أنت، يا ربّ، تعطينا الفداء، فرحمتك أرفع من السماء ومحبّتك أعلى من الغيوم. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM