مراحل المؤمن أمام المرض

 

مراحل المؤمن أمام المرض

1 - كلام على المستوى الروحيّ

أحبّائي، نتابع قراءة المزمور 38. في المرّة الماضية قرأنا فقط ثلاث آيات. وتأمّلنا فيها ولم نكمِّلها، لأنّ كلام الله أوسع من أن ينحصر في وقت محدّد. بدأنا قراءة هذا المزمور الأبجديّ، الذي يتوزّع على الحروف الأبجديّة. هو من 22 آية، مع المقدّمة يصبح المزمور من 23 آية. ونحن نعرف أنّ الحروف العبريّة هي 22 حرفًا.

عندما يكون المزمور أبجديٌّا، يعتبر المؤمن أنّه قال كلّ ما يمكن أن يقال. لا على المستوى المادّيّ. فالمستوى المادّيّ يعطينا عشرات الآلاف، مئات الآلاف من الكلمات. ولكن على المستوى الروحيّ. هو فتح الطريق، وعلى كلّ مؤمن أن يتابع الطريق.

هذا المزمور الذي قاله مؤمن من المؤمنين في ساعة المرض، يمكن أن يقوله كلّ إنسان. لهذا نقول: المزمور ناقص، المزامير ناقصة، وهي تكتمل عندما يضع كلّ واحد منّا عاطفته فيها. لا شكّ أنّ المسيح هو الذي كمّلها، لأنّ المزامير تحمل كلمات الله. والمسيح هو كلمة الله. ولكن مهمّ جدٌّا حتّى بعد المسيح، حتّى اليوم في القرن الحادي والعشرين، هذا المزمور لم ينتهِ بعد، لم يكتمل بعد. هو يحتاج إلى كلّ واحد منّا لكي يضع حجره في هذا البناء الشامخ، الذي يشمخ يومًا بعد يوم. وهنا سوف نرى مراحل المؤمن أمام المرض. هذا هو عنوان المزمور الذي نقرأ الآن: مراحل المؤمن أمام المرض. ونقرأ المزمور قبل ذلك:

لا تغضب يا ربّ في معاتبتي... فبك أنت خلاصي.

2 - المرض، كلّ مرض

من خلال هذا المزمور، مزمور 38، الذي هو مزمور المرض، نتوقّف في هذا التأمّل، أحبّائي، عند المراحل التي يمرّ فيها المؤمن، عندما يحسّ بالمرض. هذا المرض يصوّره المؤمن، يذكر الجراحَ التي أنتنت وقيّحت، يصف وجعَ العظام. كيف صار ظهره منحنيًا، كيف احترقت خاصرتاه. هي صور عامّة، لا صور خاصّة.

حاول الشرّاح أن يكتشفوا هذا المرض: لن يكتشفوا شيئًا. قالوا هو البرص، لأنّ الناس هربوا منه. في الواقع، كلّ مرض يجعل الناس يهربون من صاحب المرض، يعتبرونه ملعونًا من ا؟. وفي أيّ حال، يذكر بولس الرسول في الرسالة إلى غلاطية أنّه مرض، والناس لم يبتعدوا عنه مع ذلك. كان من حقّهم أن يبتعدوا عنه، ويعتبروا أنّ هذا المرض إنّما هو ضربة من الله ولعنة منه، ويجب أن يبتعدوا عنه.

إذًا، أحبّائي، لا نبحث عن هذا المرض، عن شكله، عن اسمه. وحين نبحث عن مثل هذه الأمور، نضيع المفهوم العميق. المهمّ، في هذا المزمور. هو الإنسان المريض الذي ربط مرضه بخطيئته. فما هي المراحل التي يمرّ بها لكي يعيش هذه الحالة من القلق. نتذكّر أنّ المرض يعني الخطيئة. بما أنّي خاطئ فأنا لا أستحقّ أن أرفع عينيّ وأصلّي إلى الله وذاك كان الأمر الصعب، تلك كانت المسألة عند أيّوب. أيحقّ لي أنا الخاطئ والمريض أن أرفع عينيّ وأن أعاتب الله؟

المرحلة الأولى، المؤمن يشدّد على عمل الله قال له: أنشبْتَ فيّ سهامك، صرتُ كعدوّ لك. والعدوّ يقاتل العدوّ بالقوس والسهام، وإن سقط صاحبنا، يقول: يدك ثقلت عليّ. لم يتركه يرتاح. إذًا، أوّل ما يتطلّع المؤمن، قبل أن يتطلّع إلى نفسه وإلى مرضه وإلى عذابه، يتطلّع أيضًا إلى عمل الخطيئة فيه.

يقول في الآية 4: جسدي غير معافًى. لماذا؟ ألأنّني تعب؟ ألأنّني انتقلت إليّ عدوى؟ كلاّ. لأنّك غضبتَ. إذًا، غضبك هو السبب في أنّ جسدي غير معافًى. ويتابع: عظامي غير سليمة، لماذا؟ حين يتحدّث عن المرض، لا يقول جاء الطبيب ولم يعرف سبب مرضي. كلاّ، فالسبب لأنّي خطئت.

3 - سبقتَ فضربتني

نلاحظ هنا، أحبّائي، في آية 4: جسدي، عظامي، يعني أنا. ثمّ غضبتَ أنتَ، خطئتُ أنا. كأنّي به يقول: غضبك سابق لخطيئتي. أنت غضبتَ لأنّي أنا خاطئ. وإن جاء غضبك وعقابك، فلكي يذكّراني بخطيئتي ويدعواني إلى أن أتوب عنها. الغضب علامة الخطيئة: لأنّي خطئت(آ 2).

ويتابع في آية 5: آثامي. ما زلنا في جوّ الخطيئة. نلاحظ أنّ المؤمن يتطلّع إلى عمل الخطيئة فيه. كأنّي به يجسّمها، لكي يُبعد عن الله كلّ التُهم. نتذكّر هنا في الكتاب المقدّس أنّهم يعتبرون الله أساس كلّ شيء، سبب كلّ شيء، حتّى سبب الخطيئة فيّ، والذي مثلاً جعل فرعون يقسّي قلبه. الله هو الذي دفع داود إلى أن يحصي شعبه، فينال الشعبُ العقاب الذي كان يستحقّه الملك.

ولكن تحوّل الأمرُ، وصار الكتاب يقول: إن كان هناك من دعوة، من تجربة إلى الخطيئة، فالشيطان هو الذي يحرّك. أمّا هنا، فالكاتب تحدّث عن الخطيئة، عن الآثام التي صارت أشخاصًا حيّة، عبرَت فوق رأسه. هنا مهمّ جدٌّا. عبرت. يعني صارت الآثام، كأنّها بحر عميق سقطتُ فيه. صارت الآثام طوفانًا غرقتُ فيه. ما وصل فقط إلى خصري، إنّما ارتفع فوق رأسي. غمرني. لا أستطيع بعد أن أتنفّس، أن أحيا، أن أعيش.

آثامي عبرت فوق رأسي. نتذكّر هنا الصلوات في طقوسنا الشرقيّة عندما يقول المؤمن: إن ارتفعت خطاياي إلى الجبال، إن عبرت خطاياي فوق الجبال، فمراحمك أرفع من الجبال. آثامي عبرت فوق رأسي، ولكنّك تخلّصني كما خلّصت نوحًا من الطوفان، من الموت غرقًا. جسدي غير معافًى. إذًا ضاعت الصحّة، ابتعدت العافية. عظامي غير سليمة، إذًا، هي مريضة. آثامي غرّقتني كحملٍ أثقل ممّا أحتمل.

أنا أحمل آثامي. لهذا السبب يقول في الآية 7: انحنيتُ والتويتُ كثيرًا. من يحمل حملاً ثقيلاً لا بدّ أن ينحني ظهره. تلك هي حالة هذا المؤمن المريض.

ويتابع في آية 6: جراحي أنتنت وقيّحت، يا ربّ، بسبب حماقتي.

4 - مرحلة أولى

نلاحظ، أحبّائي. في البداية قال: أنت يا ربّ بسهامك، أنت يا ربّ بيدك. لكن بعد الآية 4: أنا خطئتُ، آثامي عبرت، جراحي أنتنت، حماقتي هي السبب. لا، الله ليس السبب، بل حماقتي هي السبب. في أيّ حال، بعض المرّات حماقتي تكون السبب في مرضي: عندما يعرّض الإنسان نفسه للمرض وأمور عديدة في هذه الأيّام، وخصوصًا بعض الأمراض التي يستعصي شفاؤها. حماقتي حتّى على مستوى الجسد يمكن أن تسبّب لي المرض، كما يقول المثل: ربّ أكلة منعت أكلات. ربّ تصرّف يصل بي إلى المرض، وربّما إلى الموت. إذًا، جراحُ المرتّل ظهرت. لا شفاء له منها. تلك هي المرحلة الأولى.

المرحلة الأولى كما قلت: بدأ فتوجّه إلى الربّ: لا تغضب يا ربّ. وقال له: أنت أطلقتَ عليّ سهامك، أنت ثقّلت عليّ يدك، أنت غضبت عليّ. ولكنّه يقول له، لا. إذا كنتُ أنا مريضًا، فالخطيئة هي هنا. الآثام هي هنا. الحماقة هي هنا. هل يتوقّف المؤمن عند حالة المرض هذه؟ كلاّ. فتأتي المرحلة الثانية.

5 - مرحلة ثانية

يَلتفت المرتّل إلى ذلك الذي يلاحقه. فيبسط أمامه حالته ويُسمعه زفير قلبه. أحسّ أنّ الله غاضب عليه، أنّ الله ضدّه فلم يبق له إلاّ الصراخ قبل أن يفقد نور عينيه. يقول في آية 7: انحنيت والتويت كثيرًا. انحنى كما قلنا، لأنّه مثقَل بالخطايا.

في آ 3 قال: يدك ثقلت عليّ، يد الربّ ثقيلة عليّ. أمّا هنا فما يثقّل المؤمن، هو خطاياه، آثامه، حماقته. حملٌ ثقيل لا يمكن إلاّ أن يلتوي تحته.

أمشي بالحداد نهارًا وليلاً. كأنّه أمّ ثكلى، أمّ فقدت ابنها، فتاة فقدت حبيبها، فصارت تمشي بالحداد، محنيّة الظهر، نهارًا وليلاً. لا تتوقّف، لا في النهار ولا في الليل. ويتابع المؤمن الكلام عن مرضه. خاصرتاي امتلأتا احتراقًا من الحمّى، جسدي لا عافية فيه.

خائر ومنسحق كثيرًا، وأئنّ من زفير قلبي. يئنّ، يبكي. إلى من يبكي؟ إلى البشر؟ هم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا. لهذا يطلق الصراخ إلى الله. يقول له: أسرع قبل أن أفقد نور عينيّ.

ويتابع في آ 10: يا ربّ، أمامك كلّ رغباتي. لا أطلب شيئًا. لا أرغب في شيء، لا أرغب في الصحّة ولا أرغب في المرض. أجعلُ رغباتي أمامك. كلّ ما أريد أن أفعله أجعلُه أمامك، أنت تقرّر، أنت تفعل. أريد أن تكون رغباتي بحسب مشيئتك، كلّ حياتي. يقول: نُواحي لا أخفيه عنك.

نستطيع أن نقرأ في هذه الآية صورة بعيدة عن يسوع المسيح في بستان الزيتون. قال للآب: لا تكن مشيئتي بل مشيئتك. ولكن هذا لن يمنع يسوع من أن يكتئب، يتألّم، يعرق، ليس عرقًا عاديٌّا، بل عرق دم كما يقول القدّيس لوقا في الإنجيل. مرّات عديدة نقول للربّ: لتكن مشيئتك، ولكن قلبنا لا يمكن إلاّ أن يصرخ، أن يئنّ، أن ينتحب، أن ينوح. والربّ يسمع نُواحنا.

ويتابع في آ 11: قلبي خافق وقوّتي فارقتني، ونور عينيّ لم يبق معي. النور يبقى في العينين ما دام الإنسان حيٌّا، ولكن عندما يموت أو يقترب الإنسان من الموت، يذهب نور العينين. هذا ما يقوله سفر الجامعة عندما يصوّر الشيخوخة: وتُقفل النوافذ فلا يبقى نور في البيت. وحين يثقل المرض وتكثر الجراح وتقوى الحمى، يضيع نور العينين من الإنسان.

6 - مرحلة ثالثة

في المرحلة الثالثة يفهم المؤمن أنّه لا يقدر أن يفعل شيئًا من ذاته، خصوصًا حين يرى الأعداء حوله. بل حين يرى أنّ أصحابه، أحبّاءه، ابتعدوا عنه.

في آ 12: أحبّائي وأصحابي تنحّوا عن نكبتي. مضوا إلى ناحية أخرى بدل أن يأتوا إلى ناحيتي، إليّ، إلى جانبي، أن يجلسوا معي، يتألّموا معي، يصلّوا معي. هم ابتعدوا عنّي، وأقاربي وقفوا بعيدًا لئلاّ تصيبهم العدوى، عدوى الجسد. فهناك أمراض معدية وأخطرها عدوى غضب الله هذا المرض اعتبره الناس نتيجة اللعنة. نتيجة العقاب الإلهيّ: ابتعَدوا عنّي. وطالبُو حياتي نصبوا لي فخٌّا.

تلك حالة المريض الذي في مرحلة أولى أحسّ بعمل الله، ولكنّه ما عتّم أن اكتشف خطيئته. أنّ إلى الله، رفع أنينه إلى الله، خصوصًا حين رأى أنّه لا يستطيع أن يفعل شيئًا. رفع صلاته إلى الربّ، وانتظر من هذا الربّ أن يأتي إليه.

أسرعْ إلى نجدتي يا ربّ، فبك أنت خلاصي. من قلب الشدّة، من قلب المرض، يرفع المؤمن دعاءه إلى الربّ وهو متأكّد أنّ الربّ يستجيب له. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM