الفصل السادس :عبادة النجوم برموزها وأصنامها

 

الفصل السادس

عبادة النجوم برموزها وأصنامها

1- طور عبادة النجوم

أوَّل نشأة الصابئة كانت عبادة النجوم والأجرام العلويَّة وهي أوَّل ديانة وُجدت بعد فساد الدين الحقيقيّ وهذا الفساد قديم العهد يرتقي إلى قبل حدوث الطوفان. وهو ما يدَّعيه أيضًا إلى يومنا هذا الصابئة إذ يقولون إنَّ آدم كان صابئًا وكذلك حوّاء، وسائر الآباء الأقدمين. فهذا الكلام وإن كان لا يخلو من غلوٍّ ظاهر ظهور الصبح لذي عينين، فإنَّه يدلُّنا على أنَّ الصابئة قديمة الوجود. والكتاب الكريم يقول: »وفسدت الأرض أمام الله ومُلئت جورًا« (تك 6: 11). فلا شكَّ أنَّ هذا الفساد لم يكن من جهة الآداب فقط بل من جهة الديانة أيضًا لأنَّ القلب لا يَفسد إلاَّ بعد فساد العقل.

أمّا أنَّ الصابئة بمعنى عبادة النجوم هي قديمة، فالأدلَّة كثيرة. وأوَّل ذلك قدم وجود الوثنيَّة التي يشهد بها آثار الغابرين التي وجدت في هذا القرن من أشوريَّة وبابليَّة وكلدانيَّة وفينيقيَّة ومصريَّة. وكما أنَّ الوثنيَّة هي بنت الصابئة كما سيأتي إيضاح هذه القضيَّة نتج أنَّها أقدم منها.

ثانيًا عند الصابئة الحاليّين أسماء نجوم وأصنام وروحانيّين لم تكن معروفة ألاَّ في عهد القدماء. من بابليّين وأشوريّين وغيرهم ولم يذكرها أصحاب التواريخ المعروفة لكن عثر عليها العلماء في هذه الأزمان في المندرجات والكتابات العاديّات. فنتج من ذلك أنَّ الصابئة الحاليّين حفظوا خلفًا عن سلف تلك الأسماء كما أخذوا عنهم عبادة النجوم من ذلك مثلاً: »بيليت ونيدغل وأنبو وبيلو وشمَش« وهلمَّ جرّا.

ثالثًا المؤرِّخين لسان واحد على أنَّ معنى الصابئة عبادة النجوم أو تعظيم الأجرام السماويَّة.

رابعًا نشأة الصابئة في مهد مجتمع الإنسان قبل تفرُّقه على وجه الأرض وذلك حينما لم يكن يتكلَّم إلاَّ لسانًا واحدًا أو ألسنة قليلة ويُستدلُّ على ذلك من وحدانيَّة اسم الجلالة عند اختلاف الشعوب وتصحيفِه وتحريفه ومن أسماء جميع الأصنام القديمة التي تُردُّ إلى أصل واحد يقرب من الأصل السامي ويُراد به النور أو العلوّ أو مثل هذا المعنى ممّا تتَّصف به الأجرام العلويَّة ممّا يدلُّ على أنَّهم لمّا جهلوا الله الذي لا يُرى سمَّوها بها. ولله اسمان شهيران: »إيل« الساميَّة و»دَيْف« Dev الموهومة عند العلماء سنسكريتيَّة.

ويُحسن(*) بنا أن نورد هنا الألفاظ المشتقَّة من كلٍّ من هذين الحرفين (إيل وديف) وكيفيَّة انتقال معنى هذه المشتقّات إلى أسماء تدلُّ على النور أو السماء أو نحوهما ثمَّ إلى أسماء الأصنام كلُّ أمَّة بحسب معتقدها أو تدرُّجها فيه مسمّيةً بتلك الأسماء أوَّل إله عظيم اتَّخذته بعد إله الحقّ ثمَّ نقلته شيئًا فشيئًا إلى صفاته تعالى ثمَّ حُصرت تلك الصفات في آلهة مختلفة.

وفي ذكرها هذا الاشتقاق فائدة أخرى وهي ادِّعام رأي قدم التوحيد عند جميع أمم المعمور ثمَّ انتقاله إلى الصابئة أو عبادة الأجرام العلويَّة. ثمَّ إلى عبادة تماثيلها تزلُّفًا منها. وهو رأي علماء عصرنا فضلاً عن أنَّه رأي العلماء الأقدمين المستند على كتاب الله العظيم.

أمّا معنى »إيل« و»إل« فقد اختلفت آراء العلماء في أصل اشتقاقه وإن اتَّفقوا في مؤدَّى معناه أي الإله. فمنهم من قال إنَّه غير مشتقّ بل إنَّه أصل ومعناه: القوَّة والقدرة والشجاعة والبسالة. ومنه »الإلّ« بالعربيَّة بمعنى الربوبيَّة أو الإله. ومنهم من قال إنَّه مشتقّ من أصل معناه العُلوّ لأنَّ الكلدان والأشوريّين الأقدمين يقولون »إيلو« بمعنى إيل. وإبدال الهمزة بالعين والعكس بالعكس أمرٌ مثبتٌ مشهور. وعليه فيكون معنى إيل أو إيلو: العليّ أو العالي الربيَّتين. ومنهم من قال إنَّها مشتقَّة من »ألَهَ« المائت اليوم في الأصول الساميَّة ما خلا العربيَّة ومعناه: »عبدَ« ومحصَّله: »المعبود« وذهبت جماعة من المحدثين من علماء الأشوريَّة وغيرها أنَّ أصل اللفظة بادئ بدء هي »أن« باللغة السومريَّة وهي أقدم اللغات عندهم على ما استنتجوه إلى هذا اليوم من قراءة المندرجات المسماريَّة. ثمَّ ضُوعفت وصارت »أنّا« ومن بعد أن كان معناها في الأوَّل الإله صارت في العرف بمعنى السماء ثمَّ نُقلت إلى أسماء آلهة أو أرواح أو أصنام(2).

أمّا الساميّون فإنِّهم أبدلوا نون »أن« بلام وقالوا: »أل وإل وأيْل وإيل وإيلو« والخلاصة إنَّ الآراء كثيرة متشعِّبة لا يسعنا ذكرها. ولإيل اسم آخر عند العبرانيّين

وهو (عليون elion) وهي مشتقَّة من ؟؟؟ العبرانيَّة التي يقابلها في العربيَّة »علا« وهي بمعناها. ومن مشتقّ إيل العبرانيَّة أي ؟؟؟؟ أُلاهة بتثليث الهمزة وإليهة. قال في التاج في ترجمة هذه المادَّة: (هي) »الشمس. غير مصروف بلا ألف ولام. وربَّما صرفوا وأدخلوا فيه الألف واللام وقالوا الإلاهة فكأنَّهم سمَّوها إلاهة لتعظيمهم لها وعبادتهم إيّاها...« ومن هنا ترى أنَّ العرب نقلوا اسم الإله إلى الشمس (وكما أنَّ هذا النيِّر مؤنَّث اللفظ عندهم زادوا التاء في الآخر). ثمَّ بعد ذلك عبدوا الشمس بصورة أصنام مختلفة الهيئات والأشكال فصار من معنى الآلاهة أيضًا: »الحيَّة والأصنام« (القاموس).

وقد سمَّى الفينيقيّون أعظم آلهتهم أو أصنامهم »إل أو إله أو عليون« قال سنكين يتن: »إنَّ إيل الذي يسمِّيهِ الفينيقيّون إسرائيل وهو الذي مات متقمِّصًا للكوكب زُحل...« (راجع تاريخ لبنان للأب مرتين، ص 218، وفي مواطن شتّى). وكان يُسمّي اليونان مينرفة »إيلوتي« أي إلاهتي (فيه ص 250 و218). ثمَّ إنَّ الفينيقيّين عبدوا هذين الجرمَين العلويَّين بهيئة أصنام مختلفة. وقد أخذ اليونان عن هؤلاء أغلب معبوداتهم وممّا يُناسب اشتقاق إيل عندهم iloV وHl وهو زحل عندهم HlioV ويُراد بها الشمس ثمَّ عبدوهما ونحتوا لهما أصنامًا كما فعلت العرب. وحبٌّا بالاختصار نقول: قابل هذه الألفاظ ومشتقّاتها مع جميع ألفاظ الساميَّة ترَ العجب من ذلك. اللهمَّ إلاَّ في اللغات الحبشيَّة فإنَّ هذا الأصل (ا ي ل) لا وجود له بهذا المعنى ولعلَّه قد فُقد. وإذا تتبَّعت كلَّ ما أشرنا إليه تتحقَّق أنَّ الأديان قبل فسادها كانت توحيديَّة ثمَّ صابئيَّة ثمَّ وثنيَّة.

أمّا لفظة دَيف أو دَيْو Dev ou Dew المشهورة في فروع اللغة السنسكريتيَّة بمعنى النور أو السماء فلا شكَّ أنَّه كان يُراد بها بادئ بدء معنى »الإله« ثمَّ نُقل إلى معنى »النور أو السماء« على الطريقة التي ذكرناها. وقول العلماء إنَّ هذه اللفظة لا وجود لها في اللغات الساميَّة فليس عندي بثبتٍ ولهذا قلنا في صدر هذه النبذة: »ولله اسمان شهيران إيل الساميَّة وديف »الموهومة« عند العلماء سنسكريتيَّة. وهذا الحرف موجود في اللغة العربيَّة بلفظة: »ضوء« وبالسنسكريتيَّة دِيف أو دَيف Div ou Dev وفي اليونانيَّة qeoV ثمَّ اشتقُّوا منها ZeuV بمعنى المشتري وفي اللاتينيَّة(3) Deus وفي الزنديَّة والبهلويَّة والفارسيَّة »دَيو« وفي المصريَّة طوط أو ثوث Thout وبالصينيَّة »تي« أو »تيان«. وإذا أردنا أن نستقري هذه اللفظة ومصحَّفاتها في جميع اللغات المتفرِّعة من هذه الأُمَّهات، لتغلغل بنا الكلام إلى ما يضيق به نطاق هذه المحلَّة ويخرجنا عن الموضوع. ولذا اكتفينا بالإشارة عن الاستفاضة في العبارة. لكن ممّا يجب أن ينتبه إليه القارئ هو أنَّ هذه الأسماء المذكورة كلَّها من بعد وضعها للدلالة على ذات الجلالة عينها، نُقلت بعد ذلك إلى معنى النور والسماء ثمَّ إلى الشمس أو إلى إحدى الكواكب ثمَّ إلى تمثيلهنَّ بهيئة الأصنام فلم يَعد معناها عندهم مشهورًا في أغلب الأحيان إلاَّ بمعنى تلك الأصنام.

هذا وإنَّ ما أوردناه هنا هو عن اسمَي الجلالة لا غير. لكنَّنا تتبَّعنا على حدة أسماء الأصنام عند سائر الأقوام فرأينا أغلبها ترجع إلى هذا الأصل أي إلى أنَّها كانت قبلاً أسماء كواكب أو نحوها. وقبل هذا الأصل كانت من صفات الله عزَّ وجلّ أو من أسمائه. أمّا البعض الآخر وهو النزر القليل فقد خفي عنّا وجه ردِّه إلى أصلِه وهو بدون مراء لا يخفى على غيرنا من المتبحِّرين في هذه الموادّ. ثمَّ وإن كانت لا تُردُّ إلى هذا الأصل فبكونها قليلة العدد فلا يُعتدُّ بها.

أمّا الصابئة الحاليّون فقد بقي لهم من هذا الطور أسماء كثيرٍ من روحانيِّيهم أو روحانيّاتهم (هكذا سمَّى العرب المتوسِّطين الذين بين ذي الجلالة والإنسان على ما تخيَّله هؤلاء الصابئة والأدريّون(4) (gnostiques) ويُسمّي الإفرنج هذه الروحانيّات »éons« وهي كلُّها راجعة إلى معنى النور أو شبهه، ولا مريَّة في أنَّ هذه الحقيقة من الشواهد الدامغة الدالَّة على معتقدهم الأوَّل. وإلاّ لو كانوا فرقة نصرانيَّة نشأت في القرون الأولى للمسيح كما يظنُّه البعض فأنّى لهم تلك الأسماء والمسمَّيات. والنصارى على اختلاف مللهم ونحلهم لا يعتقدون بشيء من ذلك. ومن تلك الأسماء مثلاً: أنبوط زيوا. وزُهَير وزَهَرون وشيشلام زيوا وهِيول زِيوا وغيرهم.

ومن بقايا هذا الطور أيضًا تكريم الصابئة الحاليّين للكواكب والنجوم وفي مقدِّمتها السيّارات السبع وبالأخصّ النجم القطبيّ. فإنَّهم لا يتمِّمون سنَّة من سننهم ولا شعيرة من شعائرهم ولا عملاً دينيٌّا من أعمالهم إلاَّ وقُبْلتُهم هذا النجم وإذا أرادوا أن يبنوا بيعتهم جعلوا بابها مفتوحًا بحيث إنَّ وجه الداخل يكون مستقبلاً نجم القطب تبرُّكًا بطلعته. ولهم سُنن أخرى لتكريم الشمس والقمر والزهرة إلخ. وكلُّ ذلك لا يوجد في فرقةٍ من فرق النصارى. ومن آثار هذا الطور أيضًا أعمال كثيرة لا تتمُّ إلاَّ بعد استخارة الكواكب كما كان يفعله قدماء الأشوريّين والكلدانيّين من ولادةٍ وزواج وتطبيب وتقليد الكهنوت ودفن وغير ذلك.

أمّا شواهد المؤلِّفين على أنَّ الصابئة عبدوا النجوم أوَّلاً ثمَّ الأصنام بعد ذلك فهي أشهر من أن تُذكر ولا بدَّ من أن نستشهد في كلِّ طور من الأطوار الأربعة بأقوال الأئمَّة وبالأخصّ بأئمَّة الشرق لقربهم من الصابئة ونشوئهم معهم. قال الشيخ شمس الدين محمَّد بن أبي بكر بن قيم الجوزيَّة في كتابه »إغاثة اللهفان، في مصايد الشيطان«، ما نصُّه:

»أصل هذا المذهب (أي عبادة الأصنام عند الهنود) من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجَّتهم بعلمِه وإلهتهم بيده فطلبوا تحريقه. وهو »مذهب قديم في العالم«. وأهله طوائف شتّى. فمنهم عبّاد الشمس. زعموا أنَّها ملَكٌ (ملاك) من الملائكة لها نفسٌ وعقل. وهي أصل نور القمر والكواكب وتكوُّن الموجودات السفليَّة كلِّها عندهم منها. وهي عندهم ملك الفلك فتستحقّ التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عباداتها أنَّهم اتَّخذوا لها صنمًا بيده جوهرٌ على لون النار وله بيت خاصّ قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنةٌ وحجَبةٌ يأتون البيت ويُصلُّون فيه ثلاث كرّات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلُّون ويدعونه ويستشفون به. وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلُّهم لها وإذا غربت وإذا توسَّطت الفلك. ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبيّ صلعم عن تحرّي الصلاة في هذه الأوقات قطعًا لمشابهة الكفّار ظاهرًا. وسدٌّا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام. وطائفة أخرى اتَّخذت القمر صنمًا وزعموا أنَّه يستحقُّ التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفليّ. ومن شريعة عبادته أنَّهم اتَّخذوا له صنمًا على شكل عجل أو نحوهِ من ذوات الأربع وبيد الصنم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أيّامًا معلومة من كلِّ شهر ثمَّ يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور. فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصواب المعازف بين يديه. ومنهم من يعبد أصنامًا اتَّخذوها على صورة الكواكب وروحانيَّتها بزعمهم. وبنوا لها هياكل ومتعبِّدات لكلِّ كوكب منها هيكلٌ يخصُّه وصنم يخصُّه وعبادة تخصُّه...

»وكلُّ هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام. فإنَّهم لا تستمرُّ لهم طريقة إلاَّ بشخص خاصّ على شكل خاصّ ينظرون إليه ويعكفون عليه. ومن ههنا اتَّخذ أصحاب الروحانيّات والكواكب أصنامًا زعموا أنَّها على صورتها ''فوضعُ الصنم إنَّما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعل الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائبًا منابه وقائمًا مقامه'' وإلاَّ فمن المعلوم أنَّ عاقلاً لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده ثمَّ يعتقد أنَّه إلهه ومعبوده«. انتهى كلام فخر الدين وقد أوردناه بالتفصيل لما فيه من الفوائد الجليلة ولعزَّة وجود الكتاب وجهل الناس هذا الكلام.

2- رموز وأصنام

ممّا مرَّ بك(*) تتحقَّق أنَّ المدَّة التي انقضت بين الانتقال من عبادة الكواكب مباشرةً إلى عبادتها بهيئة الرموز والأصنام لم تكن محدَّدة بل ربَّما كانت متَّصلة بالمدَّة الأولى عند طائفة ومنفصلة عنها ببرهةٍ من الزمان عند طائفة أخرى. وما ذلك إلاَّ للسبب الذي يجده كلُّ عاقل من نفسه وهو السبب الذي صرَّح به المسعوديّ في كتابه مروج الذهب إذ قال: »فأقاموا على ذلك (أي أقاموا على عبادة الله والملائكة) برهةً من الزمان وجملةً من الأعصار حتّى نبَّههم بعض حكمائهم على أنَّ الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئيَّة إلى الله تعالى، وأنّها حيَّة ناطقة، وأنَّ الملائكة تختلف فيما بينها وبين الله وأنَّ كلَّ ما يحدث في هذا العالم فإنَّما هو على قدر ما تجري به الكواكب على أمر الله فعظَّموها وقرَّبوا لها القرابين لتنفعهم. فمكثوا على ذلك دهرًا. فلمّا »رأوا الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجوّ من السواتر أمرهم بعضُ من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصنامًا وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا لها أصنامًا وتماثيل بعدد الكواكب المشهورة. وكلُّ صنف منهم يُعظِّم كوكبًا منها ويُقرِّب لها نوعًا من القربان خلاف ما للآخر على أنَّهم إذا عظَّموا ما صوَّروا من الأصنام تحرَّكت لهم الأجسام العلويَّة من السبعة بكلِّ ما يريدون وبنوا لكلِّ صنم بيتًا وهيكلاً مفردًا وسمَّوا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب«.

ومن عبادة الأجرام بالرموز تعظيمها بهيئة النار وهذا الفرع من الصابئيَّة استقلَّ عن الأصل بعد انفصاله عنه فدُعي بالمجوسيَّة وهذه العبادة متوغِّلة في القدم أي بقدم عبادة النجوم كما يشهد بذلك المؤرِّخون والإخباريّون الأقدمون والمحدثون وهو ما أيَّدته اكتشافات العاديّات في البلاد القديمة. وقد أشار إلى قِدَم عبادة النار بشّار بن بُرْد إذ قال:

الأرضُ سافلةٌ سوداءُ مظلمةٌ والنار معبودةٌ مذ كانت النارُ

وقد قال المسعودي في هذا الصدد ما حرفه: »إنَّه (أي أفرودون الملك) وجد نارًا يعظِّمها أهلها وهم معتكفون على عبادتها فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم في عبادتهم فأخبروه أنَّها واسطة بين الله وبين خلقِه. وأنَّها من جنس »الإلهيَّة النوريَّة« وأشياء ذكروها أعرضنا عن ذكرها لاعتياصها. وذلك أنَّهم جعلوا للنور مراتب وفرَّقوا بين طبع النار والنور. وأنَّ بالنور صلاح هذا العالم وشرف النار على الظلمة ومضادّتها لها ومرتبة الماء وزيادته على النار بإطفائه ومضادَّته لها وأنَّه أصل لكلِّ شيء ومبدأ لكلِّ تمام«.

قلتُ: ومن القول بالظلمة والنور وانتشاره في بلاد الفرس وبقائه فيها على كرور العصور تولَّدت بعد رَدْح من الدهر الثنويَّة الذاهبة إلى أنَّ فاعل الخير هو نور وفاعل الشرِّ هو ظلمة وهما قديمان قديران قويَّان متضادّان. وقد بقي من المجوسيَّة والثنويَّة عند الصابئة الحاليّين تعظيمهم للنار وللرعد والبرق والشُهب والنيازك وسائر الظواهر الجويَّة وكذلك يعظِّمون الماء تعظيمًا يكاد يكون عبادةً إذ ليس من سنَّة من سننهم إلاَّ ومن اللازم اللازب أن يكون فيها الماء والنار. وإلاَّ تمتنع إقامة تلك السنن والشعائر الدينيَّة. ولهذا تراهم لا يقيمون إلاَّ في بلادٍ مبنيَّة على النُهُر ليتيسَّر الحصول على الماء.

ومن بقايا عبادة الأوثان عند الصابئة الحاليّين استعمال عباراتٍ في السحر ومعالجة المرضى وطرد الشياطين على الطريقة المعهودة عند قدماء الكلدان وهي التي عثر عليها علماء الآثار في هذه الأزمان. راجع كتاب لنورمان: تاريخ الشرق القديم، , V, p. 151, 154, 224Hist. anc. de l’Orient LENORMANT, ولولا ضيق المقام لأوردنا كلامه معرَّبًا. وعند هذا العاجز قدَحٌ قديم وُجد في جوار شطرة المنتفق بهِ عبارات وعزائم تشبه العزائم السحريَّة الكلدانيَّة القديمة على ما ذكرها العلاّمة لنورمان في كتابه الآخر المترجم بالسحر عند الكلدان.

وممّا حفظوا من عقائد قدماء الكلدان كيفيَّة تولُّد الآلهة وكيفيَّة خلق الإنسان الأوَّل. فإنَّ كتاب الصابئة الموسوم باسم »سِدرا ربّا« (أي الكتاب العظيم) يقول عيْنَ مقال أولئك الكلدان الأقدمين. راجع كتاب الشرق القديم للعلامة المذكور ص 239-240.

ومن تلك البقايا الوثنيَّة الكلدانيَّة عبادة الصابئة من الفرقة الحرّانيَّة للقمر. فإنَّهم بقوا عاكفين على تلك العبادة إلى نحو غرَّة القرن التاسع عشر. وكانت الصابئة الحرّانيَّة تسمّي هيكل القمر هناك: »هيكل سين« كما هو اسمه عند قدماء اليونان. وقد جاء في التاريخ: إنَّ ماقرينس الإمبراطور الرومانيّ قُتل في ذهابه إلى هيكل سين في حرّان ليقرِّب قربانًا مشهودًا«. وقد جاء عن يوليانوس المارق: إنَّه لمّا وصل إلى حرّان وأراد الخروج منها نكس رأسه ساجدًا لآلهة الحرّانيّين فسقط تاجه عن رأسه وصُرع فرسه الذي كان تحته (ابن العبريّ: تاريخ مختصر الدول. طبعة الأب صالحاني اليسوعيّ ص 139). وقد ذكر العرب هيكل سين في كلامهم عن الصابئة الحرّانيَّة ونجتزئ بذكر كلام واحد منهم. قال المسعوديّ في مروج الذهب: »وقد حكى رجلٌ من ملكيَّة النصارى من أهل حرّان يُعرف بالحارث بن سنبساط للصابئة الحرّانيّين أشياء ذكرها من قرابين يُقرِّبونها من الحيوان ودُخن للكواكب يبخرون بها«. وغير ذلك ممّا امتنعنا عن ذكره مخافة التطويل. »والذي بقي من هياكلهم المعظَّمة في هذا الوقت وهو سنة 332 هـ (934م) بيتٌ لهم بمدينة حرّان في باب الرقَّة يعرف بمصلينا (كذا في النسخة المطبوعة في مصر، وفي مخطوطٍ ''بمينسينا'' وهو الأصحّ عندي. لأنَّ ذلك الهيكل كان يسمّيه اليونان: ''هيكل مين Mhn'' وهو الإله القمر عند يونان حرّان وفريجية في ذلك العهد. و''سين'' هو اسمه باللغة الكلدانيَّة القديمة (فكأنَّ المسعوديّ سمع باسم ذلك الهيكل باليونانيَّة فظنَّه اسمًا مركَّبًا ثمَّ صحَّفه الكتّاب لعجمة الكلمة) وهو هيكل آزر أبي إبرهيم الخليل عم«.

ومن الآثار الوثنيَّة الكلدانيَّة أو الأشوريَّة عند الصابئة الحاليّين أسماء مركَّبة من كلمتين أُولاهما اسم أو فعل وثانيهما اسم الجلالة: »إيل«. وأوَّل من أحدث هذا البناء الكلدانيّون الصابئون وعنهم أخذها الإسرائيليّون. وقد بيَّنتْ صحَّة هذا الرأي مكتشفات هذه الأيّام. ومن تلك الأسماء الكلدانيَّة القديمة: »سين إيلو« (أي بعل إلهي) وأربَع إيلو (وهو اسم أربيل الحاليَّة. وأربيل منحوتة من تلك ومعناها: مدينة أربعة الآلهة(5) وشُمولا إيلو (أي ألا أُحبُّ إيلو هنا) وأبل إيلو (أي أنت ابن إيلو) وأبو إيلو (أي أبوك هو إيلو) ومَنُّو إيلو (المنحوتة من: »منُّو كِمْ إيلو« أي مَن مثل إيلو. فنقل العبرانيّون هذا اللفظ والمعنى فقالوا »ميكائيل« المركَّبة من »مي كَ إيلو« أي: »مَن مثل الله« وبِظُلْ إيلو (أي أنا بظلِّ إيلو) ويوسف إيلو (وأصلها: أبل يوسف إيلو أي: ابن زادهُ إيلو) والصابئة الحاليّون نقلوا هذا التركيب إلى أسماء روحانيّيهم الذين في السماء. لما في اسم إيل أو إيلو من العظمة والجلالة والربوبيَّة فقالوا مثلاً: هيويل (وهو قلب وتصحيف ؟؟؟؟ أي قوَّة ومعناه: الروحانيّ القويّ أو قوَّة الله أو إيل القويّ) وتَقفيل (أي الروحانيّ القدير) ويُوئيل (أي الروحانيّ المُريد) إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره ويصعب حصره.

وختامًا لهذا الطور نقول: لله درّ ابن العبريّ ما أحسن قوله في هذا الصدد وقد ذكر وما ذكر وكأنَّه رأى الأمور البارحة ورواها اليوم إذ قال في الصفحة 266: »والذي تحقَّقنا من مذهب الصابئة أنَّ دعوتهم هي دعوة الكلدانيّين القدماء »بعينها« وقبلتُهم القطب الشماليّ (إلى يومنا هذا) ولزموا فضائل النفس الأربع (حتّى هذا اليوم) و»المفترض« عليهم »ثلاث« صلوات أوَّلها قبل طلوع الشمس بنصف ساعة أو أقلَّ لتنقضي مع الطلوع ثماني ركعات في كلِّ ركعة ثلاث سجدات. والثانية انقضاؤها مع نصف النهار والزوال خمس ركعات في كلِّ ركعة ثلاث سجدات. والثالثة مثل الثانية تنقضي مع الغروب (وهذا كلُّه جارٍ إلى هذا اليوم بحرفِه). والصيام المفروض عليهم: ثلاثون يومًا أوَّلها الثامن من اجتماع أذار وتسعة أيام أوّلها التاسع من اجتماع كانون الأول. وسبعة أيام أولها ثامن إشباط ( لم يغيِّروا من ذلك شيئًا إلى هذا اليوم). يدعون الكواكب (هذا أمر لا يشوبُه ريبٌ) وقرابينهم كثيرة لا يأكلون منها بل يحرقونها. (كلُّ ذلك صحيح). ولا يأكلون الباقلّى والثوم وبعضهم اللوبياء والقُنَّبيط والكرنب والعدس (هذا قد أبطله المُحدثون لإقامة الصابئة الحاليّين في بلاد ليس فيها طعام آخر سوى هذه القطّانيّ). وأقواله قريبة من أقوال الحكماء ومقالاتهم في التوحيد على غاية من التقانة. ويزعمون أنَّ نفس الفاسق تُعذَّب تسعة آلاف دور ثمَّ تصير إلى رحمة الله تعالى«. (وهذا هو نفس معتقدهم إلى هذا اليوم).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM