الفصل الثاني :التعفُّفيَّة أو حركة المتعفِّفين

 

الفصل الثاني

التعفُّفيَّة أو حركة المتعفِّفين(*)

التعفُّفيَّة(1) نزعة واتِّجاه، بدعة ادَّعت أنَّها انطلقت من الكتب المقدَّسة ولاسيَّما من القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى كورنتوس، والأولى إلى تيموتاوس. انطلقت من مبادئ ثنائيَّة حول أصل العالم، فاعتبرت أنَّ العالم المادّيّ (وبالتالي الجسد) هو شرٌّ في ذاته لأنَّه ليس عمل الله السامي، بل عمل خالق »من درجة ثانية«(2) فعل ما فعل دون أن يدري به الإله الساميّ، أو هو عارض هذا الإله السامي.

في هذا الإطار تتوخّى النزعة التعفُّفيَّة أو »الإنكراتيَّة« أن تمنع جميع الناس من الزواج وممارسته الشرعيَّة، كشرط ضروريّ للخلاص. كما تفرض على الجميع بشكل لا يقبل الجدال الإمساك القاسي عن »الأطعمة القويَّة«، كاللحم والخمر. ففي اللحم الحياة، فيه نفس(3).

هي نزعة ترتبط بالغنوصيَّة فتشدَّد تارة على العفّة في الزواج، وطورًا على الإمساك عن الطعام، ولاسيَّما اللحم. نزعة انتشرت فصارت »بدعة« في الربع الأخير من القرن الثاني المسيحيّ، وهي تعتبر في الشرق أنَّ مؤسِّسها هو تاتيان السوريّ(4) الذي كان من تلاميذ ولنطين(5) في ما يتعلَّق بأصل العالم. وكان من المتعفِّفين في ما يتعلَّق بالزواج. وتميَّزَ بشكل خاصّ بمقال يُنكر فيه خلاص آدم.

في حديثنا عن هذا النزعة وهذه البدعة، نتوقَّف عند محطَّتين: لمحة تاريخيَّة مع ذكر شخصيّات طَبعت التعفُّفيَّة بطابعها. تعاليم هذا التيّار الذي امتدَّ عميقًا في تاريخ الكنيسة.

1- لمحة تاريخيَّة عن التعفُّفيَّة

بدأت التعفُّفيَّة تيٌّارًا من التيّارات المسيحيَّة، وجدَ أصولَه في أسفار العهد الجديد، وامتدَّ في زمن الآباء الرسوليّين. ولكنَّه ما عتَّم أن صار بدعة من البدع، وهرطقة سوف يحاربها الآباء إلى أن يقتلعوها من الكنيسة.

أ- في العهد الجديد

نجد نقطة الانطلاق في النداء إلى العفَّة مع إنجيل متّى. جاء الفرّيسيّون يجرِّبون يسوع، فسألوه: »هل يحلُّ للرجل أن يطلِّق زوجته لأيِّ سبب؟« وبعد أن أجابهم يسوع عائدًا بهم إلى الابتداء حيث يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيصير الاثنان جسدًا واحدًا، ذكر »الخصيان الذين خَصوا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات«. وأنهى كلامه: »فمن استطاع أن يحتمل (أن يفهم) فليحتمل«. بهذا الكلام تحدَّث يسوع وبعده متّى الإنجيليّ (19: 1-12) عن رجال دفعهم العمل في ملكوت السماوات إلى أن لا يتزوَّجوا، أن يمتنعوا عن الزواج فيعيشوا العفَّة طوال حياتهم على مثال الخصيان الذين وُلدوا خصيانًا من بطن أمَّهاتهم، أو خصاهم الناس، فما عادوا يستطيعون أن يمارسوا الزواج.

لا تُفهَم فكرةُ الامتناع عن الزواج إلاَّ في إطار إسكاتولوجيّ، في انتظار مجيء الربّ. في هذا الإطار نفهم كلام بولس الرسول في 1 كو 7: 25ي، حول غير المتزوِّجين والأرامل: »وأمّا العذارى، فليس عندي فيهنَّ وصيَّة من الربّ... فدونكم إذن ما أظنُّه حسنًا بسبب الضيق الحاضر«. ما يفكِّر فيه بولس هنا هو المحن التي تسبِّبها العائلةُ للإنسان في أمانته للمسيح. قد تكون انفصالات وشقاق بين أفراد العائلة الواحدة (لو 12: 51-53). ويتابع القدّيس بولس كلامه: »أأنت مرتبط بامرأة، فلا تطلب الفراق. أأنت غير مرتبط بامرأة، فلا تطلب امرأة (أي لا تتزوَّج). على أنَّك إن تزوَّجت فلا تخطأ. ولكن أمثال هؤلاء ستكون مشقَّة في الجسد وأنا أشفق عليكم« (أو: أنا أريد أن أعفيكم من هذه المشقَّة).

ويعطي بولس الرسول السبب: »غير المتزوِّج يهتمُّ بما للربّ كيف يُرضي الربّ. وأمّا المتزوِّج فيهتمُّ بما للعالم، كيف يرضي امرأته. فهو متجزِّئ. وكذلك المرأة غير المتزوِّجة والعذراء تهتمّان بما للربّ، لتكونا مقدَّستين جسدًا ونفسًا. وأمّا المتزوِّجة فتهتمُّ بما للعالم، كيف تُرضي رجلها« (1 كو 7: 32-34). وجعل بولس المؤمنين في إطار من السهر، ودعاهم إلى أن لا يغرقوا في الاهتمامات الدنيويَّة من بيعٍ وشراء وامتلاك وفرح وبكاء. ووضعَ في هذه الخانة الزواج، حيث الرجل »يمتلك« امرأته. إنَّ »هيئة العالم إلى زوال«، فاتركوا كلَّ هذه الظواهر وتعلَّقوا بالجوهر. والجوهر هو أن نكون للربّ. وكيف كان هو للربّ؟ حين عاش البتوليَّة(6) في رسالته، فلم يكن له »أخت (أي زوجة) كسائر الرسل« (1 كو 9: 5). هذا لا يعني أنَّ عدم الزواج يصل بالإنسان مباشرة إلى القداسة على المستوى الأخلاقيّ، وكأنَّ الحياة الجنسيَّة في الزواج هي خطيئة. فلسنا نحن أمام موقف سلبيّ كما قال المتعفِّفون أو الإنكراتيّون، بل أمام موقف إيجابيّ يقوم بأن يتكرَّس الإنسان نفسًا وجسدًا، أي بكلِّيَّته، لخدمة الربّ.

وهناك نصّ بولسيّ آخر استند إليه المتعفِّفون ليمتنعوا عن الزواج وسائر الأطعمة. هذا الاتِّجاه القديم في الكنيسة والذي يعود إلى ما قبل المسيحيَّة، هو الذي انبثق من تيّار غنوصيّ قبل الغنوصيَّة يغرز جذوره في عالم الشرق. هذا الاتِّجاه شجبه بولس بقساوة. فقال في 1 تم 4: 1-5: »والروح يقول صريحًا: إنَّ بعضًا سيرتدُّون عن الإيمان، في الأزمنة الأخيرة، ليتبعوا أرواحًا مضلَّة وتعاليم شيطانيَّة، بعد أن تاهوا برياء أناس كذبة وُسمت ضمائرهم بالحديد المحمّى« (كالعبيد). لماذا؟ »هم يمنعون عن الزواج وعن أطعمة خلقها الله لكي يتناولها في شكر المؤمنون والعارفون بالحقّ. فكلُّ ما خلقه الله هو صالح، ولا شيء يُطرَح بعيدًا إن تناولناه بالشكر. فكلمة الله والصلاة تقدِّسانه«.

قد نكون في خطٍّ يهوديٍّ يحرِّم بعض أنواع الأطعمة التي تُعتبَر نجسة بحسب الشريعة. وكان جواب بولس أنَّ المسيح حمل إلينا الحرِّيَّة في هذا المجال (كو 20: 23؛ تي 1: 13-15). ولكن حين جمع الرسول الزواج والطعام، أفهمَنا أنَّنا بالأحرى أمام أوساط تأثَّرت بالغنوصيَّة، أو هي استندت إلى قول يسوع المسيح عن حالة القائمين من الموت الذين »لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كالملائكة في السماء« (مر 12: 25). أتُرى القيامة حصلت، كما قال بعض المبدعين (2 تم 2: 18)؟ أمّا في ما يتعلَّق بممارسة الزواج، فبولس أعطى نصيحة للمتزوِّجين الذين يريدون أن يعيشوا في العفَّة الزوجيَّة: »لا يمنع أحدكما الآخر عن ذاته، ما لم يكن عن موافقة، وإلى حين، لأجل التفرُّغ للصلاة. ثمَّ عودا إلى ما كنتما عليه، لئلاَّ يجرِّبكما إبليس« (1 كو 7: 5). قد يكون هؤلاء المؤمنون تأثَّروا بما في العالم اليهوديّ الذي كان يمنع الكاهن من ممارسة الزواج مع امرأته قبل ممارسة الأسرار(7)، فامتنعوا عن ممارسة الزواج. ولكن في النهاية، ستأخذ هذه »العفَّة« ثأرها، وتقود المؤمن إلى »عدم العفَّة«: لا يستطيع أن يضبط نفسه فيزني، كما يقول الرسول. وحتّى هذا الامتناع الموقَّت، يعتبره بولس تساهلاً وتسامحًا من قبله، لا أمرًا (1 كو 7: 6).

أجل، كانت نزعة ملتبسة في أيَّام الرسول تتساءل: هل يحقُّ للمؤمن أن يواصل العلاقات الزواجيَّة بعد المعموديَّة؟ هل يحقُّ له أن يتزوَّج من جديد إن ماتت امرأته؟ كان جواب بولس: لا شكَّ في أنَّ البتوليَّة والعفَّة اللتين نمارسهما من أجل هدف دينيّ، تسموان على الزواج، ولكن ليس من شريعة تستطيع أن تفرضهما على الجميع كما فعل المتعفِّفون. إنَّها قضيَّة شخصيَّة، وثمرة موهبة خاصَّة من الله. فقال بولس: »غير أنَّ كلَّ واحد له موهبة خاصَّة، للواحد هذه وللآخر تلك« (1 كو 7: 7). للمتزوِّج والمتزوِّجة موهبة. وللبتول وللعفيف موهبة.

وفي الرسالة الأولى إلى تيموتاوس، شدَّد بولس على أنَّ »المرأة تخلص بالأمومة« (2: 15). وهي لا تكون أمٌّا إن لم تتزوَّج. بل هو طلب في آخر حياته، بعد أن خبر الحياة المسيحيَّة في مختلف الكنائس، وفهم أنَّ مجيء المسيح سيتأخَّر، طلب من »الأرامل الصبايا أن يتزوَّجن من جديد، ويلدن البنين، ويدبِّرن البيوت، ولا يعطين للمقاوم سببًا للطعن« (5: 14). والمقاوم قد يكون الشيطان نفسه. كما يكون تجسيدًا لأعداء المسيحيَّة الذين يرون أنَّ هؤلاء الأرامل اللواتي امتنعن عن الزواج »انحرفن إلى اتِّباع الشيطان« (آ15). هذا على مستوى العفَّة. وعلى مستوى الحياة المسيحيَّة بشكل عامّ، »يتعلَّمن لبطالتهنَّ الجولان في البيوت، ولا ينصرفن إلى البطالة فحسب، بل إلى الهذر أيضًا« (آ13).

وعلى مستوى الطعام والشراب، سيقول بولس لتيموتاوس »أن يأخذ قليلاً من الخمر بسبب معدتك وأمراضك المتواترة«. وهكذا لا يكون »شرابه بعد الآن الماء فقط« (1 تم 5: 23). بما أنَّ كلمة الله التي قيلت في بداية الخليقة باركت كلَّ طعام »فصار حسنًا جدٌّا« (تك 1: 31)، وبما أنَّ الصلاة التي يتلوها المؤمن تبارك كلَّ ما يستعمله (1 تم 4: 5)، وبما أنَّنا إن أكلنا أو شربنا يكون أكلنا وشربنا لمجد الله (1 كو 10: 31)، شرط أن لا يعثر اليهوديّ ولا الوثنيّ، يبقى علينا أن لا نسمع »الخرافات المبتذلة وقصص العجائز« (1 تم 4: 7)، ونفهم أنَّنا نَنقض عمل الله من أجل طعام، حين لا نعتبر أنَّ »كلَّ شيء طاهر«(8) (رو 14: 20). لماذا لا نأكل لحمًا؟ لماذا لا نشرب خمرًا؟ قد نراعي ضمير إخوتنا ولا نجعلهم يعثرون. ولكنَّ الحرِّيَّة التي نلناها في المسيح تُفهمنا أنَّ كلَّ شيء لنا، ونحن للمسيح، والمسيح لله.

ب- مع الآباء الرسوليّين

رغم هذا الموقف المتشدِّد الذي اتَّخذه بولس الرسول، سوف نرى هرماس يلتزم العفَّة بعد أن تلقّى إيحاءاته. منذ ذلك الوقت، عاش مع امرأته كالأخ مع أخته. قال له المتكلِّم: »أوصلْ هذه الأقوال إلى جميع أبنائك وإلى شريكة حياتك التي ستكون لك بعد اليوم أختًا. فهي لا تسود على لسانها، وبهذا تسلك سلوكًا رديئًا. ولكنَّها تسود عليه وتنال الرحمة بعد أن تسمع هذه الأقوال«(9). وتساءل الكاتب: هل كان هرماس إنكراتيٌّا؟ ولاسيَّما أنَّنا نقرأ في الرؤى أيضًا: »خصوصًا إذا كان هرماس المتعفِّف الذي يمتنع عن كلِّ رغبة رديئة، الذي هو مملوء بساطة تامَّة وبراءة (عدم شرّ) عظيمة«(10). وكان الجواب أن »إنكراتيا« تحتلُّ عنده مكانة رفيعة. فنحن نقرأ في الرؤى أيضًا: »من الإيمان يلد المتعفِّف (أو العفَّة). ومن العفَّة البساطة. ومن البساطة البراءة. ومن البراءة القداسة. ومن القداسة العلم. ومن العلم المحبَّة. أعمالها نقيَّة، مقدَّسة، إلهيَّة«(11).

وبعد ذلك الوقت بقليل، نرى القدّيس ديونيسيوس الكورنثيّ يُعطي نصائح حول الزواج والعفَّة إلى كنيسة أماستريس وكنائس البنطس. أورد رسالتَه أوسيب القيصريّ في التاريخ الكنسيّ(12). وتابع فقال: »ويُضاف إلى هذه الرسائل رسالة إلى مؤمني كنوسوس فيها حرَّض ديونيسيوس أسقف كنيسة بينيوتوس، بأن لا يفرض على الإخوة عبء العفَّة الثقيل، كضرورة واجبة، بل أن يأخذ بعين الاعتبار ضعف العدد الكبير من الناس«(13). وهكذا نجد تحذيرًا لهذا الأسقف الذي بدا وكأنَّه يفرض العفَّة على المؤمنين، على عدد كبير(14)، لا على قلَّة قليلة. أمّا بينيتوس فامتدح الأسقف ديونيسيوس على تحريضه فدلَّ على أنَّه اقتنع(15) بما قال له أسقف كورنتوس القدّيس.

كان بينيتوس إنكراتيٌّا. وسنجد النزعة عينها حتّى عند بعض المعلِّمين القدّيسين. يكفي أن نذكر هنا كتاب جيروم ضدّ يوفنيان الذي وصل إلى رومة فزرع الشكّ في القلوب، لأنَّه بدا وكأنَّه يحرِّم الزواج ويفرض على الجميع البتوليَّة وكأنَّها فرض واجب(16). في الواقع، أراد جيروم أن يردَّ على ملفٍّ جمعه بورفير حول الإمساك، فأصاب في الصميم مثالاً هو أبعد ما يكون عن البتوليَّة المسيحيَّة. غير أنَّ جواب جيروم جعل أصدقاءه في موقع حرج، فتجنَّبوا نشر الكتاب وطلبوا منه أن يشرح موقفه، ففعل في الرسالتين 48 و49 من رسائله(17).

إنَّ هذا الاتِّجاه في الدفاع عن البتوليَّة والعفَّة، عندما يتَّخذ منحًى مطلقًا يصبح بدعة، بل هرطقة حقيقيَّة ترتبط من قريب أو بعيد، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالحركات الغنوصيَّة، لأنَّها تعتبر عمل الخلق وكأنَّه شرّ. ولكن قبل أن نصل إلى الهرطقة، نتوقَّف بشكل خاصّ عند القرنين الثاني والثالث بما فيهما من نزعة إلى الضلال.

فخبرُ نشر هذا التعليم المتشدِّد هو خبر ظهور النظم الغنوصيَّة ونموّها. كلُّها انطلقت من المبدإ الواحد: الخليقة ليس صالحة. ليست عمل الإله الساميّ. وهكذا آلت النظم الغنوصيَّة عمليٌّا، إلى نتائج متضاربة. فهناك الغنوصيّون الذين يعيشون الفلتان الأخلاقيّ، الذين يقولون إنَّه يجب أن لا نعبأ بالجسد ومتطلِّباته، بل يستسلم الإنسان إلى غرائزه دون أيِّ قيد يقيِّده: فالذهب الذي ترميه في تلَّة من القمامة يبقى ذهبًا. والشرارة الإلهيَّة الموجودة فينا تبقى شرارة مهما انغمس الإنسان في الدعارة. وهناك الغنوصيّون المتقشِّفون الذين علَّموا الناس بأن يكبحوا الشهوات، أن يكبحوا اللحم والدم.

نستطيع هنا أن نستعيد الخلاصات الأخلاقيَّة لممثِّلي الغنوصيَّة السريانيَّة مع ساتورنيل، والغنوصيَّة الإسكندرانيَّة مع باسيليد وابنه إيزيدور وولنطين وهرقليون وبطليموس. والغنوصيَّة الآتية من تيّارات أخرى مثل »النحشيّين« أو أصحاب الحيَّة (رج في العربيَّة حنش) والشيتيّين الذين ارتبطوا بشيت الشخصيَّة الكبرى في عالم نجع حمّادي. والفيراتيّون تلامذة أفراتس الفيراتي (يعني: الفراتي. وربَّما »الغريب«).

أمّا ساتورنيل، ابن أنطاكية (القرن 1-2 ب.م.) فتحدَّث عنه إيرينه. اعتبر أنَّ الإنسان دودة لا تستطيع أن تقف على »رجليها«. أرسلها إليه الله شرارة حياة. عند الموت، تعود الشرارة إلى الخالق وتنحلُّ عناصر الإنسان. امتنع تلاميذه عن اللحم. واعتبروا الزواج والإنجاب عمل الشيطان(18).

وباسيليد كان من أوَّل المعلِّمين الغنوصيّين الكبار (القرن الثاني). نصح بالامتناع عن الزواج دون أن يفرضه. أمّا ابنه إيزيدور فدرس بالتفصيل الحالات التي يُسمح فيها بالزواج(19). وكذلك ولنطين الذي أطلق حركة الغنوصيَّة منذ القرن الثاني والذي نعرفه من خلال ما أورده الآباء عنه. وكان بطليمس من أوَّل تلاميذه، وكذلك هرقليون.

هذا على مستوى الأدب اليونانيّ. أمّا في العالم السريانيّ فوُلدت حركة سُمِّيت »أبناء العهد« و»بنات العهد«. بفعل المعموديَّة، كان على المؤمن أن يعيش حياة البتوليَّة والعفَّة وهو في العالم. فإن كان عازبًا ظلَّ كذلك. وإن كان متزوِّجًا عاش مع امرأته كالأخ مع أخته. نحن هنا أمام امتداد لما قاله بولس في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »ليكن الذين لهم امرأة كأنَّ لا امرأة لهم، والذين يبكون كأنَّهم لا يبكون...« (7: 29-30). وبعبارة أخرى، ليحافظ المؤمن على الحالة التي كان فيها حين دُعي (7: 17).

في هذا المجال، دعا كتاب المراقي الكمّال إلى التجرُّد المطلق: يتخلَّون عن العائلة والزواج ليعيشوا في العفَّة والبتوليَّة. يتخلَّون عمّا يملكون وعن كلِّ علاقة بالعالم. »يخلصون من كلِّ شرّ ويصومون عن العالم وشهواته«(20). وقال في العظة الخامسة عشرة التي عنوانها »شهوة الجماع التي كانت بآدم«: »فالكاملون هم الذين ما اتَّخذوا زوجات، ولا عملوا في الأرض ولا اقتنوا، وليس لهم في الأرض مسند رأس حسب قول معلِّمهم. فالأبرار والصدِّيقون عملوا في الأرض وأحيانًا بلغوا إلى الكمال، إذا زهدوا وتقدَّسوا. ومنهم من التزم البتوليَّة فتعظَّموا تعظيمًا«(21). ونقرأ في الفصل عينه: »فالرسل إذا ماتوا عن أجسادهم في هذا العالم، صاروا مع ربِّنا«(22).

هذا الخطّ اتَّبعه عدد من آباء الكنيسة السريانيَّة، ونحن نكتفي بذكر فيلوكسين المنبجيّ في مواعظه التي دوَّنها في نهاية القرن الخامس ب.م. نورد هنا عبارتين فقط: »أنا لا أقول إنَّ الذين هم في العالم لا يمكن أن يُبرَّروا، بل أقول إنَّه لا يمكنهم أن يبلغوا الكمال«. وزاد: »لأنَّ العالم، أي برّه وبرّ الشريعة التي تمارَس فيه، هو معارض للكمال«(23).

ويقابل فيلوكسين بين برِّ الشريعة وبرّ المسيح. برّ الشريعة يرتبط بخيرات هذا العالم، المادّيَّة كالغنى، والأدبيَّة كالعائلة، والدينيَّة كالتقادم التي نرفعها إلى الله. أمّا برُّ المسيح فهو الذي يرتبط فقط بشخص المسيح بادئًا بتقشُّف العائشين في البرِّيَّة(24).

أمّا الأبيونيّون الذين كانوا في القرن الثاني، والكسائيّون (ارتبطوا ب »الكساي«) الذين هم حصيلة تلاقي المسيحيَّة المتهوِّدة المهرطقة والغنوصيَّة بما فيها من تلفيق (القرن 3-4)، والمندائيّون (رج مندع أي المعرفة)، فيشدِّدون بشكل خاصّ على الإمساك عن الطعام. والمندائيّون بشكل خاصّ علَّموا أنَّ يوحنّا المعمدان كان في الأصل عازبًا، فتلقّى من السماء أمرًا بأن يتزوَّج. وهكذا نكون أمام ردَّة فعل ضدّ الرهبان والمتنسِّكين الذين حماهم أباطرة القسطنطينيَّة مضطهدي المندائيّين.

وجاءت »إنكراتيَّة« مرقيون أقسى من إنكراتيَّة سائر الغنوصيّين، مع أنَّ تعليمه لا يتوقَّف إلاَّ عند التعارض بين إله العهد الجديد، الإله الصالح، وإله العهد القديم الذي هو طاغٍ متسلِّط. وأعلن أنَّ المادَّة هي شرٌّ مطلق، وكذلك الخليقة. لهذا منع الزواج. فإن أراد الزوجان أن يقتبلا العماد الذي يُدخلهما في كنيسة المرقيونيَّة، وجب عليهما أن ينفصلا(25). ويرى ترتليان في كتابه ضدَّ مرقيون أنَّ مرقيون هو أكبر عدوٍّ للزواج. قال: »عنده (أو عند مرقيون)، لا تُعمَّد امرأة إن لم تكن عذراء، أرملة، عازبة، أو تشتري المعموديَّة بالطلاق... مثل هذا النظام يستند إلى شجب الزواج«(26) الذي هو فساد وزنى كما قال إيرينه(27). لم تكن الرتب »البيعيَّة« المرقيونيَّة مؤلَّفة من الرجال فقط، بل من النساء أيضًا. أمّا المعموديَّة فكان يقوم بها النساء فقط. ويبدو أنَّ مرقيون كان أوَّل من منع استعمال الخمر في ممارسة الأسرار المقدَّسة.

هذا في القرن الثاني. أمّا في بداية القرن الثالث، فاتَّخذت الغنوصيَّة منحًى باطنيٌّا، وتوجَّهت إلى المنضوين تحت لوائها، فتعلَّقت بديانة تسيطر فيها العبارات والطقوس السحريَّة. هذا ما نكتشفه في مؤلَّفات اكتُشفت في اللغة القبطيَّة مثل »الإيمان الحكمة«(28). غير أنَّ الاتِّجاه التعفُّفي ظلَّ حاضرًا. فيسوع يتوسَّل إلى تلاميذه بأن يتخلَّوا عن المادَّة لئلاّ يُنموا المادة التي فيهم. أمّا المثال فالبتوليَّة التي لا عيب فيها. »ولا يستطيع الناس أن يشاركوا الرسل في امتيازهم إلاَّ إذا تخلَّوا مثلهم عن الكون (كوسموس) وهمومه ورغباته«(29).

أمّا أكبر ممثِّل للاتِّجاه التعفُّفيّ في القرن الثالث، فهو ماني(30). بشَّر بثنائيَّة متشدِّدة جدٌّا، فعلَّم أنَّه كان في البدء كائنان متعارضان: الله مبدأ الخير، والمادَّة مبدأ الشرّ. وفي يوم من الأيّام، اكتشفت المادَّةُ النور الإلهيّ وأرادت أن تستولي عليه. وإذ لم يكن لله شرٌّ به يقاوم المادَّة، أرسل إلى لقائها »النفس« التي امتزجت بها، ولمّا تفلَّتت منها ماتت. حينئذٍ كلَّف الله قوَّة أخرى، الإله الخالق، بأن يخلِّص هذه النفس فيقوم بخلق العالم. وهكذا لا يتوخَّى الخلق كلُّه إلاَّ بأن يخلِّص جوهر النفس المسجون في المادَّة.

ونزل »المسيح الروحيّ« على الأرض، وحاول أن يحرِّر النفس. لهذا، وجب على المادَّة أن تهلك. من أجل هذا، فرضَ ماني على تبّاعه تعفُّفيَّة متشدِّدة، واعتبر أنَّ الاختلاف بين الجنسين يعود إلى »مملكة الظلمة السفلى«. وتتلخَّص أخلاقيَّة المانويّين في ثلاثة أختام: »ختم الفم«، أي الامتناع عن اللحم (على الأقلّ للكمّال)، وتحريم الخمر الذي هو »سمُّ أمير الظلمة«. ثمّ »ختم اليد« أي تحريم قتل كلِّ كائن حيّ. في هذا المجال، أخذ ماني بالتقمُّص، واعتبر أنَّ من قتل حيوانًا أو قطع غصن شجرة، كان كأنَّه يقتل إنسانًا، لأنَّ نفسًا من النفوس قد يكون حُكم عليها أن تعيش في هذا الحيوان أو في هذه الشجرة. وأخيرًا »ختمُ الصدر« أو تحريم الزواج(31).

د- الهرطقة التعفُّفيَّة

بعد هذه النظرة الواسعة إلى الاتِّجاهات الإنكراتيَّة، نتساءل عن أصول هذه البدعة، هذه الهرطقة، كما يراها دارسو الهرطقات من إيرينه إلى ترتليان فهيبوليت...

حوالى سنة 180 تحدَّث إيرينه، أسقف ليون (في فرنسا)، وهو تلميذ بوليكرب، تلميذ يوحنّا الحبيب، عن الإنكراتيّين على أنَّهم أناس متشدِّدون على مستوى الأخلاق. على أنَّهم غنوصيّون يرتبطون بتاتيان حول إنكار خلاص ناله آدم. الإنكراتيّون هم في الأصل مجموعة غنوصيَّة تحلَّقت حول تاتيان وأخذت الأفكار الغنوصيَّة المتشدِّدة التي نادى بها ولنطين وساتورنيل ومرقيون. قال إيرينه:

»وهكذا مثلاً، أناس يستلهمون ساتورنين (أو: ساتورنيل) ومرقيون، ويسمَّون إنكراتيّين، أعلنوا رذل الزواج وتخلَّوا عن عمل الله، واتَّهموا بالتواءٍ ذاك الذي صنع الرجل والمرأة من أجل الإنجاب. وأعلنوا الإمساك عن كلِّ ما هو حيّ، وأنكروا جميل الإله الذي خلق كلَّ شيء، وأنكروا أيضًا خلاص الإنسان الأوَّل«(32).

أمّا الفصل العشرون من كتاب ترتليان حول الهرطقات، فهو لا يتكلَّم إلاَّ عن تاتيان ولا يربط به الإنكراتيّين(33). ونذكر أيضًا فيلسترس (من براشيا)، وإبيفان (من سلامينة في قبرص) اللذين يتحدَّثان عن تلاميذ أياريوس، الذين يستسلمون إلى إمساكات ملتبسة. أمّا كليمان الإسكندرانيّ في الفصل الثالث من موشَّياته، فلم يربط التعفُّفيَّة بتاتيان بل بباسيليد ومرقيون. ويورد أوسيب القيصريّ في التاريخ الكنسيّ (4/28) أنَّ »موسانوس« دوَّن كتابًا ووجَّهه إلى إخوة يميلون إلى بدايات الهرطقة الإنكراتيَّة. كما أورد في 4/29 ما قاله إيرينه عن الإنكراتيّين وتاتيان.

كلُّ هذه الملاحظات تعرض التاريخ القديم للإنكراتيَّة. ولكنَّ القدّيس إبيفان الذي دوَّن كتابه عن الهرطقات سنة 377-380، فاعتبر التعفُّفيَّة هرطقة معاصرة. واعتبر باسيليد أنَّ هذا التيّار بدأ يُقلق رؤساء الكنائس، وهو يتطلَّب من سلطة الإمبراطور محاربته. تحدَّث إبيفان عن شخص يُدعى ساوير، وعن تلاميذه، »الساويريّين« الذين هم في الحقيقة من المتعفِّفين: ثنائيَّة أصل العالم، تحريم الزواج الذي هو »عمل الشيطان«، تحريم اللحم، تحريم الخمر حتّى في الاحتفال بالقدّاس واستعمال الماء فقط. استعمال الأسفار المنحولة، وحظر من أسفار العهد القديم. وتحدَّث ساوير عن أصل الكرمة والذين خلقوا الرجل والمرأة.

وننهي هذا القسم التاريخيّ بذكر رسالتين من القدّيس باسيل (188 و199) تعودان إلى سنة 374-375، وتدلاَّن على اتِّساع الهرطقة التعفُّفيَّة. أعاد القدّيس أسقفين مالا في هذا الاتِّجاه إلى الكنيسة. باسيل يعتبر أنَّنا أمام حركة تسير بموازاة الكنيسة دون أن تنفصل عنها. ولكنَّ الإنكراتيّين كانوا في الحقيقة كنيسة منظَّمة لها أساقفتها مثل »أوجان« أسقف اللاذقيَّة، الذي سمّى نفسه »رئيس أساقفة« الشعب الذي يلبس المسح. لهذا سيحاربها الإمبراطور تيودوز في قرار أعلن في حزيران سنة 428: منع اجتماعاتها كما منع اجتماعات المانويّين. بل منع »المتعفِّفين« من الإقامة داخل المملكة الرومانيَّة.

2- تعاليم المتعفِّفين

ذاك هو تاريخ بدعة المتعفِّفين منذ انطلاقتها في زمن العهد الجديد، حتّى زوالها بشكل نهائيّ في القرن الخامس المسيحيّ. وذكرنا العديد من الأسماء والتيّارات الغنوصيَّة، وكان بالإمكان أن نذكر أوستات(34)، ذاك الأسقف الأرمنيّ على سبسطية (+ 377) الذي عُرف بتقشُّفه فاعتبروه من المتعفِّفين، أو هياركا(35)، أسقف ليونتوبوليس في مصر الذي وُلد حوالى سنة 300، فرأس هنا بدعة إنكراتيَّة. وكان بالإمكان أن نذكر الإجراءات القانونيَّة، مثل القوانين الرسوليَّة، ومجمع براغا (في البرتغال)، ومجمع عنفاريس (في تركيّا)، وما فعله كليمان الإسكندرانيّ في حربه ضدّ هذه البدعة.

ولكنَّنا نتوقَّف عند هذا الحدّ، ونتطرَّق في قسم ثانٍ إلى تعاليم جماعة المتعفِّفين أو الإنكراتيّين. نبدأ بنقطة الانطلاق، ثمَّ نتوغَّل في معتقدات تبدو في العمق على هامش تعليم الكنيسة وممارستها، لولا الحديث عن خطيئة آدم.

أ- نقطة الانطلاق

إنَّ نقطة الانطلاق في النزعة الإنكراتيَّة هي ثنائيَّة تعود في العمق إلى الفلسفة الأفلاطونيَّة الجديدة، فلسفة أفلوطين (205-270) الذي شدَّد على الواحد الذي هو فوق كلِّ شيء ومنه تصدر جميع الكائنات، فتأثَّر به آباء الكنيسة وعدد من المفكِّرين في القرون المسيحيَّة الأولى. كان أفلاطون قال: إنَّ النفوس كانت في الأصل متَّحدة باللاهوت. فأُرسلت إلى العالم لكي تكفِّر عن خطيئة اقترفتها وهي أنَّها نسيت أن تتأمَّل الخير. فصار الجسد للنفس عنصر بلبلة واضطراب. صار الجسد سجن النفس حسب المقولة الشهيرة(36). غير أنَّ النفس تستطيع أن تتنقّى من كلِّ ذلك بالحياة الفلسفيَّة، وبالتالي تفلت من دورة الولادات المتكرِّرة. وقال أفلاطون: إنَّ أوَّل دخلة النفوس إلى الأجساد كانت عمل الآلهة الأدنين الذين أوكلهم »الإله الفاطر«(37) بتكوين الأجساد. والبلبلة (أو الفوضى) التي حصلت باتِّحاد النفس والجسد، أدخلت الشرَّ إلى الإنسان. غير أنَّ الإنسان يستطيع أن يسيطر على شهواته بالتربية التي ينالها والعقل الذي يوجِّهه. فإن لم يتوصَّل إلى ذلك، خضع لسلسلة من التحوُّلات المتعاقبة.

وانطلق الأقدمون من فلسفة أفلاطون فأعطوها التفسير التالي: المادَّة هي سبب الشرّ لأنَّها عمل الخالق. وهكذا أثَّرت هذه الفلسفة على الفكر الإسكندرانيّ الذي اعتبر الجسد تلَّةً من الوحل، ونجاسة للنفس، وينبوعَ كلِّ الشرِّ الذي فيها. وفسَّر أفلوطين هذا الكلام فقال: إنَّ الشرَّ موجود في ذاته كواقع جوهريّ: فالمادَّة هي التي تجعل الطبيعة الجسديَّة شرّيرة. وتصبح النفسُ فاسدة حين تمتزج بالجسد.

لهذا يُفرض التقشُّف والتنسُّك المتشِّدد: هو تجرُّد لا يشفق فيه الإنسان على ذاته. تجرُّد يقطع كلَّ محسوس فيه (كما يُقطَع الغصنُ اليابس من الشجرة)، لأنَّه يُعتبر العائق أمام كلِّ تقدُّم، يُعتبر العدوّ. وبقدر ما تتحرَّر النفس من المادَّة بممارسة الفضائل ولاسيَّما الإمساك والعفَّة، تنضمُّ إلى المبدإ الإلهيّ الذي هو شرارة منه، وهكذا تبلغ إلى النشوة والاختطاف.

أمّا بلوترك الكاتب اليونانيّ (50-125 ب.م.) فدوَّن مقالات أخلاقيَّة، وقال بضرورة مبدأين: لا شكَّ في أنَّ الله هو الخالق، ولكنَّه لم يخلق المادَّة التي تتوسَّل إلى »خالق العالم«(38) أن يعيد تنظيمها وهي ناقصة وضعيفة. قال في كتابه عن الحرِّيَّة: »الخليقة... هي بالأحرى ردَّة فعل الوحدة الإلهيَّة التي تسعى لتَثبت ولتحافظ على نفسها تجاه العنصر المُعادي الذي يشكِّله المحدود المتقلِّب«(39).

واعتنق الغنوصيّون ولاسيَّما مفكِّري الإسكندريَّة، الفلسفة الأفلاطونيَّة حتّى الكلف. فبدت لهم المعرفةَ الخاصَّةَ التي يعتبرون أنَّهم نالوها من الإلهيّات، بل من الله نفسه، والتي ينسبونها إلى تلميذ أحد الرسل الذي ينقلها إليهم بشكل مباشر، أو يعلنون أنَّهم وجدوها مكتوبة في وريقات بفضل العناية الإلهيَّة. بدت هذه المعرفة لاهوتًا رفيعًا يقدِّم الشروح حول الإله الذي لا يُدنى منه، حول الإله النقيّ بشكل لا محدود بحيث لا يستطيع أن يلامس المادَّة إطلاقًا. هو لاهوت رفيع يتفوَّق تفوُّقًا لا يُضاهى على الإرشادات الصغيرة »المضحكة« التي تقدِّمها الأناجيل. فالغنوصيّون يعلِّمون كلُّهم أنَّ المادَّة والعالم المنظور الذي هو تعبير عن هذه المادَّة، ليسا عمل الإله الساميّ، بل عمل »إله خالق« هو واحد من هذه الكائنات (كان عازبًا، أو ذكرًا وأنثى) التي هي انحطاط للاهوت. هو إله من درجة دنيا، وعملٌ بمعزل عن الإله الساميّ أو ضدَّه، لهذا وقف عملُه ضدَّ الإله الساميّ، فكان بالتالي شرّيرًا في ذاته.

ب- نتائج هذه النزعة

أمّا النتائج فنستطيع أن نستخلصها بشكل مباشر. يجب أن ننشر عمل الإله الخالق ولا ننمِّيه. إذن، نمتنع امتناعًا مطلقًا عن الزواج الذي هو شرٌّ بذاته، بل هو الشرُّ كلُّ الشرّ. والزواج الشرعيّ يستحقُّ اللوم، شأنه شأن الزنى والدعارة، لأنَّه قبول منظَّم ومشرَّع لعمل شائن وفضيحة. وعنُفت إنكراتيَّة بعض الغنوصيّين بشكل خاصّ، ففرضوا على الزوجين أن ينفصل الواحد عن الآخر كشرط مسبق للدخول في جماعتهم. كذا كان موقف مرقيون.

والمعرفة الغنوصيَّة أمرٌ لا بدَّ منه للبنفماتيّين، للغنوصيّين أنفسهم الذين ينفخهم الروح، فلا بدَّ منه لكي يخلصوا. وسوف يتَّهم الذين هاجموا الهراطقة، هؤلاء الغنوصيّين أو أولئك لأنَّهم اكتفوا بهذه المعرفة، وما عادوا يعيرون اهتمامًا لمتطلِّبات النظام. فقالوا إنَّ الغنوصيَّة هي ديانة أشخاص مميَّزين، بلغوا إلى مستوى الروح (بنفما)، لا ديانة عامَّة الناس. وفُرضت العفَّة على »النفسيّين« (بسيخيّين، من بسيخي yuch، النفس). فإن لم يمارسوها لن يدركوا الخلاص. تقف الكنيسة الكاثوليكيَّة على هذا المستوى، وهي لا تصل بالتالي إلى مستوى الروحيّين أو البنفماتيّين. ويبقى »الهيوليّون« أو المرتبطون بالمادَّة وبالخليقة المنظورة. هم سائر البشر الذين لا يستطيعون أن يرتفعوا على مستوى النفس (بسيخي)، وبالأحرى إلى مستوى الروح (بنفما). حُكم عليهم بالهلاك، ولن ينجوا منه مهما فعلوا.

ويُطلب من المتعفِّفين الانقطاع عن »الأطعمة القويَّة«، عن اللحم والخمر، اللذين يلعبان دورًا في إعطاء القوَّة والنشاط للعمل الشرّير الذي هو عمل الله الخالق. وهكذا فرضت النزعة الإنكراتيَّة على معتنقيها بأكل البقول وبشرب الماء لأسباب عقائديَّة ملتبسة(40). وتوغَّلت بعض البدع ذات النزعة الإنكراتيَّة في عمق مبادئها، فاستعملت فقط الخبز والماء في الاحتفال بسرِّ الإفخارستيّا. واستبعدت الخمر. ربط بعضُ المتحايلين هذه الممارسة برغبة في الاعتدال. أمّا المدافعون عن الأرثوذكسيَّة فشدَّدوا على تعارض هذه الممارسة مع ما فعله يسوع ليلة العشاء السرّيّ، ودلُّوا بالتالي على الطابع المشبوه لمثل هذه العقيدة. ونلاحظ بشكل خاصّ جماعة عادت بشكل غير مباشر إلى الممارسات اليهوديَّة. وإذ أرادت أن تقدِّم للربِّ محاصيل الأرض، على ما كان يفعل الآباء الأوَّلون، استخدمت في القداس الخبز واللبن الرائب. لا اللبن الحليب فقط.

وإذ أراد المتشدّدون أن يبرِّروا التعاليم الإنكراتيَّة، كانوا يربطونها بإيحاءات خاصَّة. ويرى محاربو البدع أنَّ هؤلاء الزهّاد المتشدِّدين استعملوا عددًا من الاسفار المنحولة(41) مثل »أعمال الرسل« أو »أناجيل« أو »رؤى« على مثال رؤيا يوحنّا. ووجد المتعفِّفون في هذه الكتب أقوالاً تجسَّدت تجسُّدًا ملموسًا في أشخاص انتقلوا فجأة من الوثنيَّة إلى الإنكراتيَّة المطلقة. فما إن سمعوا التعليم الجديد حتّى انقلبت حياتهم وصاروا رسلاً يريدون أن يربحوا الكون لعقيدتهم الجديدة. ذاك هو الوضع في ما يخصُّ »دروسيانا« التي نقرأ عنها في أعمال يوحنّا(42). و»تقلا« في أعمال بولس(43). و»مكسيميليا« في أعمال أندراوس(44)، و»مقدونيا« و»ترثيا« في أعمال توما(45). هذا لا يعني أنَّ مثل هذا الأدب وُلد في أوساط مهرطقة. فقد نكون أمام مسيحيَّة شعبيَّة حاولت أن تقدِّم مثالاً بعيدًا عن كلِّ مساومة أو تراخٍ على مستوى الحياة المسيحيَّة.

ونذكر في هذا المجال الكتابات الغنوصيَّة التي اكتشفت سنة 1945 في نجع حمّادي في مصر. نذكر إنجيل المصريّين وإنجيل الحقيقة وحكمة يسوع المسيح... وكلُّها تعود إلى الأوساط الولنطينيَّة، فتُقدِّم لنا بحثًا يختلف عمّا في الأناجيل، وتحدَّثنا عن ديانة باطنيَّة ووحي خاصّ يتعدَّى المتعلِّقين بالتيّار الغنوصيّ.

بالإضافة إلى كلِّ هذا، نعرف أنَّ النزعة الإنكراتيَّة لا تتوافق مع العهد القديم، بل هي ترذله كلَّه بسبب مقاله في البداية: »انموا واكثروا واملأوا الأرض« (تك 1: 27-28؛ 2: 24). أمّا العهد الجديد فلا يرذلونه كلَّه، بل يقتطعون منه كلَّ ما يمتدح إله العهد القديم، كلّ ما يشدِّد على بشريَّة يسوع. فالإنكراتيَّة تتوافق مع الظاهريَّة التي تعلن أنَّ يسوع لم يتَّخذ جسدًا حقيقيٌّا، بل ظاهر الجسد، ولهذا فهو ما تألَّم ولا مات. بل هي تفترض الظاهريَّة: بما أنَّ الجسد شرٌّ، فلا يمكن أن يكون يسوع أخذ جسدًا حقيقيٌّا، بل أخذ ظاهر الجسد. وليس المسيح هو الذي مات على الصليب، بل شخص يشبهه. قد يكون سمعان القيرينيّ. ويرفض المتعفِّفون قيامة الأجساد. فالقيامة تمَّت، وهي تقوم بأن نؤمن بالتعاليم الغنوصيَّة. وبما أنَّ الجسد شرّير، فهو لا يستطيع أن يستعيد الحياة.

وهكذا نستطيع أن نلخِّص الضلالات التي تتضمَّنها النزعة الإنكراتيَّة بما يلي: ثنائيَّة إله الخير وإله الشرّ، الإله الساميّ والإله الخالق، لكي يشرحوا مسألة الخلق. تحريم الزواج وانقطاعات عن بعض الأطعمة. فرضُ العزوبة على الجميع كشرط للخلاص. عودة إلى أسفار منحولة مطبوعة بالطابع الغنوصيّ. رذل العهد القديم وتلاعب بالعهد الجديد لكي يتوافق مع تعاليمهم. تعليم ظاهريّ حول تجسُّد المسيح وموته وقيامته، وبالتالي رفض لقيامة الجسد الذي لا يستحقُّ أن تعود إليه النفس مرَّة ثانية.

3- بدعة تعفُّفيَّة

بعد أن ذكرنا الطريق التي سارت فيها هذه النزعة حتّى القرن الرابع، نتوقَّف عندها كبدعة حاربها الآباء كما حاربوا سائر الهرطقات في الكنيسة. كان إيرينه أسقف ليون (فرنسا) قريبًا من الأحداث، فدلَّ كيف تبلورت حول شخص تاتيان(46). وستحدِّثنا »كرونيكة أوسيب«، كيف انفصل تاتيان عن الكنيسة، وكيف ظهرت الهرطقة في تعليمه. وحسب إيرينه وهيبوليت الرومانيّ، اقترب من ولنطين النهج الذي أخذ به تاتيان لكي يفسِّر أصل العالم. لا نجد في أيِّ مكان صورة عن هذا النهج. ولكن قد نكون أمام ميتولوجيّا تتحدَّث عن كائنات متزاوجة، عن »إله ثانٍ« خَلق الكونَ دون أن يدري به الإله الساميّ، عن مسيح لم يتَّخذ جسمًا حقيقيٌّا.

واحتفظ لنا كليمان الإسكندرانيّ في موشَّياته(47) مقطعًا إنكراتيٌّا يعود إلى كتاب تاتيان الكمال حسب المخلِّص حيث يعرض الاتِّحاد بين الرجل والمرأة على أنَّه »إحاطة الجسد بالفساد«، وعلى أنَّ الشيطان هو محرِّكه. تلاعب تاتيان مع 1 كو 7: 5، فكتب: »إذن، يتوافق القبول المتبادل مع الصلاة. غير أنَّ الاتِّحاد بالفساد يحطِّم الصلاة. وهكذا، يجعل (الرسول) الصلاة مستحيلة بمساومته بشكل مشين جدٌّا: فحين سمح للزوجين بأن يعيشا معًا بسبب الشيطان واللاعفَّة، أعلن بوضوح أنَّ من يطيع يتوجَّب عليه أن يخدم سيِّدين: الله إن كان هناك من توافق. وإن لم يكن من توافق، اللاعفَّة والدعارة والشيطان«. ويبدو أنَّ تاتيان فرض في هذا الكتاب، كقاعدة للحياة النسكيَّة، اقتداءً مطلقًا بعفَّة المسيح. لأنَّ الزواج هو شرّ. والحياة الزوجيَّة تسلِّم الزوجين إلى الشيطان.

في الخطبة إلى اليونان(48) التي جعلها تاتيان برنامج تعليمه في رومة، أو خطبة افتتاح مدرسته التي أسَّسها في الشرق، نكتشف نزعة تحمل القلق إلى النفوس. فالإنسان هو خليقة اللوغوس (الكلمة) السماويّ. أغوى أبوينا الأوَّلين أوَّلُ الملائكة وأذكاهم، فأعلناه إلهًا. عند ذاك خسر الإنسان الخلود كما خسر الروح (بنفما) الذي كان فيه. ودلَّت »الخطبةُ« على تحرُّر من المادَّة. وسمّي الشياطين انعكاسًا للمادَّة وللشرّ. والخلاص بالنسبة إلى الإنسان يقوم بأن يستعيد »الروح« الذي خسره وأن يحقِّق »التزاوج« حسب الله كما أقامه مشروع الخالق الأوَّل. ولا يستطيع الإنسان أن يكون إنسانًا حقٌّا إلاَّ إذا انفصل عن المادَّة التي تجتذبه إليها. وهكذا لا نجد حديثًا عن عمل الفداء الذي قام به ابن الله، بل غنوصيَّة ضروريَّة للخلاص. وبدت ممارسة العفَّة الشيء الوحيد الذي يستحقُّ المديح. ويُروى عن تاتيان أنَّه دلَّ على احتقاره لامرأة رومانيَّة وضعت ثلاثين ولدًا، فصُنع لها تمثال. قال عنها إنَّها وصلت إلى ذروة اللاعفَّة، وشبَّهها بخنزيرة ولود.

وأعلن أصحاب الهرطقة الإنكراتيَّة احتقارهم للزواج. فهناك ساوير، سلف تاتيان بحسب إبيفان(49) أو خلفه بحسب أوسيب القيصريّ في التاريخ الكنسيّ(50). كان يحتقر المرأة احتقارً تامٌّا، لأنَّها كلَّها خليقة الشيطان. الإنسان هو عمل مبدإ صانع حتّى الحزام. وبعد الحزام هو خليقة الشيطان، والاتِّحادُ بين الجنسين هو الشرُّ في حدِّ ذاته.

ونعرف يوليوس كاسيان عبر مقطعين وردا عند كليمان الإسكندرانيّ وجيروم. ففي مقاله »حول العفَّة« أو »حالة الخصيان«، بيَّن أنَّ الاختلاف بين الذكر والأنثى لا يعود إلى الله، وإلاَّ لما طوَّب الربّ الخصيان. الاختلاف يعود بالضرورة إلى الشيطان. وأورد كلام المسيح لصالومة كما ورد في إنجيل المصريّين. وذلك ليُسند رأيه: »ستعرف صالومة على ماذا تسأل المخلِّص حين تدوس برجليها ثوب الحشمة، وحين يصير الاثنان، الذكر والأنثى، واحدًا، وساعةَ لن يوجد ذكر ولا أنثى«(51). وقال كليمان الإسكندرانيّ إنَّ كاسيان هذا كان ظاهريٌّا (دوساتيٌّا) في معتقده.

وأعطى جيروم نموذجًا عن التأويل الإنكراتيّ في رسالته إلى غلاطية(52). فسَّر كاسيان غل 6: 8ب (من زرع في جسده، حصد من الجسد الفساد). فكتب: »إنَّ زرعَ أحدٌ في الجسد، فالحصاد الذي يستخرجه من الجسد هو الفساد. والذي يتَّحد بامرأة يزرع في الجسد. إذن، من يتعامل مع امرأة ويزرع في جسدها، يستخرج الفساد من هذا الجسد«. أجل، الإنسان يحصد ما زرع. فإنَّ ظلَّ على مستوى الأرض، لن يقطف إلاَّ الأرضيّ ويخسر السماء. أمّا إن دخل الروحُ إلى أعماله، فهو يقطف الحياة الأبديَّة.

لا شيء جديدًا في كلِّ هذا، لأنَّ التشدُّد على مستوى الطعام والشراب والمعاطاة مع الزواج، كان أمرًا معروفًا في الكنيسة ولاسيَّما الشرقيَّة منها. وكما تهرَّب هؤلاء المتعفِّفون من اللحم، كذلك تهرَّبوا من الخمر بحيث إنَّ ساوير جعل من الكرمة ثمرة الاتِّحاد مع أرض الشيطان الذي هو ابن الأركون العظيم. إذن، يُحرَّم الخمر لأنَّه من الناحية الميتافيزيقيَّة سيّئ رديء.

مثل هذه الأخلاقيَّة المتنسِّكة جعلت الإنكراتيّين يرفضون من تجمُّعهم كلَّ الساقطين. سواء الذين سقطوا في خطيئة الجسد، أو جميع الذين اقترفوا خطيئة مميتة. وهكذا تفرَّع عن التعفُّفيَّة بدعةٌ بنت بدعة، هي بدعة الآدميّين الذين يجتمعون عراة كما كان آدم هو وحوّاء من أجل أعمال »العبادة«. وما كانوا يقبلون في اجتماعهم من سقط في الخطيئة. »فآدم« الذي أكل من ثمر الشجرة يجب أن يُطرَد من الفردوس الأرضيّ أي من كنيستهم. والمرأة في هذا الإطار لا مكانة لها إلاّ كقطعة من الرجل. وهي لا تستطيع أن تخلص إلاَّ إذا اختفت وراء الرجل. هذا إذا استطاعت أن تخلص. نحن هنا في خطٍّ »يهوديّ« نرى أثره في رسالة القدّيس بولس الأولى إلى كورنتوس: »ليس الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل. وفي الواقع، لم يُخلق الرجل لأجل المرأة، بل المرأة لأجل الرجل« (11: 8-9). ولكنَّ بولس أعاد التوازن في الآية التالية: »فكما أنَّ المرأة هي من الرجل، كذلك الرجل هو بالمرأة، وكلّ شيء من الله« (آ12). هذا يعني أنَّهما واحد. إنَّ الواحد لا ينفصل عن الآخر في الربّ، لأنَّهما كلاهما »على صورة الله ومثاله« (تك 1: 26).

خاتمة

تلك هي التعفُّفيَّة التي كانت نزعة في الكنيسة ولاسيَّما الشرقيَّة منها بتأثير أوَّل جاءها من عالم الهند، وتأثير ثانٍ حملته الغنوصيَّة إلى الكنيسة الأولى التي قابلت بين يوحنّا المعمدان الذي »لا يأكل ولا يشرب«، وبين المسيح الذي يأكل ويشرب الخمر (مت 11: 18-19). رأت في هذا الممارسة خطَّين تمكن ممارستُهما من دون أن يفرض واحد رأيه على الآخر. وقال بولس الرسول في ذلك: من لا يأكل لا يدين من يأكل، ومن يأكل لا يحتقر من لا يأكل (رو 14: 3). ونقول الشيء ذاته عن الزواج أو عدم الزواج. فموقف كلّ إنسان يبقى سرٌّا بينه وبين الله. فالزواج سرّ لا يمكن للمؤمن أن يحتقره. والاتِّحاد بين الرجل والمرأة هو كاتِّحاد المسيح بالكنيسة. هو سرّ عظيم، كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أفسس، فإذا كان الإنسان يمجِّد الله بالبتوليَّة، فهو يمجِّده أيضًا بالزواج.

كان التيّار التعفُّفيّ نزعة واتِّجاهًا داخل الكنيسة أو على عتبة الكنيسة. ولكنَّه ما عتَّم أن صار بدعة وهرطقة فلاحقته السلطة الكنسيَّة، كما السلطة المدنيَّة ساعة اتَّخذ تيودوز قرارًا يمنعهم من التجمُّع، بل يمنع وجودهم في مملكته كلِّها. هم صاروا خطرًا على شريحة واسعة من أبناء الكنيسة، ولاسيَّما في تفسيرهم للكتب المقدَّسة يأخذون ما يروق لهم ويتركون الباقي. ويفسِّرون النصوص كما يشاؤون من أجل إسناد تعليمهم الذي يرتبط في أصله بنظرة خاطئة إلى الإنسان الذي هو مخلوق على صورة الله ومثاله. الذي ليس نفسًا في جسد، بل نفس وجسد متِّحدان. بل، كما يقول بولس نفس وجسد وروح. فإن كان الجسد يجعلنا على مستوى العالم الماديّ، فالنفس تجعلنا على مستوى الكائن الحيّ. والروح يرفعنا إلى مستوى الله، يشركنا في روح الله فنصبح أبناء الله. أحدر الغنوصيّون ومعهم المتعفِّفون الله، فقسموه بين إله سام يتنكَّف من الاتِّصال بالبشر وإله أدنى يتَّصل بالخليقة والمادَّة والشرّ. أمّا الإنجيل فرفع الإنسان كلَّه، نفسًا وجسدًا، إلى مستوى الله. قال الآباء: صار ابن الله إنسانًا ليجعل الإنسان ابن الله. فلا يبقى لنا بعد ذلك سوى أن نطلب من الله أن نرى عيانًا ما نعيشه في الإيمان منتظرين تجلّي هذه الحقيقة التي نعيشها يومًا بعد يوم، حين يُفتدى الجسد وتُعتق الخليقة من عبوديَّة الفساد، عبوديَّة الخطيئة لتبلغ »إلى حرِّيَّة مجد أبناء الله« (رو 8: 21).

1 ترجمة مٍَّىُّفْكَ التي تعود إلى اليونانيَّة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فىمُّفْكَ أي العفَّة.

2 مهِّْىٍم تعود إلى اليونانيَّة َُّهُِّْىٍم أي خالق العالم. وهو في نظر أفلاطون مثلاً أدنى من الإله الساميّ.

3 ؟؟؟؟؟؟ فوكٌٍَِّّ

4 َمىُّفش (120-173) صاحب الدياتسّارون أو من خلال الأربعة أناجيل، والخطبة إلى اليونان.

5 َىَُّمٌفض غنوصيّ من أصل مصريّ (+ 160). حاربه إيريناوس أسقف ليون في فرنسا، وترتليانس المدافع عن العقيدة في قرطاجة (أفريقيا الشماليَّة).

6 نشير بالنسبة إلى بولس إلى خطّين تأويليّين: خطّ يعتبره تزوَّج على ما كان يفعل كلُّ رابّي الذي يُفرض عليه أن يكون متزوِّجًا وتكون في يده مهنة. ويسندون قولهم إلى 1 كو 7: 8 حيث يقابل بولس نفسه بالعزّاب والأرامل فيقولول: إمّا ترك بولس امرأته لأنَّها لم ترضَ بالحياة معه، وإمّا ماتت. والرأي الثاني الذي هو الرأي التقليديّ يعتبر أنَّ بولس كان عازبًا ولم يرد أن يتزوَّج 'لكي يكون كلاٌّ للكلّب.

شخ مٌ ،مٌٌمٌَُِّّ .لبر ،مٌقى فٌ مم .َُّْة (شدجزا .ذ ُّم ازدا .ء .ْىل), َّمِّّىٌَُُُِّّف َّمُُّّْمٌ َّمج ،3 .ٌٌُّ (1977 ،َّىْفذ), .18-17 .ِ

7 نشير إلى أنَّ هذه العادة ما زالت موجودة في عدد من الأوساط الشرقيَّة. فالكاهن يحفظ نفسه من التعامل مع امرأته إذا كان سيحتفل بالذبيحة الإلهيَّة في اليوم التالي.

8 رج أع 10: 15: 'ما أعلنه الله طاهرًا، فلا تدعُه أنت (يا بطرس) نجسًاب.

9 راعي هرماس، (الرؤى 1/5: 3) .91 .ِ ،1958 ،نْم ،عجدت .ز .ُّْ .َُّْى ،53 س ،ِّْمَُّّفذ مج ،سءحزب

10 المرجع نفسه، ص 83 (1/2: 2). نجد هنا لفظة َّىُّفًَْ

11 المرجع نفسه، ص 121 (3/16: 7).

12 كك مْىَُُّّىب ،؟زءس؟ ؟سص (1952 ،َّىْفذ ،عزء .ا .ُّْ ،31 س), 204-203 .ِ (4/23, 6)

13 المرجع نفسه، ص 204 (4/23: 7).

14 نجد في النصِّ اليونانيّ .ٌٌَُُذ

15 لهذا السبب جعل إيرونيموس السقف بينيتوس بين 'الرجال العظامب الذين تحدَّث عنهم.

16 ضة ،مٍَّىكىٌُوُّف َى ،َّمُّىُّفْكَ ،عزء .ا (1956 ،َّىْفذ), .113 .ٌُك

17 ةةةض .ُّ ،.ْىِس مل .ُّكى َى ،مٍلمحْبرت ،شخدحدةزا .ت (1974 ،َّىْفذ), .914 .ٌُك .كبرَِّ ،918-901 .ٌُك

18 كتاب المراقي، عرَّبه عن السريانيَّة الخوري فرنسيس البيسريّ (المطران)، منشورات المكتبة البولسيَّة، ص 57 (4: 4). ظة .ُّ ،.ْىِس مل .ُّكى َى ،ٍِِّّلفْه ْمقىج ،شخدحصءججةصا .ء (1976 ،َّىْفذ), .751 .كبرِس .754-749 .ٌُك

19 المرجع نفسه، ص 169. نشير هنا إلى أنَّ كلمة 'قداسةب تعني في هذه الروحانيَّة أوَّل ما تعني العفَّة والبتوليَّة.

20 المرجع نفسه، ص 170

21 ،شخدحدةزا .ت 'هُِّققفح مل مَيمٌٍُّىوذ مل َّمىٌبرٍُب َّمج» 23 .ْمذ .و .ْد ،مَّىفيمَفْن َُىَّْمٌّ َم هُِّققفح مل مَيمٌٍُّىوذ :مََمىٌّْس برُّىٌفُِّّىْىِس ،ززبسصءب .ة ْىٌُّ ؛426 .ِ .كبرَِّ ،432-419 .ِ ،1957 ،2 ،َمىٌّْس َُّمىْد َى (1957), .185-171 .ِ

22 ،خةدحج . «هُِّققفح مل مَيمٌٍُّىوذ مل برُّىٌفُِّّىْىَِّ فج» .357 .ِ ىكة .366-351 .ِ ،1957 ،2 ،َمىٌّْس َُّمىْد َى

23 هناك 'السيمونيّونب تلامذة سيمون الساحر وسيمون الجتّي الذي هو غنوصيّ من القرن الأوَّل المسيحيّ. والنيقولاويّون الذين ذكرهم سفر الرؤيا (2: 6-15) الذين فصلوا النفس عن الجسد واعتبروا أنَّهم يستطيعون أن يعملوا خارجيٌّا (مثلاً: تقديم البخور للأصنام) دون أن تتأثَّر روحهم. والمرقسيّون، تلامذة مرقوس الذي كان معلِّم برسيليانس. والكربوكراتيّون، تلامذة كربوكراتس ابن الإسكندريَّة، الذي أعلن أنَّ الإيمان يكفي، وأنَّ لا قيمة للأعمال بالنسبة إلى الخلاص. والأوفيّون أو أصحاب الحيَّة (أوفيس في اليونانيَّة) الذين اعتبروا أنَّ شرارة المعرفة التي سُجنت في الإنسان تتيح له أن يرتفع إلى النور.

24 ،عزصء .ب .ا 'َِّّىْىَُِّّْفس ُِّ ٌىَُُّْفسب ةةةظ .ُّ ،مٍَّىكىٌُوُّف َى (1993 ،َّىْفذ), .1211-1210 ،ضةظ .وُّف .ٌُموش مل .ُّكى ْىُض .848 .ٌُك

25 رج إكليمنضوس الإسكندرانيّ، الموشَّيات 3/1: 1-3.

26 َُىكْفح مَُُّْ ،خةججصشزش (1990 ،َّىْفذ ،365 س), 239 .ِ ،َِّفْ .ز .ْش .َُّْى (29

: 1)

27 15 .1 ،357 ،264 س = 1 ،28/1 .ْمفب .ٌّلء ،؟خ؟زة

أمّا النظام الذي يتحدَّث عنه ترتليانس هنا فهو نظام الكنيسة المرقيونيَّة.

28 'فىوُِس َّىَُّّىذب 5 .ٌٌُّ ،.ُّكى مٌقى ُْوكَف َى (1992 ٌّفلمٌقُِّ), .376-375 .ِ

كودكس يتضمَّن مقالات غنوصيَّة.

29 المرجع نفسه، ف 28: تساؤلات مريم الصغيرة.

30 رج ماني والمانويَّة، المسرَّة، 83 (1997)، ص 90-108.

31 ،خدج .ا 'مٍَّىُّفْكَب ضة .ُّ ،.ْىِس مل .ُّكى َى (1960 ،َّىْفذ), .637-636 .ٌُك ىكة .642-628 .ٌُك

32 إيريناوس، الكتاب المذكور سابقًا، ص 355 (1/28: 1).

33 َّمِّّىُّبرْبرو َّمٌ مَُُّْك َُىُِّىْكَّمِْ فٌ مل برُّىفْش ،خةججصشزش (1956 ،َّىْفذ ،46 س), .113-112 .ِ ،مٌٌُىْقف مل ذ .ُّْ

34 ،شخدحدةزا .ت 'مَُّّفقبرس مل موُّفَُِّّّب, ضة .ُّ ،.ْىِس مل .ُّكى َى (1961 ،َّىْفذ), .1709 .ٌُك ىكة .1712-1708 .ٌُك

35 'َّىٌَُُُُِّبرج مل َّفًفْمىبب ضةظظ .ُّ ،.ٌكك .ُبرا مل ُّم .َُّّىبحل ُّكى َى (1993 ،َّىْفذ), .394 .ٌُك

36 سوما خ سيما: فٍلمحس (الجسد) فٍبرس (القبر).

37 مهِّْىٍبر يأتي بعد الإله الساميّ.

38 الشرّ هو واقع عرضيّ. لا يوجد في ذاته وإلاَّ كان إلهًا تجاه الإله الواحد. هناك إنسان شرّير، عمل شرّير. وفي كلِّ خليقة مهما كانت شرّيرة، قيس من الصلاح لأنَّ الله خلقها، وهو الذي أحسن في جميع ما صنع.

39 .270 ،1929 ،َّىْفذ ،مُّْىقْف مْقىٌ ِّ ،مٌٌٍِّدحل لُوُّمٍ ،سازءئ .ت

40 هنا نذكر رو 14: 2: 'من الناس من يعتقد أنَّ له أن يأكل كلَّ شيء. وآخر ضعيف، لا يأكل إلاَّ بقولاًب.

41 ،عزء .ا 'مُّىُّفْكَم مكَفلَمُّ مم َّموٌِّْكُِء (َّمُّْلمحِء َّمل َّمُّكء)», ة .ْىِس مل .ُّكى خة (1937 ،َّىْفذ), .765-752 .جد

42 أعمال يوحنّا هي أقدم ما نملك من أعمال رسل منحولة. دوِّنت في آسية الصغرى في منتصف القرن الثاني. أمّا مدوِّنها فيقدِّم نفسه على أنَّه صديق يوحنّا الرسول. وقد سمِّي في القرن الخامس 'لوقيوسب. بعد خطبة طويلة عن المسيح، احتفل يوحنّا بإفخارستيّا بدون خمر، ثمَّ مات في قبر حفره بنفسه.

43 دوِّنت أعمال بولس حوالى 160-180 وتألَّفت من ثلاثة أقسام. نتوقَّ عند القسم الأوَّل: أعمال بولس وتقلا. كانت تقلا من إيقونية بتركيّا. لامستها كرازة بولس فتخلَّت عن الزواج. عاداها أهل بيتها وسجنوها ولكنَّها نجت من السجن. نشير هنا إلى أنَّ بولس قال في قال: 'طوى للذين قلوبهم نقيَّة... طوبى للذين يحفظون العفَّة في أجسادهم لأنَّهم يصيرون هيكل الله. طوبى للأعفّاء (إنكراتايس في اليونانيَّة) لأنَّ الله يحادثهم. طوبى للذين تخلَّوا عن هذا العالم لأنَّهم يرضون الله. طوبى للذين لهم نساء وكأنَّ لا نساء لهم، فميراثهم يكون اللهب. .157-156 .ِ ،1913 ،َّىْفذ ،ٌِّفذ مل َّمُّكء َّمج ،ظصءصدض .ج

44 أقنع أندراوس مكسيميليا، زوجة إيجاتس، حاكم آخائية، بأن تعيش في العفَّة، فألقي في السجن. ثمَّ حُكم عليه بالموت. دفنته مكسيميليا، وندم إيجاتس على فعلته فذهب وانتحر. شدَّد هذا النصّ الذي يعود إلى القرن الثاني على شجب الزواج وعلى طبيعة الإنسان الروحيَّة.

45 دوِّنت أعمال توما في السريانيَّة وترجمت إلى اليونانيَّة. نجد احتقارًا للجسد. وفي نشيد اللؤلؤة، نرى سطرة سقوط الأنفس وعودتها إلى عالم السماء.

،؟زد جةخء 'شخ ِّل َّموٌِّْكُِءب, .120-111 .ِ ،1987 ،ٌَُِّمْ ،مٌقى فٌ مل .كَ .ُّكى َى

46 ضدّ الهراطقة 1/28.

47 قف 1181 ،8 .ا.ذ ؛3-2 ،82 ،12 ،ةةة َّمُّفٍُُّْس

48 .888-803 ،6 .ا.ذ ،َّكمْا ٍِّّف َُِّّْكَّى

49 . 832 ،41 .ا.ذ ،45 َُىْفَفذ

50 4, 29, .401-400 ،20 .ا.ذ

51 ف 1193 خ ل 1192 ،8 .ج.ذ ؛3 ،92 - ،1 ،91 ،13 ،ةةة َّمُّفٍُُّْس

52 .قف 431 ،26 .ج.ذ

-_______

______________________________

-_______

______________________________

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM