الفصل 29: النشيد الأول: أسانده، اخترته، رضيتُ عنه

النشيد الأول: أسانده، اخترته، رضيتُ عنه

حين نسمع هذه الكلمات، نفكّر حالاً بيسوع المسيح حين اقتبل المعموديّة من يد يوحنا المعمدان. »قال صوت من السماء: هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيتُ« (مت 3:17). ولكننا نتطلّع إلى الشعب الذي يُطلَب منه أن يعيش خبرة من اختاره الربّ لكي يحمل رسالة.

ها عبدي الذي أسانده،

والذي اخترته ورضيتُ به!

جعلت روحي عليه،

فيأتي للأمم بالعدل (إش 42:1 - 2).

بهذه الكلمات الاحتفاليّة التي وجّهها الله إلى كل الأمم في العالم، والتي نقلها إلينا تلميذُ النبيّ أشعيا، يفتتح النشيدُ الأول خبرَ عبد الرب وعابده.

الله هو من اتخذ المبادرة. اختار الشعب العائش في »السجن« الكبير، وكلّفه برسالة مهمّة. قال للشعب:

أنا الربّ دعوتك في صدق،

وأخذتك بيدك وحفظتك.

جعلتك عهداً للشعوب،

ونوراً لهداية الأمم.

فتفتح العيون العمياء،

وتُخرج الأسرى من السجون

والجالسين في الظلمة من الحبوس (آ 6 - 7).

حين نسمع هذه الكلمات نتساءل: أيّ شعب على الأرض يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة؟ ونتخيّل في الحال شعباً منظّماً تنظيماً، شعباً معدّاً لهذا العمل الخطير، شعباً يمتلك صفات لا يمتلكها شعبٌ من الشعوب. نتخيّل شعباً واعياً، امتلأ إيماناً ورجاء، واستعدّ أن يقبل في الحال نداء الله.

ولكن الواقع غير ذلك، وطرق الله غير طرق البشر. وعمله يختلف عن عمل الناس.

1 - وضع الشعب

إن الشعب الذي اختاره الله ليقوم بهذه المهمّة، هو شعب معذّب، بائس، مسحوق. لا إيمان عند ولا رجاء. شعب تألّم وتألّم فتخلّى عن نفسه. ما عاد يعي ما يريد الله منه، بعد أن صار عبداً لدى نبوخذ نصر. عرف الجوع والتعاسة والخوف والدمار. وفي النهاية، عرف جزع الموت.

كيف يعمل الله مع مثل هؤلاء الناس الذين اعتبرهم الناس حثالة العالم وبقيّة الشعوب؟ بدأ فأفهمه أنه ما زال يثق به، مهما قال الناس.

أنت عبدي.

اخترتُك وما رفضتك.

لا تخف، فأنا معك،

ولا تتحيَّر فأنا إلهك.

أنا قوَّيتك ونصرتُك،

وبيميني الصادقة نصرتك (41:9 - 10).

من منّا يمضي فيختار شعباً ضائعاً؟ لا أحد. من يجعل ثقته فيه؟ لا أحد. بل الله وحده. الذي فعل في الماضي ويفعل مع كل شعب يناضل من أجل حرّيته وكرامته. هو جعل نفسه بجانب المسحوقين. أما أقوياء هذا العالم والمقتدرون، الذين قتلوا الشعب وهزئوا به، فينحنون أمام هذا الشعب ويتقبّلون خدمة الله. لقد انقلب الوضع.

في هذا الخط وقف انجيل لوقا الذي اعتبر الغنى الكبير مال ظلم. فبعد أن نقوم بما تطلبه العدالة، فنعيد إلى كل انسان حقّه، نقسم الباقي مناصفةً، كما فعل زكا، أو نستعدّ لأن نترك كل شيء لكي نتبع المسيح. وفي أي حال، التوزيع على الفقراء واجب لئلاّ يكون مصيرنا مثل الغني في المثل الانجيلي (لو 16:19 - 31). فالفقراء هم الذين يستقبلوننا في المظال الأبديّة، في السماء (آ 9). وقالت مريم العذراء في نشيدها: »حطّ المقتدرين عن الكراسي، ورفع المتواضعين« (لو 1:52).

2 - وجه خادم الله

ورسم لنا اشعيا هذا »العبد«، هذا الخادم. سواء كان الشعب المتألم، أو في النهاية يسوع المسيح.

لا يصيح ولا يرفع صوته،

ولا يُسمَع في الشارع صراخه.

قصبة مرضوضة لا يكسر،

وشعلة خامدة لا يُطفئ.

بأمانة يقضي بالعدل.

لا يلوي ولا ينكسر

حتّى يقيم العدل في الأرض،

فشريعته رجاء الشعوب (42:2 - 4).

هذا النصّ أورده متّى الانجيليّ عن يسوع حين هاجمه »المعادون« الذين رفضوا تعليمه التحريريّ. تلاميذه الفقراء جاعوا. فقطفوا بعض السنابل: يا لها من خطيئة عظيمة! ها تلاميذك يفعلون ما لا يحقّ لهم أن يفعلوا يوم السبت (مت 12:2). حسبَهُم الفريسيون يحصدون الحقول ويجمعون الغلال، حين قطفوا بضع سنابل لأنهم جاعوا. هكذا يحكم »الأتقياء« على الخطأة، والأقوياء على الضعفاء.

لا شكّ في أن الفقراء لا يقدرون أن يقاوموا. هم لا يكسرون قصبة مرضوضة، لا يطفئون شعلة خامدة. أولاً، يرفضون أن يُذِلّوا من هم أضعف منهم ويظلموهم. أما هذا الذي فعله »العبدُ« صاحبُ الدَين الكبير في مت 18:21 - 35؟ فمع أن »سيّده أشفق عليه وأطلقه وأعفاه من الدين« (آ 27)، انقضّ هو على رفيقه »فأمسكه بعنقه حتى كاد يخنقه« (آ 28). ثانياً، لا يصرخون، ولا يكثرون من الكلام الفارغ الذي يدلّ على الضعف. وفي النهاية، يتاجر بالناس. بل هم ينطلقون إلى الأمام. لا يتراجعون، لا ييأسون، حتّى تقوم العدالة على الأرض.

كيف بدا وجه هذا الخادم؟

عُذّب فما عذَّب أحداً. ظُلم فما ظَلم أحداً. ما ردّ على الاساءة باساءة مماثلة إن لم تكن إساءة أكبر. ورغم ذلّه وعذابه، قاوم ورفض أن تنتقل إليه عدوى معاديه. حلمُه حلم الله، أن يقوم مجتمع مؤسّس على العدالة. فمن يعيش هكذا، تكون حياته إعلاناً حياً للانجيل. يجعل قضيّة العدالة تتقدّم. يكون بحسب قلب الله الذي يرضى عنه كما رضيَ عن ابنه.

3 - مهمّة خادم الله

بعد أن قدّم الله خادمه وعبده إلى أمم الأرض، وجّه كلامه إلى من اختاره، فبيّن له رسالته:

هذا ما قال الربّ

خالقُ السماوات وناشرها،

باسطُ الأرض مع خبراتها،

وواهبُ شعبها نسمة الحياة

روحاً للسائرين فيها.

أنا الربّ دعوتك في صدق (42:5 - 6).

الله خالق الكون والحياة. إذن، يستطيع المؤمن أن يستند إلى قدرته لكي يقوم بمهمّته خير قيام. وها هو الله نفسه يتكلّم: أنا هو الربّ. أنا دعوتك.

أنا هو الربّ. ذاك كان اسمه حين ظهر لموسى في العلّيقة الملتهبة. أنا حضور محرّر في وسط الشعب، أو ما سوف يصير الشعب. في الماضي، التزم الله قضيّة المنسحقين، الذين استعبدهم الفرعون (خر 3:13 - 15). وفي زمن النبي »اشعيا« يُعلن الله عن اسمه بأن يقف بجانب شعبه المنسحق بحيث يفعل اليوم ما فعله في الماضي، بل أجمل. وبالأحرى، الله لا يريد أن يعمل بمفرده ويتركنا »نكتف« أيدينا. بل يُعيننا لنقوم بالمهمّة التي كلّفنا بها. فنحن لسنا بعدُ عبيداً لا يعرفون. بل نحن أبناء. ولا هم آلة تحرّكها يد خفيّة، بل أشخاص واعون، أحرار، يمسك الربّ بيمينهم، كما يمسك الوالد يد ولده. والاثنان يعملان. يفلحان الأرض، يعملان في صناعة الحديد (تك 3:5؛ 4:22) لكي تصبح »صحراء« هذا العالم، »جنّة وفردوساً«. فيها يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي« (اش 11:6).

أنا دعوتك في حقّ. أراد الربّ أن يكون »صادقاً« مع عبده. لا يعده اليوم ليتراجع عن وعده غداً. عنه قال المزمور: »هو صادق وكل انسان كاذب«. وقال أيضاً: »حناجرُهم قبورٌ مفتوحة، وعلى ألسنتهم يسيل المكر. سمُّ الأفاعي على شفاههم، وملء أفواههم لعنة مرارة« (رج روم 3:4، 13 - 14).

كذب الناس فصدق الله. كم مرّة وعد فرعون الشعب الضعيف بأن يطلقه، ثم تراجع بقلبه القاسي! أما نبوخذ نصر فداس حقوق الشعوب، واحتقر العدالة، وجعل من العالم أرض العبيد المستغلين. نقل الناس من موضع إلى آخر، هجّرهم، جعل شعوباً موضع شعوب، فاقتلع الانسان من موطنه ومن أرضه بحيث تضيع هويّته فلا يعود يعرف عملاً سوى تأمين الطعام والشراب. وهكذا صار الانسان على مستوى الحيوان.

أما الربّ فلا يفعل كما يفعل المقتدرون في العالم. يمسك بيد الانسان. يعطي هدفاً لحياته، ومعنى لآلام الشعوب. والمهمّة معروفة، بحيث لا يستطيع المؤمن أن يقول: لم أعرفها. المهمة مهمّة تحرير. تحريرُ ذاتي، تحريرُ إخوتي. هذا ما نقرأه في الأناشيد التالية، حول مضمون هذه المهمّة، والطريقة التي بها نُتمّها. ولكن منذ الآن، نستخلص أمرين اثنين. الأول، على الشعب أن يعمل من أجل وحدته. يكون الاخوة واحداً داخل »الرعيّة« لكي يدلّوا على أنهم تلاميذ الربّ، كما قال يسوع. ولكنهم لا ينغلقون على ذاتهم في كبرياء تفصلهم عن الآخرين وبالتالي تقودهم إلى الانحطاط وإلى الموت. بل ينفتحون على الآخرين ليكونون »نور الأمم« والملح في الطعام والخمير في العجين.

ثم لا ينسى الشعب أنه لم يتقبّل رسالة من عند البشر، ولا من رؤساء الشعب، بل من الله نفسه. هذا ما يعطيه حريّة التحرّك فيقول كلام الله في وجه من يستندون إلى سلطة بشريّة فيضايقون الإخوة ويستغلّونهم. في هذا المجال، قال بولس في الرسالة إلى غلاطية، رسالة الحرية: إن كنت اطلب رضى الناس فلستُ عبداً ليسوع المسيح« (غل 1:10).

4 - الوسائل

ويُطرح سؤال: ما هي الوسائل التي تؤمّن نجاح المهمة الملقاة على خادم الربّ وعابده؟ هو يستطيع أن يلجأ إلى أكثر من وسيلة، تختلف عمّا يلجأ إليه الناس عادة. يحسب حساب اختيار الله له، وتقديمه، السند اللازم (اش 42:1). وهناك روح الله، وقدرة الخالق، واليقين بحضور الله المحرّر. كل هذا نجده في اسم يهوه، الاله الذي هو. الذي عمل في الماضي، ويعمل اليوم وفي كل يوم. كما يحسب حساب التزام الربّ من أجل البرّ، ويد الله التي لا تتوقّف عن العمل. وأخيراً، يحسب حساب اليقين بأن المهمّة مهمّته وقد تسلّمها من يد الله. وفي النهاية، يتأكّد أن الشعوب البعيدة البعيدة تنتظر تعليمه. هذا يعني أن تعليمه يتجاوب مع ما يتوق إليه البشر في الأعماق. فهذا العابد ليس بغريب. ولا يجب أن يكون كذلك. إلاّ إذا رفض الشعب على ما حدث يسوع: جاء إلى العالم فما قبله العالم. جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1:10 - 11). وفي النهاية، اضطهدوه وسوف يضطهدون الذين يعملون باسمه، الذين يواصلون عمله (يو 15:20).

وفي نهاية هذا النشيد الأول، يجعل الربّ اسمه ومجده من أجل نجاح مهمّة نبيّه (وشعبه) الذي يقاسي الذلّ، فيقول:

أنا الربّ وهذا اسمي،

ولا أعطي لآخر مجدي،

ولا للأصنام تسبيحي.

ما مضى مضى، فأُخبركم بما يأتي،

وقبل أن يحدث أسمعكم به (اش 42:8 - 9)

هو الربّ يجدّد التزامه، بأن يقف بجانب شعبه المسحوق، وأن يكون في وسطه حضوراً محرّراً. فمجد الربّ يكون حين يرى شعبه محرراً، سعيداً، يعيش الأخوّة، لأن جذور الحرية والاخوّة والسعادة هي الله، لا الانسان وهذا الاله لا يسمح لفرعون، ولا لنبوخذ نصر، ولا لأي مستبدّ آخر، أن يستند إلى الأصنام (المال، السلطة، العرق، الديانة)، فيمنعه من تحقيق حلمه العظيم من أجل جميع البشر.

والالتزام الذي به يأخذ الله على عاتقه طريق الشعب لتحقيق المهمة الملقاة عليه، عظيم جداً، بحيث يريدنا أن نعتبر أن الأمر تمّ الآن. الآن أعلن لكم هذه الأخبار قبل أن تحصل. فالله الذي هو سيّد التاريخ يكفل منذ الآن نجاح مهمّة عبده وعابده.

وبكلمة واحدة، الوسائل التي يمكن للفقراء أن يحسبوا حسابها لكي يُتمّوا مهمّتهم، ليست الخيرات الماديّة، لا الغنى، ولا الشهرة، ولا السلطة، ولا القوّة. بل هو الوعي بأن الله يسندهم. بأنهم يعملون باسم الله. بأنهم يلبّون حاجات البشر العميقة. ذاك ما يعطي النبيّ إمكانيّة الكلام والعمل وإيصال هذا الوعي إلى أكبر عدد ممكن. هذا ما قام به موسى حين خرج من مصر. فعند جبل سيناء بدأ الشعب ينتظم. ولكن المهمّة ستكون صعبة والمخاطر كثيرة. هي مجابهة من عند أقوياء هذا العالم الذين يريدون أن يحافظوا على مكاسبهم. وهي عذابات سيحتملها الضعفاء الذين يمشون معه. والأصعب الأصعب هو العنف الذي يتكوّن حوله. وإن هو قاومه كان ضحيّته. أما هذا الذي حدث ليسوع الذي قال: من أخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ. وفي النهاية مات على الصليب. غير أن موته كان حياة لا للذين مشوا معه فقط، بل لجميع الذين يؤمنون به.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM