الفصل 3: سفر اللاويين والرسالة إلى العبرانيين

سفر اللاويين والرسالة إلى العبرانيين

استعاد صاحب الرسالة إلى العبرانيّين ما قيل عن الذبائح في سفر اللاويّين، فوصل بها إلى المعنى الكامل. في عب 5:1 نفهم أنّ لنا عظيمَ كهنة يختلف عن الذين سبقوه في العالم اليهوديّ. اسمه يسوع. ولكن الفرق شاسع بين كهنة اليهود ويسوع. فهؤلاء يحتاجون أن يقرّبوا عن نفوسهم، عن خطاياهم. وبعد ذلك يقرّبون عن خطايا الشعب. أما يسوع الذي هو كاهن منذ مجيئه إلى العالم، فما احتاج إلى هذا: إنه القدوس ويريد أن يُشركنا في قداسته (عب 12:10). قالت فيه عب 7:26-27: »كاهن قدوس، زكيّ، بلا عيب، منزّه عن الخطأة، وأعلى من السماوات. لا حاجة له أن يقرّب كل يوم، مثل الكهنة، ذبائح عن خطاياه الخاصة ثم عن خطايا الشعب، لأنه فعل ذلك مرّة واحدة حين قرّب نفسه«.

تميّز يسوع عن عظيم الكهنة في العهد القديم، فما احتاج إلى ذبيحة يقدّمها عن نفسه. وتميّز في شكل خاص، بأنه لا يحتاج بأن يقرّب الذبائح العديدة التي تتكرّر وتتكرّر. فلو أن ذبائح العهد القديم كانت ناجحة، لما بدت الحاجة إلى ذبيحة يسوع المسيح. ثم إن التكرار يُفهمنا أننا لم نصل بعدُ إلى ما نتوق إليه. أما يسوع فما احتاج سوى ذبيحة واحدة فأمّن للبشريّة الخلاص الأبديّ. وهكذا كانت ذبائح سفر اللاويين صورة مسبقة وناقصة عن ذبيحة يسوع الفريدة على الصليب. فهناك ذبيحة عن الخطيئة تقدَّم عن ذاك الذي سها فاقترف ما اقترف من ذنب. والذبيحة عن الاثم التي نعرّف بها فيما بعد. ذبيحة الكاهن تحتاج إلى التكفير من خلال المحرقة. أما المؤمنون فتكون ذبيحتهم أبسط وأقلّ كلفة. ذبائح عديدة. طقوس عديدة. ممارسات معقّدة لا يعرفها سوى المتضلّع في الكتاب، كما في التقليد الشفهيّ. كل هذا جعل المؤمنين يلجأون إلى الكاهن في كل مناسبة. أما مع يسوع، عظيم أحبار اعترافنا، فهناك ذبيحة واحدة: »وإن كل كاهن يقف كلَّ يوم، خادماً ومقرّباً مراراً تلك الذبائح بعينها، التي لا قَبِل لها البتّة بأن تُزيل الخطايا. أما هو (= يسوع) فإذ قرّب عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس عن يمين الله إلى الأبد... لأنه بتقدمة وحيدة جعل مقدَّسيه كاملين على الدوام« (عب 10: 11-14).

قبل المسيح كنّا في طريق مسدودة. والسبب العميق لهذا الوضع يكمن في طبيعة الذبائح المقدمة. »تقدّم قرابين وذبائح لا قِبَل لها بأن تصيّر خادمها كاملاً« (عب 9:9). ولكن حتى لو عُرفت الطريق الحقة، فما كان بإمكاننا أن نقترب من الله، لأنه ليس لنا ذبيحة تستحقّ أن تقدّم لله.

هنا تنتقد الرسالة إلى العبرانيّين الذبائح القديمة انتقاداً معبّراً، بحيث تفتح منظوراً لا متوقَّعاً في هدف التقدمة الذبائحيّة. نحن نتصوّر أن التقدمة هي وسيلة بها نرضي الله ونستجلب بركته. نودّ من الله أن يبدّل موقفه تجاهنا. ولكن مع هذه الرسالة، نأخذ الموقف المعاكس. فالذبيحة تتوخّى أن تحوّل من يقدّمها، لا ذاك الذي تُقدّم له. وهكذا خسرت الذبائحُ القديمة قيمتَها لأنها لم تمنح الكمال لمقدّمها. كانت مجرّد طقوس خارجيّة، بشريّة، ضُمّت إلى نظام من ممارسات حول الطعام والشراب والاغتسال (عب 9:10). أما ما يحتاج الانسان إليه للدخول في علاقة مع الله، فهو تحوّل كيانه العميق تحوّلاً يجعله كاملاً حتّى في ضميره. على هذا المستوى، لم تكن الطقوس القديمة نافعة في شكل من الأشكال.

لم تكن الذبائح القديمة قادرة عل تحقيق وساطة بين الله القدوس والانسان الخاطئ. فأيّة علاقة بين دم حيوان يُنحر وبين ضمير الانسان؟ »يستحيل على دم العجول والتيوس أن يُزيل الخطايا « (عب 10:4). ثم أية امكانية اتحاد شخصيّ بين حيوان ميت والاله الحيّ؟ كم مرّة عبّر الربّ عن استيائه من مثل هذه الطقوس: »بذبيحة وتقدمة لا تسرّ، ومحرقة وذبيحة خطيئة لا تطلب« (مز 40:7). ويكون اشعيا قاسياً، فيقول باسم الربّ: »ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعتُ من محرقات الكباش وشحم المسمّنات. دم العجول والكباش ما عاد يُرضيني« (أش 1:11). وهكذا لم يكن اتصال من الله إلى الانسان، ولا من الانسان إلى الله. بل هو انفصال بين الشعب والكاهن، انفصال بين الكاهن والذبيحة، انفصال بين الذبيحة والله. هي انفصالات ضروريّة، لأن الكاهن لا يقدر أن يقدّم نفسه، فهو غيرُ أهل وغير قادر.

إذن، لا وساطة ممكنة. والعبادة القديمةُ حُصرت في عالم البشر. والعهد الأول جاء ناقصاً. ولكن جاء المسيح، فقَلبت ذبيحتُه الوضع قلباً كاملاً، ووضعت حداً لكل النظام القديم بما فيه من انفصالات طقسيّة. وهكذا حقّق المسيح ما لم يستطع أن يحقِّقه أيُّ كاهن آخر. فتح طريق الدخول (9:11) التي هي خيمة جاءت تحلّ محلّ الخيمة الأولى. ودمُ  المسيح حلّ محلّ دم التيوس والعجول.

خاتمة

تلك كانت محطة أولى في قراءة سفر اللاويّين. فالذبائح هي العمل الأول للكهنة في العهد القديم. تحاول أن تربط الانسان بالله عبر العهد. وهذا الأمر لم ينحصر بالشعب العبرانيّ، بل عُرف في كل الشعوب القديمة. أما سفر اللاويّين فنقّى كلَّ هذه العبادات من الشرك وعبادة الأوثان، وجعل الانسان في حوار مع الله الواحد. بل هو بيّن أهميّة استعدادات المؤمن الداخليّة في الذبيحة التي هي قبل كل شيء روح منسحق متواضع قبل أن تكون عجولاً تؤخذ من الحظائر وخرافاً يحملُها مقدّمُها. غير أن التمييز بين الذبيح والذابح لبث حاضراً، فما اتّحدا، مهما كانت عاطفة المؤمن صادقة. وزال التمييزُ ساعة صار يسوع في الوقت عينه الذبيحة والكاهن، فقال عند دخوله إلى العالم: »ما شئت ذبائح ولا محرقات، فقلتُ ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا الله«. هكذا كُتب عن المسيح في الكتاب، فأتمّ مشيئة الآب وصار علَّة خلاصٍ لجميع الذين يؤمنون به.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM