الفصل الحادي عشر: سويريوس في عظة عن المانويّين

 

الفصل الحادي عشر

سويريوس في عظة عن المانويّين

في العظة 123 من خطب المنابر تحدّث سويريوس الإنطاكي (495-538) عن المانويّين في إطار اعتراف بالإيمان الأرثوذكسي المستقيم: »أتعلّى وأرتفع وحالاً أُخطف إلى جبل مفاهيم عالية، يُصعدني يسوع بكلّ وسيلة. هو كلمة الله وواحد من الثالوث الأقدس، هو باب المعرفة«(1).

وبعد هذا الإعلان الإيماني، تحدّث سَويريوس عن المانويّة، يحذّر المؤمنين من شرّهم. فقبلْهَم سقط أناس في هذا الضّلال المهلك، فلماذا يقعون فيه؟

* * *

»فمن أين صعد على بال المانويّين(2) الذين هم أكثر تعنّتاً من الجميع: أَدخلوا مبدأين (=رأيين) لا مصنوعين (=لا مخلوقين) ولا بدء لهما: الخير والشرّ. النور والظلمة، التي سمّوها أيضاً الهيولى (المادّة). فمن لا يوبّخ العبث (= اللا تكلّم) فيه ومنه. ومَن، بعد التوبيخ، لا يَبكي قلّة الفهم؟ فالمبدأ هو علّةُ (= سبب) لا شيء وجذرُه (= وأصله)، ساعةَ لا يُوجَد شيء يتجاوزه بحيث يبقى أيضاً مبدأً بالحقّ. نقول نحن: أيّ منهما هو علّة الآخر بحيث نكتب له اسم »مبدأ«؟ أيّ منهما؟ هل الخير (علّة) الشرّ؟ أو عكس ذلك، هو الشرّ (علّة) الخير؟ وكيف يمكن أنّ الذي هو خير بجوهره(3) يكون علّة أقنوم هذا الشرّ وجذره ووجوده؟ وكيف للشرّ أيضاً أن يهب البداية لكيان (= لطبيعة) هذا الخير، الذي هو في كلّ شيء غريب عنه ومُعارض؟ إذاً يكذبون حين (يُعطون) للإثنين اسم »مبدأ«، لأنّ الواحد لا يعلو على الآخر ولا يتجاوزه.

أجل، قال (ماني): »واحد منهما لا مصنوع (= لا مخلوق) ولا رأسَ (بداية) له: الخير الذي هو النور، والشرّ الذي هو الظلمة، الذي هو المادّة. ولا يتشارك الواحد مع الآخر. قلْ لي لأنّي أسألكَ: هل نعترف أنّ هذين هما أيضاً لامحدودان؟ لأنّه ما ليس مخلوقاً ومن لا بداية له، يليق به بالضّرورة أن يكون لامحدوداً. واللامحدود يختصّ به أن يكون بلا جسم. ومن المعلوم أنّ من لا جسمَ له هو عقليّ، فكيف لا يتجلّى الجنون الأخير بأن نقول إنّ المادّة هي لاماديّة وعقليّة.

وحين يكون الإثنان لا محدودين ولا »مزروبين« في مكانٍ واحد، فمن الضرورة أن يكونا مختلطين، وهما الشيئان المتعارضان جدّاً والمتحاربان، والشيئان اللذان لا يتوافقان في طبعهما. إذاً، ليس هناك مبدآن، بل مبدأ واحد، ممزوج ومختلط في الوقت عينه. فإن انفصل كلّ واحد منهما وكان له موضع خاصّ به، فهو محدود. والأشياء التي هي محدودة هي بالضرورة في الأجساد، وإنْ لم يكن في (أجساد) عبيّة وكثيفة، ولكن في (أجساد) نحيفة بعض الشيء. وما يخصّ الأجساد هو المحدوديّة. وإذ هي محدودة، وإذ هي أجسام، فكيف تكون لامخلوقة ولا بداية لها؟ فما الذي يمنع الواحد عن الآخر بحيث يكونان لامختلطين؟ فمن الضرورة أن يكون (مبدأ) ثالثٌ، ويكون هذا بلا بداية، ويكون لا مخلوقاً، وهكذا يُمنع الواحد عن الآخر دائماً. هذا الشرّ وهذا الخير، هذان الكيانان (الطبيعتان) المتحاربان والمتعاديان الواحد مع الآخر، اللذان لا مبدأ لهما واللامخلوقان. إذاً هناك ثلاثة مبادئ لا مبدآن اثنان. لأنّه ينبغي أن نضع خارج هذين المبدأين مبدأً متوسّطًا مع طبيعة غريبة لكي يستطيع أن يسيّج بينهما، ويحبس الواحد بعيداً عن الآخر، لأنّهما متحاربان. فإن بيّتنا (= قرّبنا، جعلنا في بيت واحد) هذا المبدأ المتوسّط من هذين الإثنين، وقرّرنا أنّه ينتمي إلى جوهر النور أو إلى (جوهر) الظلمة، نحتاج أيضاً إلى متوسّط (مبدأ) آخر يمنع الاختلاط، فيبدو لي أنّه يحقّ لهؤلاء المتعنّتين أن يجبلوا (= يصوغوا) ويستنبطوا باطلاً هذه البلادات وهذه التجاديف، وما لا يمكن أن يقوم أبداً في موضعٍ ما، وأن يتصرّفوا بناموس مستقلّ (= من نفوسهم) وبوقاحة، ويقولون (= ويدّعون) »جوهراً« الظلامَ الشرّير، ويسلّحونه على النور الصالح والأزليّ، ويقولون (= ويدّعون) 'لا مخلوقاً ما لا قيام فيه (= ما ليس له جوهر). وإذ هو (= الظلام) هيولى (مادّة)، وإذ هو يُسمّى هكذا حسب كلامهم أيضاً، قرّروا أن يدعُوه لاهيوليّاً وعقليّاً، وحدّدوه وحبسوه في أماكن مثل (الخير)، وقالوا إنّ هذا الخير الذي كنّوه أيضاً بالنور وبشجرة الحياة، يسكن هذه الأماكن (الواقعة) في الشرق والغرب والشمال، وأنّ شجرة الموت فهكذا يدعون أيضاً المادّة التي هي شرّيرة ولا مخلوقة ومجدِّف (تسكن) المناطق التيمنيّة (= الجنوبيّة) والظهريّة (ظهيرة اليوم).

وبعد أن صنعوا لاهوتاً كافراً ومجدِّفاً، أو كلاماً عن الله، أتوا ببراهين تليق بلاهوتهم، وقالوا بكلماتهم الخاصّة: »الاختلاف والمسافة بين هذين المبدأين هما كما بين الملك والخنزير. واحد هو في بيت الملوك (القصر) يتدبّر في الأماكن كما في بيته، والآخر مثل خنزير يتمرَّغ في الوحل ويغتذي من الهريان ويفرح. أو مثل حيّة تنساب في وكرها. وبعد أن أضافوا فقالوا إنّ الخنزير والحيّة يُولَدان من نفسيهما لكي لا يبيد ما هو لا مخلوق بهذه الأمثلة فلاقَ بمبدأ المادّة اللامخلوقة لدى المانويّين أن يُوجَد ويُشبِه هذين الحيوانين. وقالوا أيضاً بصدقٍ كثير إنّهم وُجدوا، لأنّ الذين صاروا خنازير (تخنزروا) بعقلهم، جبلوا (المادّة) المخلوقة والمصنوعة.

ولكن لكي أترك مضحكات الساعة هذه، نحو تلك التي هي أكثر ضرورة للردّ، أعود فأُصعد الكلمة (أو: الموضوع)، أضع الآن قدّامكم بعض الخرافات الكريهة لماني الذي جُنّ(4) والذي منه أَخذَ المانويّون اسمَهم. بواسطة هذه (الخرافات) تعرفون كيف يحبسون في أماكنَ، مبادئَهم اللامصنوعة (اللامخلوقة).

فهو (= مائي) يقول هكذا في واحد من كتبه اللامتكلَّم عنها، أو بالأحرى التي تليق بالظلمة والضلال: »هذه الأشياء التي هي دوماً وفي كلّ وقت منذ الابتداء - هو يقول من أجل الهيولى (= المادّة) ومن أجل الله - كلّ واحد منها يُوجَد بطبيعته (= بكيانه). وهكذا تُوجَد شجرةُ الحياة التي تتزيّن هناك بكلّ المحاسن وبمحاسن جمالاتها، وتمتلئ وترتدي بكلّ الطيّبات (= الخيرات)، وتتثبّت وتنغرز في طبيعتها وأرضها، تَحبس ثلاثَ مناطق: منطقة الشّمال التي هي في الخارج وتحت. و(منطقة) الشرق والغرب التي هي في الخارج وتحت. ومن تحت لا وجودَ لشيء غاطساً أو حالاٌّ في واحدة من المناطق. ولكنّ اللامحدود هو في الخارج وتحت. لا وجودَ لجسمٍ غريب، لا حولها ولا تحتها ولا في أيّ موضعٍ من هذه المناطق الثلاث. ولكن (لشجرة الحياة) هناك التحتُ والخارج، والشمال والشرق والغرب، وما من شيء يحيط بهذه المناطق ويحبسها. ولكنّه في ذاته ومن ذاته، وهو يرتدي ثماره في ذاته والمُلك هو فيه«.

وبعد هذه، أتى شططٌ كثير لا حدَّ له، وبدع وبلادات التي لا يسهل استنفادُها في وقتٍ طويل، لأنّه يدور في هذه الأمور ذاتها مرّات عديدة، ويَلفّ من جديد ويتيه في الظلمة لأن تلك هي مفاهيم الظلمة. ويقول هذا بالنسبة إلى الخير. يقول: »هو غير منظور في المنطقة التيمنيّة (= الجنوبيّة)، لأنّه مخفيّ في ما هو في حضنه. فالله أحاط هذه المكان بسُور«.

وبعد أن يَهذي (مائي) في وسط الجماعة بأشياء كثيرة وكثيرة، يُضيف أخرى التي لا تختلف عن هذه بشيء ولا تبتعد عن مستوى الكفر: »لا منظورٌ هو نورها (الشجرة الصّالحة) ونعمتُها (= صلاحُها)، بحيث لا تعطي مناسبة للرغبة في الشجرة الشرّيرة التي هي في التيمن (= الجنوب). ولا تكون مناسبة (للشجرة) بأن تتأذّى وتُسحق وتَعرِف الخطر. ولكنّ هذه (الشجرة الصّالحة) هي محبوسة في الجوّ، ولا تعطي مناسبة بسبب خيرها. بل تحفظ نفسها في بِرّها، وهي في هذا المجد حين هي دوماً في كيان عظمتها في هذه المناطق الثلاث. أمّا شجرة الموت فليس لها أيضاً حياة في كيانها (طبيعتها)، ولا ثمار خير على أيِّ من أغصانها. وهي على الدوام في منطقة التيمن (= الجنوب)، ولها أيضاً موضعٌ خاصّ هو فوقَها«.

ترونَ عدد الشتائم والأوجاع لتي يجرؤون فيَرمون بها الله الذي هو وحده الصّالح، هؤلاء الذين يجدّفون فيجعلون من تجديفهم مناسبةً وعملَ تقوى، ولا يقولون ما الذي يتوافق معهم.

بهذه الكلمات التي وُضعت (وردت) هنا (عن الله)، قال ماني إنّه لامحدود. ولكنّه بيّن أن له نهاية وأنّه محدود، فحبسه في هذه المناطق الثلاث، في الشرق وفي الغرب وفي الشّمال. وقال: »هو غير منظور في المنطقة التيمنيّة (= الجنوبيّة) إذ هو مخفًى في »عُبّه« البيتي(الخاصّ). ومع ذلك، قال إنّه »حبَس مكانَه (الخاصّ) بسور«. ولكن إن هو لامنظور في طبيعته وإذ هو غير منظور أبداً لدى الهيولى (المادّة) التي هي في المنطقة التيمنيّة (= الجنوبيّة)، فله العون (الآتي) من طبيعته الخاصّة، مع أنّه كان لهذا الشرّ، لامنظوراً وبالضّرورة لاممسوكاً، وبالأحرى لامقموعاً. فالذي يرفع سوراً ويحيط نفسه به، فهو يرفعه لكي يحفظ نفسه، لأنّه يخاف الهجوم ومجيء ذاك الذي هو أقوى منه. لهذا فهو ضعيف و»خوّيف«، ويحتاج إلى وسائل تحفظه (تحميه)، وما هو بدون حاجة كما هو الله. ثمّ إنْ هو أحاط هذا المكان بسور، فبأيّ مادّة (هيولى) أحاط (المكان) وبنى (السّور). وإن أحاط (المكان) بسور، فهذا يعني أنّه لم يُوجَد قبل أن يَصنع السّور. إذاً، قبل أن يصنع السّور، لم تكن له حماية. وكيف ما عرف مسبَقاً أنّه ستكون له حاجة إلى سور، مع أنّه الله، فما بناه منذ الابتداء؟ وكيف كانت المادّة حينذاك غير فاعلة ولم تأتِ (هاجمةً) على الخير، حين كان محروماً (من السّور) من البداية، ولكنّها أتت عليه (هاجمةً) بعد أن تحصّن المكان، حسب بلادتكَ يا هذا، وأخافَتْهُ واستقوت فرفعت أقلّه جزءاً من الخير؟

وكيف أنّ الخير الذي كان باستطاعته أن يبني سوراً من مادّة (بالأحرى) صالحة، ما أقام عالَماً صالحاً لم يختلط مع الشرّ؟ وإن هو صنع سوراً لاهيولانيّاً وعقليّاً، فنعجب كيف أنّ ذاك الذي يقدر أن يأتي بالجواهر اللاهيولانيّة، ممّا ليس هو إلى ما هو، لم يصنعْ بسهولةٍ (الجواهرَ) الهيولانيّة. فإن كان هذا السّور ثابتاً في نفسه ماكناً، فهو موجود من نفسه كما هي العادة أن نقول: دخلَ أيضاً (عنصرٌ) ثالث لا بدءَ له وهو لامخلوق (= لا مصنوع). إذاً يليق بنا أن نَعدّه مع هذين وبدل الإثنين. فينبغي أن نَحسب ثلاثة مبادئ. فإن كان الله الصّالح كوّن سوراً من جوهره، فبأيّ طريقة هذا اللاجسماني صغُر أو قُسِم؟ وإن حَسَب خرافاتكَ، وَجب على الشرّ أن يتسلّح في الحرب ضدّ الخير، لأنّه يرغب في حُسنه الذي هو بهيّ جدّاً وجميل، وإن كان هذا السّور من الجوهر عينه الذي هو محبوب جدّاً ومرغوب، فينبغي له أن يُحيطَ نفسه بطبيعة أخرى من أجل حراسته. وأن لم يكن من ذات جوهر الله، يكفي المادّة أن تَقتطع جزءاً من السّور، سهُل عليها وهانَ أن تحطّمه وتُرضي رغبتها وتختلط بالصّالح. إذاً، كيف تحبس الصّالح من كلّ جهة وكأنّه يحتاج إلى حراسة وسَهَر؟ وتقول (أنتَ): »الأرض التي تليق به تضمّ ثلاث مناطق: الشمال، الشرق، الغرب، وأن لا لباس تحتيٌّا من تحت. أَستعملُ كلامكَ حين تتكلَّم مثل إنسانٍ بَرَدَ فاستعمل أغطية عديدة ليُدفئ رجليه بحيث لا يظهر عليه شيء من تحت يبرّده تبريداً.

ولكم نرى نحن فكرَه اللائق بالله، الذي لأجله (يقول) هكذا: »لماذا يستتر الخيرُ عمَّن يحارب مع الله؟« يقول: »لئلاّ يعطي مناسبة لاشتهاء الشجرة الشرّيرة التي هي في التيمن (الجنوب)، وأن لا تكون مناسبةٌ بأن يتأذّى ويُسحَق ويعرف الخطر. أمّا هو فمحبوس في الجوّ ولا يهب مناسبة بسبب خيره«.

من يستطيع أن يحتمل خيوط العنكبوت هذه؟ ومن لا يبكي كما يجب، على نفوس عاقلة حين يراها معتقَلة في هذه الخيوط؟ هو حزنٌ وضيق إنْ قيلَ هذا للحمير والثيران فتستطيع أن تضلّهم. وبالأحرى حين نقول هذا لأناس ما خسروا ما به هم أناس.

فالذي هو شرّير في جوهره، كيف يرغب في الخير، لأنّ إنساناً يرغب فيه أيضاً ويستعدّ لقبوله؟ والذي هو شرّير في طبعه، لا يتمكّن أن يشارك في الخير. فما يتعلّق بهذه الجواهر أي الطّبائع (= الكيانات)، يبقى لا متبدِّلاً، مرتكزاً وثابتاً، وليس له أي اختلاط مع ما يقابله (أو= يعارضه). »فأيّ شركة للنور مع الظلمة«؟ (2كو 6: 14). هتف بولس حين تطلّع إلى هذه الأشياء.

ثانياً، بعد أن قال هذا النجسُ ماني إنّ »الخير غير منظور في منطقة التيمن«، كيف يقول أيضاً إنّ الهيولى (المادّة) التي تسكن وتقيم في التيمن وفي المنطقة الظهريّة (بالنسبة إلى الظهيرة)، تقدر أن ترغب أن تُرغَب في اللامنظور؟ من جهة، إن بقيت في المنطقة التيمنيّة، فهي لا تقدر أن ترى ما ترغب فيه. ومن جهة أخرى، حين تخرج، تعبر تُخُم ميراثها التي ثبّتها لها من البدء هذا الوقحُ والمستقلّ وهو ناموس نفسه، وبالحقيقة ذاك الذي لا ناموسَ له. وكيف يتّفق مع موجودات نجسة بأن يحبس الله الصّالح نفسه بحيث لا تتأذّى الشجرة الشرّيرة ولا تُسحَق ولا تعيش في الخطر. فأيّ خطر هنا أن تشارك المادّة في الخير إن هي تمكّنت أن تشارك؟ مقابل هذا، هناك مساعدة بأن يسمح (الله الصّالح) بهذا، أي أن يتبدّل بهذه المشاركة ما هو شرّير إلى ما هو أفضل. والله أيضاً يحتمل خطأ الحسد حين يخبّئ نفسه وهو الذي بجماله الخاصّ يستطيع أن يقود إلى الخير ويُخضع ويَستعبد ذاك الذي يُوضَع مقابلَه ويحاربه. فذاك الذي تنازل راغباً، تراجع وخضع لِما هو مرغوب ولا يعصيه في شيء.

أمّا ذاك (= ماني) فقال: »الله يحبس نفسه بسب طيبته (= صلاحه)، لئلاّ تتأذّى الشجرة الشرّيرة من النظر، وتُصطَاد بالرّغبة وتعرف الخطر«. بعد أن نسيَ كلّ خرافاته، قَلبَ كلّ الخطر على ذلك الصّالح (= الطيّب) والشّفوق. فهو يهيّء ويسلّح عليه بوقاحة، الشرّ، المادّة، شجرة الموت الشرّيرة. لتُقَل كلّ الأسماء معاً سويّةً، ولْيتعلَّم كلُّ البشر لمن يهب المانويّون الانتصارات على الإله الصّالح!

وأوّلاً يقولون هذه الأمور من أجل المادّة: »تُقسَم شجرة الموت إلى (شجرات) كثيرة«. ثمّ: »الحرب والمرارة هما فيهم«. ثمّ: »هم غرباء عن السّلام ومملوءون بكلّ شرّ وليس لهم أبداً ثمار صالحة«. ثمّ: »وتنقسم (الشجرة) على (ضدَّ) ثمارها، والثمار على الشجرة، ولا يتوافقون مع ذلك الذي ولدهم، بل يجبلون العث لفساد موضعهم، ولا يخضعون لذلك الذي ولدهم. أمّا الشجرة فشرّيرة كلّها ولا تصنع أبداً شيئاً صالحاً، لكنّها تنقسم على نفسها، وكلُّ واحد من أغصانها يُفسد ذاك القريب منه«.

وفي هذه الساعة يَشرَعون في تجميع جيش ومجموعة قويّة من الفلاّحين، أو بالأحرى خرافيّة ولا قيامَ لها، وفي تقسيم المادّة إلى أجزاء كثيرة وتسمية هذه ثماراً. ويقولون إنّ (الثّمار) تُفسِد الواحدة الأخرى. ويفترضون أنّ هؤلاء يثورون على الشجرة التي وَلَدتهم، وأنّهم دُمّروا وفسدوا مثل الصوف بيد العث. أمّا العث فلا يقولون عنها إنّها تنمو أي تُولَد. بل هي تُجبَل (تتكوّن) (بالثّمار) بحيث يبلغون إلى الفناء، فتدمّر الواحدة الأخرى وتخرب، قبل المجيء إلى العمل ضدّ الصّالح.

ومع ذلك، بما أنّ هؤلاء جبلوا (= صاغوا) استنباطات لاإلهيّة لمجدٍ نجسٍ دنس، فهم ما فهموا هذا، وقالوا حالاً معاً بدون تفحّص ما يَحسن لهم، ويحلّون لساعتهم هذا، ويضيفون استنباطات إلى استنباطات بشكلٍ غير معقول، فيُضيفون ويُدخلون هذه الأمور الأخرى التي تلي تلك.

فبعد أن قالوا إنّ (أعضاء) المادّة ثارت، هذه الأمّ مع أبنائها وتبلبلوا كلّهم حين اختلطوا وامتلأوا ثورةً واضطراباً لأنّهم قاموا كلّهم الواحد على الآخر، من هذه الثورة جَمَعوا الثائرين بدون وساطة وبشكلٍ لا معقول، جيشاً واحداً من أجل حرب مسلّحين. سُمح له أن يجبلوا من جواهر الشرّ والموت هذه اللاموجودة وأنّ يقسموا هذه إلى عدد كبير ويجمعوها في واحد، وأن يضعوا معًا الثورة والوئام وأن يملأوا كلّ شيء بألغاز لا قيامَ لها.

ولكن يليق بنا أن نضع أمامكم الكلام العتيق عن هذه الحرب العجيبة، أو بالأحرى كلام خرافاتهم (ميثولوجيا). فنختار من هذه الاستنباطات وهذه الثرثرات العديدة، وبمختصر الكلام اللامحدودة، عدداً صغيراً (من الأمثلة) بقدر استطاعتنا. وهكذا يَعرفُ كلُّ إنسان نقص الفهم في تجديفهم (2تم3: 9) ، كما يقول الرسول

فكتبوا أيضاً هذه الأمور القويّة: »هذه (تعود) إلى المادّة وإلى ثمارها وإلى أعضائها. ولكن من هنا، من ثورتهم، كانت لهم مناسبة لكي يعبروا حتى إلى عوالم النور. فأعضاء شجرة الموت هؤلاء، لا يعرف الواحد الآخر، أو لا يُدرك الواحد الآخر، لأنّ كلّ واحد منهم لا يعرف شيئاً سوى صوته، ولا يرون إلاّ ما هو قدّام أعينهم. وإن صرخ شيئاً يسمعونه ويدركونه، ويخرجون باندفاع نحو الصوت. ولكنّهم لا يعرفون شيئاً آخر. وهكذا يتحرّكون ويتدافعون بعضهم بعضاً لكي يَخرجوا حتى إلى تخم الأرض الجيّدة، أرض النور. وحين يرَون المشهد العجيب والجميل (للنور) الذي هو أفضل بكثير ممّا لهم، عندئذِ يجتمعون - تلك هي المادّة المظلمة - ويتآمرون على النور لكي يمتزجوا به وهم لا يعرفون بسبب جنونهم، أنّ الله القويّ القدير يقيم فيه (= في النور). ومع ذلك، يطلبون أن يصعدوا، لأنّ خبر اللاهوت لم يُعرف أبداً لهم، ولا هم أدركوا من هو الله. ولكنّهم نظروا بجنون، رغبةً في مشهد هذه العوالم المباركة وظنّوا أنّها لهم. إذاً، كلّ أعضاء شجرة الظلمة التي هي المادّة صانعة الفساد، ترفّعوا وصعدوا مع قوى كثيرة لا يمكن أن نقول عددَها. وكلّهم لبسوا مادّة النّار. وهذه الأعضاء كانت مختلفة (بعضها عن بعض). للبعض أجسام قاسية، ولا حدود لعظمتها. وبعضها (الآخر) هي لاجسميّة ولا يمكن جسّها. فجسُّها نحيف مثل الشياطين ومَشَاهد الخيال. وبعد أن ترتفع المادّة كلّها، وتصعد مع رياحها وعواصفها ومياهها ونارها وشياطينها وسراباتها ورؤسائها وقوّاتها، يكون الجميع في الأعماق، لكي يتغلغلوا في النور. وبسبب هذه البلبلة التي تهيّأت من الأعماق ضدّ أرض النور وضدّ الثمار المقدّسة، كان من الضّرورة أن يأتي جزءٌ من النور ويمتزج بهؤلاء الأشرار لكي يُصطَاد هؤلاء الأعداء بالمزج. ويكون أمان للصّالحين ويُحفظ كيان (طبيعة) الخير بعد أن يكون الكيان المبارك نجا من نار المادّة ومن العثّ المفسِد، وبعد أن يتخلّص النوريّون من المادّة بالقوّة التي مُزجت فيها لكي تزول المادّة من الوسط وتصبح شجرة الحياة الله في كلّ شيء وعلى كلّ شيء. ففي عالم النور ليس من نار موقَدة لكي تُلقى على الشرّ ولا من حديد يقطَع، ولا من مياه تَخنق(= تغرق) ولا من شيء شرّير مثل هذا. لأنّ كلّ شيء هو نور والمكان حرّ وما من إساءة عليه. ولكنْ هنا مخرج أو عبور بحيث إنّ الأعداء الذين تبدّدوا بالجزء الذي أتى من النور، يتوقّفون عن هجومهم ويُصطادون بواسطة المزج«.

فمَن بعد أن شربَ شراب نقص الفهم لا يرتوي (= يسكر) في وجدانه؟ من له فهمٌ لا يضحك من كل مكان على هذه البلادة الفارغة التي تشمل كلّ هذه الأمور اللا مرتّبة والمبعثرة والواردة كما تأتي؟ وكيف الهيولى اللا مخلوقة والتي لا بداية لها والتي هي متساوية في الأزليّة مع الصالح، وُجدت فائضة بكلّ هذه الثمار الشريرة »وفي قوى عديدة لا نستطيع أن نقول عددها (كما قال الكاتب الكافر) في أجسام قاسية (قال عنها) بأن لا حدود لعظمتها«؟ وأيَّ كلام يهبُ يوماً أن هناك أجساماً لا حدود لها في أجسام رقيقة، في السّرابات، في الرّياح، في العواصف، في المياه، في النار، في الشياطين، في رؤساء الأعماق؟ حسِب كلّ هذه حين رتّب جيش الهيولى (للحرب).

إذاً ليقُل هؤلاء (المانويّون) إذا كانت هذه الثمار تساوت في النموّ (أي مع بعضها البعض)، وإذا كانت (الهيولى) من فوق ومن البداية، أو أنّها أضيفت (الثمار) في النهاية. فإن كان من فوق، فعديدة هي هذه (الثمار) التي لا بداية لها والتي هي لا مخلوقة وهي تتجاوز (كلّ) عدد، ونقول ببساطة، كلّ تجمّع تلك التي سُمّيَت. ولكن إن كان بشبه شجرة في زمن كانت (الهيولى) أفرخت هذه الثمار وأتت بكلّ هذا الحمل من الشرّ، فهناك جزء منها يكون لا مخلوقاً (وأجزاء) كثيرة تكون مخلوقة ثمّ اقتُنيت. فكيف يليق أن نفهم الجوهر الواحد على أنّه مخلوق ولا مخلوق؟ وكيف أنّ ثمار هذه الهيولى مع أنّها مجنونة في شكلٍ ما ولا مدرِكة والتي ترى فقط ما هو قدّام أرجلها وتستطيع بصعوبة أن تسمع صوت الذين هم بقربها بسبب كسلها وثقلها وبطلانها، وتثور الواحدة نحو الأخرى، كيف ترغب هذه هكذا معاً في تساوي وجدانها وتمضي متوافقة إلى تخم أرض النور مثل الذين ترتّبوا واقتيدوا تحت فرقة واحدة وفيلق واحد. ورأت منظر النور وإن غرقت في الرغبة رغبت بالجمال. فهذه الأشياء ليست أبداً (ابنة) الجنون (اللا إدراك). فالرغبة في ما هو بالحقيقة صالح الذي هو الله، ذاك الذي يحدّده إنسان على أنّه فهم رئيسيّ لا على أنّه جنون(5).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM