الفصل الخامس: مـانــي والمـانــويَّـة

الفصل الخامس

مـانــي والمـانــويَّـة(*)

تعليم دينيّ وحركة دينيَّة تعود إلى القرن الثالث ب.م. اعتُبرت في الماضي هرطقة من الهرطقات، بل شيعة مسيحيَّة. ولكنَّها في الواقع ديانة بكلِّ معنى الكلمة، ديانة من النمط الغنوصيّ(1)، ديانة ذات نمط باطنيّ تتيح لتبّاعها البلوغ بواسطة المعرفة إلى الله وإلى الخلاص. ديانة ثنائيَّة(2) حيث الله يعارض المادَّة، والنورُ (الخيِّر) الظلمةَ (الشرّيرة). أمّا الخلاص فهو مبدأ وهدف كلِّ نظريَّة وكلِّ ممارسة، وهو ينبثق من المعرفة، ويتمُّ بالمعرفة. المانويَّة ديانة تلفيقيَّة تعود إلى الغنوصيَّة، كما إلى المسيحيَّة والزرداشتيَّة الفارسيَّة. تعتبر أنَّ ديانتها مسكونيَّة ورسالتها شاملة، لهذا سمَّت نفسها »الكنيسة« و»الكنيسة المقدَّسة«، و»الديانة المقدَّسة«. مؤسِّسها ماني، آخر الذين نالوا الوحي، وخاتمة جميع الأنبياء. أُرسل لكي يكوِّن كنيسة الأزمنة الأخيرة، كنيسة ملكوت النور. استُودع الحقيقة التي لم يأخذها بالتعليم ولا بالتنشئة، بل تسلَّمها من إله العظمة بواسطة رسول سماويّ. ونقل ماني لتلاميذه حكمتَه الإلهيَّة، وأوكلهم بنشر الأسرار الثنائيَّة حتّى أقاصي الأرض.

بعد أن نتحدَّث عن ماني والآثار المانويَّة، وعن انتشار المانويَّة، نتوقَّف عند التعليم، وننتهي بالممارسة داخل تنظيم هو الكنيسة المانويَّة.

أوَّلاً: ماني وانتشار المانويَّة

أ- سيرة ماني

وُلد ماني(3) في 14 نيسان سنة 216(4) في بابلونية(5)، وفي موضع قريب من المدائن. يبدو أنَّه انتمى بأمِّه إلى سلالة الأرشاقيّين الذين قضى عليهم الساسانيّون سنة 224 ب.م. في سنته الرابعة التحق مع والده فاتك بجماعة المغتسلة(6) وظلَّ معهم إحدى وعشرين سنة (من سنة 219/220 إلى سنة 240). هناك ترعرع، ونما فكره، ونضجت دعوته بتأثير عميق من المسيحيَّة في صيغتها الكسائيَّة.

في عامه الثاني عشر، تسلَّم ماني من الملاك التوأم، من الروح البارقليط، أمرًا بأن يترك الجماعة. ولكنَّ عمره لم يسمح له. وتسلَّم، في عامه الرابع والعشرين، مهمَّة إعلان تعليمه. هذه »البشارة« الأخيرة التي تسلَّمها في 23 نيسان سنة 240 (13 نيزان 551 سلوقية)، تدلَّ على البداية للديانة الجديدة. تجسَّد في ماني الروحُ القدس والعلمُ الكامل، فصار رسولَ النور، والمنيرَ السامي الذي أرسله الله. وبدأ بنشر تعليم الرجاء والخلاص الذي أوحى له به، داخل الجماعة التي يعيش فيها. ولكنَّه اتُّهم بانحرافه إلى »الهلّينيَّة« فاستُبعد عن الجماعة وانفصل عنها بشكل نهائيّ يرافقه والده واثنان اقتنعا بتعليمه. وهكذا صارت المعمَّديَّة(7) ديانة كاذبة يحرِّكها روح الضلال.

كان عمر ماني في ذلك الوقت 24 سنة. ترك جماعةَ الكسائيَّة وأبحر إلى الهند حيث أقام سنتين، وعاش في جماعات بوذيَّة طبعته بتعليم بودا. لهذا، سمّى ماني نفسه رسولَ يسوع المسيح، ولكنَّه اعتبر بودا وزرادشت كسابقيه. في بداية حكم شهبور الأوَّل (241-272)، عاد ماني إلى بلاد فارس وبدأ كرازته يحميه شهبور الذي كانت له معه لقاءات عديدة. وظلَّ هكذا يبشِّر مدَّة ثلاثين سنة، ويعمل على تكوين تلاميذه، ويدوِّن كتاباته. ولكن بعد سنة 274، سوف يتغيَّر الوضع مع يقظة المزدويَّة التي صارت وحدها الديانة الوطنيَّة، فحاربت الديانات الأجنبيَّة. اتُّهم ماني أمام الملك بهرام الأوَّل، فوضعه في سجن جنديسابور حيث مات من العذاب والتعب، يوم الاثنين 12 شباط 277. حينئذٍ قطع الجلاّدون رأسه وعرضوه على أحد أبواب المدينة.

ب- آثار ماني

كانت المانويَّة ديانة مسكونيَّة ورسوليَّة، فكانت في أساسها »ديانة الكتاب«. اعتبرت أنَّ بودا وزرادشت ويسوع لم يدوِّنوا ما وصل إليهم من وحي، بل أوصلوه بطريقة شفويَّة إلى التلاميذ. فدوَّنه هؤلاء بعد أن شوَّهوه وزادوا عليه عناصر غريبة. ونشأت من هذه الكتابات تفاسيرُ مختلفة وهرطقات. أمّا ماني فأراد أن يحفظ كنيسته من كلِّ هذه المخاطر، فدوَّن وحيه بيده، وطبع كتبه بالطابع القانونيّ فلا يزيد أحد عليها شيئًا ولا يُنقص. وهكذا تستند »الكنيسة الحقّ« إلى مجموعة من الكتب القانونيَّة، تتميَّز بمضمونها الثابت، تُنسخَ بدون خطإ، وتفسَّر بشكل حرفيّ(8).

هناك سبعة كتب تعود إلى ماني. دُوِّنت في السريانيَّة أو الآراميَّة الشرقيَّة. وهذه الكتب هي:

(1) الإنجيل الحيّ أو الإنجيل العظيم أو الإنجيل من ألف إلى تاء(9). (2) كنز الحياة أو كنز الأحياء أو الكنز. ورد منه مقاطع في أوغسطين والبيرونيّ(10). (3) كتاب الأسرار. يتألَّف من 18 فصلاً ذكرها ابن النديم(11) وذكر مقاطع منها البيرونيّ أيضًا. (4) المقال. يعالج الكوسموغونيا أو نشأة الكون. (5) كتاب الجبابرة. هو مجموعة أخبار ميثيّة تتعلَّق بأزمنة البشريَّة الأولى. (6) الرسائل. هي مجموعة رسائل(12) ماني وخلفائه، ونحن نجد لائحتها في فهرست ابن النديم. (7) كتاب المزامير والصلوات.

ومع هذه الكتابات »القانونيَّة« نذكر التعليم المختصر الذي هو كتاب مصوَّر يتضمَّن التعليم للذين لا يجيدون القراءة. كما نذكر شهبوراغان المدوَّن في اللغة الفارسيَّة. قُدِّم إلى شهبور الأوَّل فتضمَّن مواضيع عن الكوسمولوجيّا (دراسة الكون)، عن الأنتروبولوجيّا (دراسة عن الإنسان)، عن الإسكاتولوجيّا (دراسة عن نهاية العالم). ونذكر أيضًا: فرائض للسامعين وللمختارين، شجب اليقين والأساس، كتاب الإرشاد والسلوك. ويورد أوغسطين كتاب رسالة الأساس. وهناك الفصول(13) أو النقاط الرئيسيَّة في تعليم المعلِّم.

ج- إنتشار المانويَّة

بدأ انتشار المانويَّة منذ سنة 240، يوم كان ماني على ضفاف الهندوس، فردَّ إلى »إيمانه« حاكمًا محلِّيٌّا »بودا الجديد«. وبعد موته، امتدَّت »الكنيسة المانويَّة« في الشرق والغرب.

في الشرق الأوسط، كان برديصان الرهاويّ هيَّأ الطريق، فدخلت المانويَّة بقوَّة جعلت آباء الكنيسة يقومون بحملة مضادَّة خلال القرن الرابع: أفرام في الرها؛ تيطس، أسقف بصرى، في المدن العشر؛ يوحنّا الذهبيّ الفم في أنطاكية؛ كيرلُّس في أورشليم. وتكوَّنت مجموعة مناوئة للمانويَّة: أعمال أرخيلاوس لهيجيمون(14). أمّا إبيفان، أسقف سلامينة في قبرص، فكرَّس لتعليم ماني القسم الأكبر من كتابه ضدّ الهرطقات«.

في الشرق الأقصى حيث وُجدت في واحة طورفان، في قلب تركستان الصينيّ، الوثائق المانويَّة، اكتشفنا طريق »المرسلين« المانويّين، الذين انطلقوا من فارس إلى الهند، فوصلوا إلى آسية الوسطى والصين. سنة 762 تبنَّت مملكة أويغور المانويَّةَ ديانة الدولة. وخلال القرن السابع سيسمح إمبراطور الصين ببناء معابد مانويَّة في كلِّ أنحاء البلاد. في القرن التاسع وصل المرسلون إلى سيبيريا.

وانطلق المانويّون إلى مصر، وجعلوا من الصعيد القريب من أسيوط محطَّة اتِّصال بين بابلونية وحقول الرسالة في المتوسِّط. في 31 آذار 297، وبناء على طلب القنصل يوليان، أمر الإمبراطور ديوكليسيان بحرق »المختارين« وكتبهم، بالاستيلاء على أملاك المنضمّين إلى هذه الشيعة والحكم عليهم بالمنفى. ولكن ما وجد في الفيّوم من محفوظات تعود إلى القرن الرابع، يدلُّ على أنَّ المختارين والسامعين تحدَّوا قرار الإمبراطور وواصلوا نشر عقائدهم.

ووصلت المانويَّة إلى أفريقيا الشماليَّة. من 373 إلى 383، كان أوغسطين من السامعين المواظبين. ولكنَّ التعاليم الثنائيَّة خيَّبت آماله، فتركها وقام عليها بحرب لا هوادة فيها. وامتدَّت المانويَّة إلى إسبانيا حيث حاربها فنسان ده لارين. ووصلت إلى ليون في فرنسا، ثمَّ إلى إيطاليا حيث تدخَّل البابا لاون. ومن إيطاليا وصلت إلى البلقان وآسية الصغرى أي تركيّا الحاليَّة.

انتشرت المانويَّة بهذه السرعة، لأنَّ الغنوصيَّة سبقت فهيَّأت الأفكار في مصر مثلاً، والمونتانيَّة(15) في أفريقيا الشماليَّة. وديانة ماني التلفيقيَّة التي انطلقت من المسيحيَّة والزرادشتيَّة والبوذيَّة، وجدت آذانًا مصغية في آسية. ولكنَّ هذا الانتشار سوف يحارَب على المستوى الدينيّ وعلى المستوى المدنيّ. فالفندال في أفريقيا الشماليَّة قضوا على الشيعة قضاءً تامٌّا. ولاحق الأباطرة الرومان أهل هذه الشيعة في كلِّ إيطاليا. وكانت الحرب شرسة في الصين، ولبثت المانويَّة تعمل حتّى مجيء المغول بقيادة جنكيسخان الذي دمَّر جماعاتهم في آسية الوسطى.

ماتت المانويَّة ولكنَّها أثَّرت تأثيرًا كبيرًا على المزدكيَّة في إيران، كما أثَّرت على الغنوصيَّة الإسلاميَّة في ما سُمِّيت حركة الزنادقة. أمّا في أوروبّا، فاستعادت المانويَّة الحياة في حركة »الكاتار« (الأتقياء) التي امتدَّت في جنوب فرنسا خلال القرون الوسطى. وفي حركة »البوغوميلية« (أحبّاء الله) التي امتدَّت في بلغاريا. وهل انطفأت المانويَّة اليوم؟ كلاّ. فهي حاضرة في التيوسوفية(16) مع رودولف شتاينر (1861-1925) الذي اكتشف في ماني، ذاك البارقليط الذي أرسله يسوع المسيح، معلِّمًا ونبيٌّا متدرِّجًا. اعتبر شتاينر أنَّ ماني جمع تقاليد الهند وبابل والمسيح فضمَّ الكوسموغونيا إلى السوتيريولوجيّا (التعليم في الخلاص)، وأعطى العالمَ المعرفةَ الروحيَّة الحقَّة. والمانويَّة حاضرة في الأنتروبوسوفيَّة التي أسَّسها شتاينر في خطَّين: علم الروح وجماعة المسيحيّين، فحاول أن يحرِّر في الإنسان الشرارةَ الدينيَّة التي سقطت في المادَّة، وأن يوجِّه العقل البشريّ نحو اللامنظور، وأن يجعل في قلب نهجه الفكريّ المسيح كما عرفته المانويَّة (هذا المسيح هو رسول ينقل إلى البشر أسرار الصلاة). ويبدو أنَّ البوغوميليَّة ما زالت حاضرة في أوروبّا الوسطى بشكل »الأخوَّة العالميَّة السامية«. أمّا في عالمنا الشرقيّ فهناك أفكار مانويَّة على المستوى الشعبيّ: الشرّ والخير، نظرة إلى المسيح تنسينا أنَّه إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ، تريده أن يكون في »الأثير«.

ثانيًا - التعليم في الكنيسة المانويَّة

المانويَّة غنوصيَّة توسَّعت فصارت ديانة جديدة. وهي ككلِّ غنوصيَّة تتأسَّس على »معرفة« تحمل معها الخلاص، تخلص في ذاتها حين تكشف للإنسان أصله: ما كان، وأين كان قبل أن »يُطرح« في العالم؟ تجعله يعي ما هو في الواقع، وتشرح له وضعه الحاضر وكيف يتحرَّر منه، بحيث يرى مسبقًا ما سوف يصير. هي معرفة الذات في الله ومعرفة الله في الذات. وهي معرفة مطلقة وعلم تامّ يتأسَّس على يقين العقل.

أ- الأسرار الاثنا عشر

هنا يبدأ تاريخ الخلاص مع الميثات(17) العقائديَّة المتشعِّبة مع بطل واحد هو النفس التي انحدرت إلى المادَّة، ونجت بواسطة العقل أو المعرفة. ونحن نقرأ ملخَّصًا عن العقيدة المانويَّة كما يقدِّمها المعلِّم لتلاميذه، في كتاب الفصول. نقرأ عن الأسرار الاثني عشر:

نزل البارقليط الحيّ عليَّ وتكلَّم معي. كشف لي السرَّ المخفيّ الذي ظلَّ مستورًا للعوالم والأجيال، سرّ العمق والعلوّ. كشف لي سرَّ النور والظلمة، سرّ الجهاد والحرب، الحرب العظيمة التي بدأت مع الظلمة. وكشف لي أيضًا... كيف تمَّ المزج بين النور والظلمة، وكيف خُلق هذا العالم. وشرح لي أيضًا كيف أنَّ قواربُ ثبِّتت لتستطيع »آلهة«(18) النور أن تأخذ مكانها من أجل تحرير النور... وأفهمني سرَّ خلق آدم الإنسان الأوَّل، وسرّ شجرة المعرفة التي أكل منها آدم فانفتحت عيناه. وعلَّمني سرَّ الرسل الذين أُرسلوا في العالم لكي يختاروا الكنائس، وسرّ المختارين ووصاياهم. سرّ الموعوظين ومساعدتهم ووصاياهم، وسرّ الخطأة وأعمالهم والعقاب الذي ينتظرهم. وهكذا كشف لي البارقليط كلَّ ما حصل وكلَّ ما سيحصل بعد (الجزء الأوَّل، ص 15، س 1-20).

يقدِّم لنا هذا النصّ جدولاً بالأسرار الاثني عشر كما أوصى بها البارقليط، وهي: الملكوتان، النور والظلمة وصراعهما وامتزاج النور بالظلمة، وتكوين العالم، وتحرير النور أو سرّ الخلاص، وخلق آدم، وسرّ المعرفة، وبعثة المرسلين، وأسرار المختارين والموعوظين والخطأة. في الواقع، نحن أمام خلاصة تتداخل فيها التعاليم الثنائيَّة وتاريخ الخلاص كما في الغنوصيَّة وذلك في ثلاث لحظات. في اللحظة الأولى ينفصل الملكوتان انفصالاً جذريٌّا. في اللحظة الثانية، نجد الأحداث الكونيَّة وصراعها، وسقوط جزء من النور في المادَّة، والكوسموغونيّا، والسوتيريولوجيّا، والإسكاتولوجيّا. ذاك هو الزمن الوسيط، زمن المزج والاختلاط. وتكون اللحظة الثالثة لحظة العودة النهائيَّة إلى وضع البدايات: تحرير كلِّ أجزاء النور المسجونة في المادَّة، دخول جميع النفوس المختارة إلى ملكوت الآب، سقوط المادَّة والهالكين إلى الجحيم المظلم.

ب- اللحظة الأولى: الملكوتان

في البداية وُجدت طبيعتان (أو جوهران) متعارضتان، متضادتان: واحدة كلُّها خير، وثانية كلُّها شرّ. النور والظلمة. الله والمادَّة. كلاهما غير مولود، بل أزليّ. والواحد يوازي الآخر. وكلٌّ منهما يعيش في منطقة منفصلة: ملكوت الله في الشمال. وملكوت الشرّ في الجنوب. على رأس الأوَّل »أبو العظمة« الذي يسمّيه المسيحيّون الله الآب، والزرادشتيَّة »زرفان«. والثاني هو »رئيس الظلمة«. يسمّيه المسيحيّون »إبليس«. والزرادشتيَّة »اهريمان«.

يصوَّر الأوَّل ك»أرض النور« التي يحيط بها أثير ساطع، وهو مؤلَّف من »منازل« (أو أعضاء) الله الخمسة: الفم، العقل، الفكر، التبصُّر، الإرادة(19). كما يقيم فيه عدد كبير من العوالم(20).

ويقف الثاني تجاه الأوَّل، وهو يتكوَّن من خمس لجج تقف الواحدة فوق الأخرى. أعلاها عوالم الدخان أو الضباب. ثمَّ النار الآكلة. ثمَّ الهواء أو الريح المدمِّرة. ثمَّ الماء أو الوحل. وأخيرًا، الظلمة. يرئس هذه اللجج الخمس خمسة أراكنة(21) يبدون بشكل حيوانات أو شياطين. ويُوجد فيها كائنات جهنَّميَّة. كلُّ ما فيها فوضى، بلاهة، نجاسة، نتانة. أمّا في ملكوت النور، فسلام وفهم ونقاء وعذوبة.

يمتدُّ ملكوت النور إلى ما لاحدود له، في الشمال والشرق والغرب. ويمتدُّ ملكوت الظلمة في الجنوب، فيحدُّ ملكوت النور. في هذا الإطار، تبدو الظلمة »زاوية« في النور الذي يحيط بها من ثلاثة جوانب.

نشير هنا إلى أنَّ الرؤساء يبدون بشكل شيطان، أسد، نسر، سمكة، حيَّة. وعلى رأسهم أمير الظلمات الذي يدلُّ عليه السواد والنتانة والقباحة والمرارة والحسد: إنَّه العالم المادّيّ وأم جميع الشياطين. ويحمل هذا الملكوت علامات الليل: ليل المادَّة، ليل الموت، ليل الضلال والكذب، ليل الجسد والرغبة. رئيسُ هذا الملكوت هو سيِّد الكذب، وهو لا يدمَّر، كما يجرُّ وراءه أرواح كذب يتحاربون بلا انقطاع.

ج- اللحظة الثانية: الإنسان الأساسيّ

تنفتح اللحظة الثانية على كارثة: حاولت الظلمة أن تجتاح ملكوت النور، فقرَّر الله أن يحارب بواسطة نفسه التي صارت شخصًا حيٌّا في ابنه. فمع أبنائه الخمسة (أو العناصر المضيئة: الهواء، الريح، النور، الماء، النار) الذين يكوِّنون سلاحه أو نفسه، نزل الإنسانُ الأساسيّ إلى الحدود. قُهر وأحدر إلى لجَّة جهنَّم وابتلع الشياطين أولاده. وهكذا امتزج جزء من النور بالمادَّة، استُعبد لجوهر المادَّة المظلم. فبدأ الله بالعمل.

وخلاصه الأوَّل هو خلاص الإنسان الأساسيّ. حينئذاك صدر عن الله ثلاثة: صديق الأنوار، المهندس الأكبر، الروح الحيّ. وزحف الروح الحيّ برفقة أبنائه الخمسة (زينة البهاء، ملك الكرامة، آدم النور، ملك المجد، الرسول) إلى حدود منطقة الظلمة، وصاح صيحة هي نموذج النداء إلى الخلاص. ثمَّ دخل إلى قلب الظلمة ومدَّ يده اليمنى إلى الإنسان الأساسيّ الذي أمسكها. وهكذا صعد السجين خارج الظلمة وعاد منتصرًا إلى فردوس الأنوار، موطنه السماويّ. كان أوَّل المنحطّين فصار أوَّل المخلَّصين، ونموذج انحدارنا ومحنتنا، ونموذج خلاصنا.

تلك كانت المرحلة الأولى في اللحظة الثانية وكان بطلها الإنسان الأساسيّ. في المرحلة الثانية، بدأ عمل الخلق. ترك الإنسان الأساسيّ بين أظافر الأراكنة نفسه وأبناءه الخمسة الذين هم سلاحه. هذه النفس التي هي جوهر إلهيّ دُفن في الظلمة، سوف تَسقط في اللاوعي والنسيان (كما في الشيول، في العهد القديم، ومثوى الأموات)، فيتمُّ خلاصها بخلق العالم. بعد أن حرَّر الروحُ الحيّ الإنسانَ الأساسيّ، عاقب الأراكنة وقطَّعهم إربًا: من جِلْدهم خلق قبَّة السماء. من عظامهم الجبال. من لحمهم وبرازهم الأرض. وما إن تكوَّن الكون، حتّى حرَّر الخالقُ جزءًا من النور، فكانت الشمس والقمر والنجوم. وبما أنَّ النور كلَّه لم يخلَّص، كان انبثاق ثالث لإكمال الخلاص. هذا الانبثاق هو بشكل »عذراء النور« التي تثير الرؤساء فيخلق عالم النبات. وبعد ذلك يُخلق الحيوان. وتُولد أوَّل عائلة بشريَّة بفعل الشياطين. وهكذا كان آدم وحوّاء نتيجة مزيج المادَّة بالنور، ويصبح نسلهما الموضوع الرئيسيّ في هذا الخلاص الذي بدأ يتمّ. هذا النسل يحمل في ذاته القسم الكبير من أجزاء النور التي ما زالت سجينة(22).

مع المرحلة الثالثة، نصل إلى رسل الغنوصة(23). فالإنسان الأساسيّ، والروح الحيّ، والمرسل الثالث حقَّق كلٌّ منهم قسمًا من الخلاص. أمّا الآن فيجب تخليص آدم ونسله الذين يختفظون، بفعل الإنجاب، النفوسَ النيِّرة في قيود الجسد. لهذا، يُخرج الآب فيضًا رابعًا هو العظمة الخامسة، يسوع البهيّ، ذاك الكائن المتسامي والكونيّ، حياة البشر وخلاصهم، الذي بدأ فنقل إلى آدم التعليم المحرِّر الذي صار أقنومًا دائمًا. هو الفكر الأعظم مع النداء والسماء. والتعليم المشخَّص هو الغنوصة وابنة الفكر الأعظم الذي خلقه يسوع. ويتعاقب مختلف مرسلي الغنوصة مع السرِّ الثامن وشجرة الغنوصة التي زرعها يسوع ففتح ثمرُها عيني آدم. وبين هؤلاء المرسلين يَذكر ماني: شيتيل(24) ابن آدم. أنوش. أخنوخ. سام بن نوح، إبراهيم. وحُفظت مكانة مميَّزة للمرسلين الثلاثة الذين يعتبر ماني أنّهم سبقوه: بودا، زرادشت، ويسوع المسيح الذي جاء إلى هذا العالم بشكل بشريّ ولكنَّه لبس جسدًا روحيٌّا. وعد يسوع رسله بأن يرسل البارقليط (أي الروح المعزّي). هو ماني، وهو على الأرض الصورة الحيَّة للروح القدس.

د- اللحظة الثالثة: عودة إلى البدايات

بدأ الزمن الوسيط مع مجيء الإنسان الأساسيّ، وسيتواصل خلال كلِّ حقبة المزج. والكون الذي هو حصيلة صراع النور والظلمة، هو سجن فيه يعذّب الشياطينُ النورَ الذي ما زال سجينًا. والكون هو أيضًا موضع الخلاص لأنَّ الشرارات الإلهيَّة تحرَّرت شيئًا فشيئًا. غير أنَّ الخلاص يتأخَّر، فتعوقه خطايا البشر الذين ما زالوا تحت سلطة الأراكنة. في نهاية اللحظة الثانية، سيحترق الكون كلُّه، فتتحرَّر آخر أجزاء النور من المادَّة، وتعود إلى أصولها. عندذاك ينفصل بشكل نهائيّ ملكوتُ النور عن ملكوت الظلمة.

هـ - المستوى الأخلاقيّ

ينتج عن هذه الكوسموغونيّا، عن هذه النظرة إلى نشوء الكون، أنّا مساوون الله في الجوهر على مستوى الأنا، على مستوى النفس والعقل. ويكون الخلاص في أن نستعيد وعينا بالغنوصة (المعرفة)، بالتعليم الذي يحمله ماني وتلاميذه. أن نعي ذاتنا وهذا الرباط الطبيعيّ، ونُنقذ الأنا الحقيقيّ من النسيان، من اللاوعي، من الجهل، حيث يُخفيه مزجُه بالجسد، وأن نحفظ نفسنا من هذه الحالة من الاستنارة والتجرُّد التامّ.

وهكذا نصعد أيضًا، عند ساعة موتنا، إلى الفردوس الأصليّ، فردوس النور، حيث نعرف سلام النرفانا(25). أمّا إذا ضللنا، فنسجن نفسنا في النجاسة والجسد وعبوديَّة الرغبات المادِّيَّة، نحكم على نفوسنا بأن نولد من جديد، أن ننتقل من جسد إلى جسد. ثمَّ يجب علينا أن نتجنَّب تنجيس هذه النقاوة المستعادة باتِّصالنا بالمادَّة الشرّيرة. كما نتجنَّب »قتل« الحياة الإلهيَّة الحاضرة والمتألِّمة في كلِّ ما يحيط بنا. في عالم المزج هذا، نجد النفوس في كلِّ شيء: في العناصر، في الأشياء، في الحيوان، في النبات، في البشر. الكون صليب نور عليه يُصلَب النور، تُصلب »النفس الحيَّة«. وكلُّ عمل عنف ضدَّ الأشياء يُعتَبر خطيئة. لهذا، يجب أن نتجرَّد عن العالم، أن نتنكَّر له، أن نعفَّ عنه. لا مجاملة، لا إنجاب، لا امتلاك، لا زراعة ولا حصاد. لا نقتل، لا نأكل لحمًا، لا نشرب خمرًا... فكلُّ هذا يسيء إلى صليب النور(26).

ثالثًا - تنظيم الجماعة والممارسة الدينيَّة

نتوقَّف في هذا القسم الأخير عند الجماعة المانويَّة وتنظيمها، عند العبادة والطقوس، عند الأعياد والاحتفالات، ولاسيَّما عيد البيما أو العرش.

أ- الجماعة المانويَّة وتنظيمها

تنقسم المانويَّة الكنيسة (وكلّ جماعة فيها) إلى مجموعتين، إلى طبقتين: جماعة السامعين أو الموعوظين. جماعة المختارين. من جهة، المؤمنون العاديّون. ومن جهة أخرى، النخبة. فوقُ القدّيسون. تحت الخطأة.

أولاً: جماعة المختارين

يعيش المختارون برارة تراها العين، وهي تظهر من خلال ثلاثة ختوم. ختم الصدر يفرض العفَّة التامَّة، ويعارض الإنجاب الذي تنتج عنه نفوسٌ مضاءة تُسجَن داخل المادَّة. ويبدأ المؤمنون بالصوم فيسيطرون على الأراكنة الحاضرين في جسدهم. والختم الثاني هو ختم الفم الذي يمنع كلَّ كلمة ضارَّة: التجديف، الكذب، الحسد، الغضب. ففمُ المختار يُعلن الخلاص. وختم فمه يفرض عليه عددًا من الوصايا على مستوى الأطعمة: يُمنع اللحم والدم، الخمر وسائر الكحول. ختمُ الفم هو سرُّ أبناء النور. وختم اليدين يفرض على المؤمن أن يحترم صليب النور. لهذا، فهو لا يقطف ثمارًا عن شجرة، ولا يقتلع نباتًا، بل لا يدوس نباتًا. وكلُّ خطوة يخطوها يجب أن تكون في خدمة الكنيسة.

هنا ترتدي حياةُ المختارين وجهةً ثانية، فتسير كلُّها تحت المثال الرسوليّ، نحو نشر الحكمة، نحو معرفة الأسرار. حينئذٍ يمتلئ المختار من روحانيَّة الملكوت، فينقل إلى الآخرين الحكمة الغنوصيَّة. ويتميَّز عمله بثلاث صفات: الإيمان، النعمة التي تتعامل باللطف، المحبَّة التي تَنسج رباطات مع الآخرين. وإعلان الأسرار يحوِّل المختارين، لأنَّ بهاء الكلمة (لوغوس) الذي ينكشف للذين يسمعونه، يحوِّل الذين يعلنونه. هتف المختار: »الكلمة الذي أعلنته موجودٌ حقٌّا«. وتعليم النداء هذا يجعلنا أمام لاهوت حقيقيّ للكلمة الذي صار معرفة (غنوصة). وعمل الرسالة يتحدَّد موقعه في إطار كنسيّ. فسرُّ كنيسة ماني يكمن في هذا المناخ الروحيّ والأخويّ والحارّ داخل الجماعات. وهو عمل المختارين الكمّال.

ثانيًا: جماعة السامعين أو الموعوظين

إنَّ السامعين يشاركون في برِّ المختارين. وتتحدَّد حياتهم في ثلاثة أمور: الصوم، الصلاة، والصدقة. هذه الأمور توافق الختوم الثلاثة عند المختارين: فبالصوم الذي يمارسونه فقط يوم الأحد، يسودون على أراكنة جسدهم: هو ختم الصدر. وبالصلاة التي يتلونها مرَّات عديدة في النهار، وهم متَّجهون إلى الشمس والقمر، يُعلنون الخلاص، وهكذا يشاركون في ختم الفم. أمّا ختم اليدين فيفرض على السامعين أسلوبًا قاسيًا تجاه صليب النور في إعداد الأكل للمختارين.

هذا العمل الأخير هو مهمٌّ جدٌّا. وهو يساعد المختارين على إيجاد قُوتهم اليوميّ. وبفضل المختارين تستطيع الكنيسة الغنوصيَّة أن تحقِّق تحرُّر النفس الحيَّة المسجونة في الخضار والفاكهة. لهذا، فالطعام الذي يهيِّئه الموعوظون، هو مشاركة مباشرة في الخلاص الكونيّ. لهذا، يَفرض عليهم خُتم اليد أن يقطفوا أقلَّ ما يمكن من ثمار، ويقتلعوا أقلَّ ما يمكن من نبات. وإذ يعترف الموعوظون للمختارين، يقرُّون بالذنوب الذي اقترفوها ضدَّ صليب النور.

والدرفة الثانية في حياة الموعوظين هي العطاء. وهي تتضمَّن اتِّجاهين: من جهة، هي تشارك في نموِّ الكنيسة بتجنيد المؤمنين أو بممارسة الرحمة الروحيَّة تجاه المتألِّمين. ومن جهة ثانية، هي تؤمِّن مسكنًا للمختارين وقاعة لاجتماعاتهم. هذا هو عمل الموعوظ: يعدُّ الأعضاء الجدد لكي يدخلوا إلى الكنيسة. ويمارس غيرته بشكل خاصّ بين أفراد عائلته. وقد يفتدي عبدًا ليجعل منه عضوًا في الكنيسة. ويُدعى السامع لأن يجعل من بيته »كنيسة« فتتكاثر هكذا نقاط الاتِّصال على طرق الرسالة، ويجد المؤمن مناخًا من الطمأنينة والأخوَّة مع الطعام والإقامة داخل جماعة هي جزء من »الكنيسة الكبيرة«، الكنيسة المانويَّة.

نستطيع أن نسمّي هذا التنظيم »مواهبيٌّا« أو »كاريسماتيك«. وقد يصل في النهاية بالكنيسة إلى الفوضى. لهذا، وُجد تنظيم آخر يعرف الوحدة والمركزيَّة والتراتبيَّة. وهكذا تنظَّمت الكنيسة المانويَّة على غرار الكنيسة المسيحيَّة، وكان قلبها المدائن، ومنه كانت تصدر التوجيهات والأوامر(27).

ب- العبادة والطقوس

مثَّلت المانويَّة كنيسةً منظَّمةً على مستوى المؤسَّسة. ومنظَّمة على مستوى الليتورجيّا والاحتفال بالطقوس وشعائر العبادة.

أولاً: أماكن العبادة والأسرار

كان للمانويّين أماكن خاصَّة للاجتماعات والعبادة، حين يُسمَح لهم بذلك، وكانت على نوعين: »الهياكل« أو الأديرة بحصر المعنى. و»المساكن الخارجيَّة« أي البيوت التي يجعلها السامعون في تصرُّف المختارين فيجدون فيها الطعام والمأوى. ماذا نجد في هذه الأماكن؟ الصور ولاسيَّما صورة ماني التي هي موضوع إكرام. كما نجد الرايات والعطور والموسيقى وبعض الأثاث. ولعب النشيدُ دورًا هامٌّا. هو تعبير عن الإيمان والتقوى، فما عاد ينفصل عن أيِّ عمل من أعمال الليتورجيّا، سواء كان عاديٌّا أو احتفاليٌّا.

لا يعرف المانويّون المعموديَّة كسرٍّ مسيحيّ ولم يمارسوها بالماء. كانوا يمارسون الاغتسال، ولكنَّهم لم يعتبروا للماء أهمِّيَّة ولا فاعليَّة. ووُجد في بعض الجماعات مسحٌ بالزيت يقابل العماد المسيحيّ. فإن وُجد ظلَّ محصورًا جدٌّا. وماذا عن سرِّ الإفخارستيّا؟ يجب أن نعلم أنَّ كلَّ طعام فرديّ أو جماعيّ، ينطبع بطابع قدسيّ. فإن كان المختار في حالة النقاوة، يستطيع أن يخلِّص أجزاء النور الموجودة في الأطعمة التي يتناولها. وإن كان في حالة الخطيئة، فهو يسيء إلى أجزاء النفس هذه.

وُجدت في الكنائس مائدة هي مائدة التقديس، مائدة المباركين، مائدة الآلهة أو »مائدة الصدِّيق المضيء«. فُرض على المختارين أن يجتمعوا حول هذه المائدة في بعض الظروف، ليحتفلوا بوليمة نقرِّبها من الإفخارستيّا في الكنيسة المسيحيَّة.

ثانيًا: الصلاة والصوم والصدقة

* الصلاة: تنوَّعت الفرائض المتعلِّقة بالصلاة حسب الظروف. فُرض على المختارين أن يَتلوا سبع صلوات، والسامعين أربع صلوات. بعد الاغتسال، يتوجَّه المصلّي نحو الشمس والقمر. فالنور هو الطريق الذي يقود إلى الله. ويصلّي المانويّ من أجل خلاصه الخاصّ، فينطلق في سَفر خياليّ يأمل بعده أن يصل، بعد الموت، إلى السلام النهائيّ. وهكذا تكون وظيفةُ الصلاة كوظيفة المدائح المنشَدة أو المزامير التي يتلوها المؤمنون. والصلاة تساعد على تخليص النفس من الجسد ومن المادَّة، على تخليص الأجزاء المضيئة والحيَّة التي ما زالت مسجونة. تنقّي هذه الأجزاء وتُرسلها صعدًا إلى العالم الإلهيّ. هي تمجيد للنور. لهذا سُمِّيت عمود المجد أو المديح، لأنَّها المرحلة الأولى من السفَر الذي يقود نفس الميت، كما يقود كلَّ جزء من النفس المخلَّصة، إلى القمر والشمس، ومن هناك إلى الملكوت السماويّ.

وعمود المجد هذا، وهذا الشعاع من نور، هو القناة التي فيها تمرُّ النفوس وأجزاء النفس الحيَّة والمدائح والصلوات التي ترافقها. وهو يتكوَّن من مجمل هذه العناصر المضيئة التي تصعد إلى السماء.

* الصوم: ممارسة الصوم ضروريَّة من أجل الخلاص، وهي مفروضة على كلِّ مؤمن منذ قبوله في الكنيسة، وخلال حياته كلِّها. وهي واجبة على السامع كما على المختار، على مثال الصلاة والصدقة اللتين تكوِّنان معها كتلة واحدة. الصوم يحلُّ من جميع الخطايا التي اقترفها الموعوظ قبل ارتداده، وجزءًا من تلك التي يتعرَّض لها في ما بعد، شرط أن يكون اقترفها بشكل متقطِّع وبدون سابق قصد.

غير أنَّنا نجد هنا أيضًا نظامين من الصوم: الأوَّل قاسٍ وهو يُفرَض بكلِّ قساوته على المختارين. والثاني فيه بعض الرخاوة، وهو يتكيَّف مع ضعف »الصغار« الذين هم المؤمنون البسطاء. ونميِّز أيضًا بين الصوم العاديّ الذي يمارسه السامعون يوم الأحد، والمختارون يومَي الأحد والاثنين. والصوم فوق العاديّ المحفوظ لبعض أوقات السنة.

وأحد أهداف الصوم الأسبوعيّ هو التهيئة للاعتراف بالخطايا الذي يمارسه يوم الاثنين السامعون والمختارون. أمّا الصوم الكبير الذي يمتدُّ ثلاثين يومًا فهو يهيِّئ السامع والمختار للاعتراف العامّ والمشترك ويشكِّل عملاً أساسيٌّا في الاحتفال بالبيما.

والصوم هو في النهاية »صوم عن العالم«، »تنكُّر للعالم«. فالصوم لا يفيد فقط نفس الذي يمارسه، بل يساعده على فصل النفس عن الجسد وتنقيتها. يساعده على ضبط اللحم والدم فيه، على تكفير ذنوبه، على الاعتراف بخطاياه وقبول الحلَّة عنها. والصوم يساوي الصلاة في سموِّه، فيعمل على خلاص النفوس أو أجزاء النفس الإلهيَّة التي ما زالت سجينة في جوهر الأطعمة التي تقدَّم كلَّ يوم للكمّال وللسامعين. تلك هي نتيجة صوم القدّيسين: تحرير الأجزاء الحيَّة والمضيئة.

* الصدقة: الصدقة هي ثالث الطقوس العاديَّة، وهي لا تعني إلاَّ السامعين. أو علاقات السامعين مع المختارين. هي تشكِّل عمل تقوى ومحبَّة. الصدقة هي »المحبَّة«، والعطيَّة والتقدمة والمنحة والخدمة التي تُسدَى إلى النفس. وتدلُّ الصدقة بشكل إجماليّ على الأعمال الصالحة التي يجب على الموعوظ أن يقوم بها من أجل المختارين ولمنفعة الكنيسة. وهي تنطبق بشكل خاصّ على الأطعمة التي تُحمل إلى القدّيسين فتوافق الطقوس.

عند ذاك تضحي الصدقة ذات طابع قدسيّ، فتصبح أكثر من فعلة تقويَّة، أكثر من عمل له استحقاقه. فهي تتوخّى تحرير أجزاء النفوس المغلَق عليها في الأشياء التي يقدِّمونها، وإعطائها الراحة في الكنيسة وبالكنيسة. والعطيَّة تَمنح المعطي أو السامع غفرانَ خطاياه وتعمل من أجل خلاص نفسه. من أجل هذا تُحفظ الصدقة للمختارين، وتُرفَض لكلِّ إنسان غريب عن »الديانة المقدَّسة«، لئلاّ تصبح عمل نجاسة.

ج- الاحتفالات ولاسيَّما عيد البيما

كلُّ ما نستطيع أن نعرفه عن الأعياد التي يحتفل بها المانويّون سنويٌّا، عن أسباب هذه الاحتفالات، عن توقيت هذه الأعياد، ينحصر في الكلام عن الصوم وعن بقايا الكلندرات الليتورجيَّة التي وصلت إلينا. أمّا موضوعها فكان تكريم شهداء الإيمان بدءًا بالإنسان الأساسيّ الذي هو المثال الأوَّل. ولكنَّ العيد الأهمَّ الذي تحدَّثت عنه النصوص مطوَّلاً هو عيد البيما(28) الذي يحتفلون به بعد صوم يدوم ثلاثين يومًا. متى يحتفلون بهذا العيد ولماذا يحتفلون به؟

أولاً: عيد البيما

يحتفل المانويّون بعيد البيما في نهاية شهر شباط، أو في بداية شهر آذار. وذلك بعد صوم قاسٍ كما سبق وقلنا. أمّا »بيما« التي تعني منبر الخطيب أو كرسيّ القاضي، فصارت لفظة مكرَّسة لدى المانويّين في اللغات السريانيَّة واليونانيَّة واللاتينيَّة والقبطيَّة، وحتّى في الصينيَّة. دلَّت أوَّلاً على منبر بخمس درجات، زيِّن وجُعل في وسط القاعة. ثمَّ دلَّت على الجماعة المعيِّدة، أو على الاحتفال، أو على يوم الاحتفال.

أمّا الدرجات الخمس فترمز إلى »عظمات« (جمع عظمة) الملكوت الخمس، أو انبثاقات (أو فيض) الآب الخمسة، أو مهمّات الخلاص الخمس، أو مراحل تحرير النور الخمس. هذه الدرجات الخمس تدلُّ على الطريق التي تحرِّر النفوس. وهي تشكِّل القسم الذي يبلغ بنا إلى الملكوت. وعلى قمَّة المنبر تنتصب بكلِّ مهابة صورةٌ عظيمة لماني، ذاك المخلِّص الذي دخل في الخلود المجيد. هذه الصورة تشعُّ وسط الأنوار فتُشرف على الكتب المقدَّسة التي تركها النبيّ.

ثانيًا: بيما عيد الغفران

بيما هو أوَّلاً عيد غفران الخطايا كما أسّسه ماني نفسه. في ذلك اليوم يجتمع التلاميذ وأيديهم محمَّلة بالأصوام والصلوات والصدقات التي مارسوها خلال السنة، والتي هي شرط سابق لغفران الخطايا. ويقدَّم كلُّ هذا الحصاد من الاستحقاقات إلى السيِّد الجالس بمهابة على عرشه. بعد ذلك، تعترف الجماعة بخطاياها. وشدَّد ماني، شأنه شأن بودا ويسوع المسيح، على أهمِّيَّة الاعتراف بالخطايا. فخلال السنة يُفرض الاعترافُ الشخصيّ على السامعين كما على المختارين. أمّا الإقرار العامّ في يوم البيما فيرتدي أهمِّيَّة خاصَّة. إنَّه علامة الغفران.

إذا كان ماني حاضرًا في هذا الاحتفال، فيسوع هو حاضرٌ أيضًا في قلب الجماعة المصلِّية. ماني هو المخلِّص. ويسوع هو الديّان. والبيما الذي هو عطيَّة ماني لكنيسته، ينتصب كلَّ سنة في الأرض كلِّها، بانتظار أن يأتي يسوع في نهاية المزج والاختلاط، فيدين جميع الشعوب. البيما هو يوم الغفران. وهو أيضًا التزام جديد في يوم اليقظة والالتصاق بالأسرار. وهكذا يشكِّل الإقرار وغفران الخطايا محطَّة لا بدَّ منها في الاستنارة الغنوصيَّة.

ثالثًا: البيما وآلام ماني

إنَّ عيد الباما هو في الدرجة الثانية تذكُّرٌ لآلام ماني التي تعتبر صلبًا، على مثال المسيح. فالمدائح التي تنشدها الجماعة تتوقَّف عند تفاصيل هذه الآلام: معارضة الكهنة المزدكيّين أو الزرادشتيّين. قساوة الجلاّدين الذين تشبَّهوا بقتلة يسوع. بُغض الخصوم وحقدهم. آلام النبيّ.

غير أنَّ هذا اليوم هو في الوقت عينه عيد انتصار ذاك الذي صار البابَ المضيء، الباب الذي يقود مباشرة إلى الحياة، الراعي الصالح، رجاء البشر، شجرة المعرفة، قيامة الموتى، الدهر الجديد للنفوس. حين مات، تحرَّر من الإنسان العتيق، وجعل مكانه الإنسان الجديد، الإنسان الغنوصيّ. وفعلَ ماني مثلما فعل يسوع، فقام وعاد إلى الملكوت.

رابعًا: بيما عيد المعرفة الحقَّة

باما هو أخيرًا العيد السنويّ للمعرفة (غنوصة)، العيد الفصحيّ الحقيقيّ للكنيسة الغنوصيَّة. فالرموز كلُّها تُبرز علامات انتصار ملكوت النور. وهذا الانتصار بوجهه اللاهوتيّ والسرّيّ، هو للتلاميذ القدامى فهمًا متجدِّدًا للأسرار. ومع الاحتفال بالبيما، نحن في قلب التنشئة الغنوصيَّة. يرتدُّ السامعون والمختارون خلال السنة، فيحسُّون بنفوسهم إنهم غطسوا في عالم جديد، فوعوا انتماءَهم إلى نسل جديد، نسل النور.

وهذا الانتصار يَبرز في وجهه الجغرافيّ: شموليَّة الكنيسة التي تمتدُّ إلى أربعة أقطار الكون. فتجمّعُ السامعين (الموعوظين) والمختارين (الكمّال) حول البيما هو علامات الاحتلالات الرسوليَّة. ومع البيما تبدأ سنة غنوصيَّة جديدة، مطبوعة بالأتعاب والأصوام والصلوات والصدقات والاضطهادات والاحتلالات. ينتصب هذا المنبر في كلِّ بلدان العالم، في هذا اليوم الأوَّل من السنة، فيدلُّ بدرجاته الخمس على الحضور الحيّ لكنيسة ماني.

خاتمة

في إطار ديانة غنوصيَّة مؤسَّسة على كوسموغونيّا ثنائيَّة جذريَّة ومنظَّمة تنظيمًا مدهشًا، تصوَّر ماني تاريخَ خلاص واسعًا، يتوزَّع على ثلاث مراحل: البدايات، مرحلة الدمج والاختلاط، العودة إلى البدايات. وبفضل نظرة إلى العالم تتداخل فيها الكوسموغونيّا (حول نشأة الكون) والسوتيريولوجيّا (موضوع الخلاص) والإسكاتولوجيّا (نهاية العالم)، اعتبر أنَّه أعطى البشرَ التفسيرَ الأخير لكلِّ علم ولكلِّ ديانة. جعل نفسه في خاتمة سلسلة الأنبياء ومؤسِّسي الديانات، فقدَّم نفسه على أنَّه البارقليط (الروح القدس المعزّي والمشجِّع) الذي أرسله يسوع، كما اعتبر نفسه مالكًا لأسرار خفيَتْ على الأجيال السابقة.

وتتأسَّس هذه »الديانة الجديدة« على المعرفة (غنوصة، gnwsiV). فهذه المعرفة التي هي لوغوس (كلمة) مساوية في الجوهر مع العظمات الخمس في ملكوت النور، ومع نفس العالم المكوَّنة من شرارات إلهيَّة مسجونة في المادَّة، تعمل في الكون منذ خلق آدم. وإذ أرادت أن توقظ النفوس وتحرِّر كلَّ أجزاء النور، دعت إلى العمل مساعدَيها »النداء والسماع«، وأوكلت إليهما سرَّ النداءات الثلاثة حتّى نهاية الكون وما فيه من امتزاج: نداء الحياة، نداء الجهاد، نداء الخلاص. كما طَلبت منهما تنظيم سرِّ سماع التعليم والجواب عليه بانخراط في كنيسة ماني، في حياته الرسوليَّة، في التزامٍ بكتبه وليتورجيَّته والوصايا التي يُعلنها.

والنفس التي يلامسها التعليم، تفهم وضعها المأساويّ، تهدّئ قلقها، وتتطلَّع إلى مخلِّصَيها يسوع وماني. وهكذا تبدأ بالنسبة إليها التنشئة الغنوصيَّة مع الالتصاق بالأسرار الثنائيَّة ومعرفة آيات الخلاص: البيما، طريق المختارين، صليب النور، الكنيسة المقدَّسة. إنَّه خيار متواصل وهو يقوم بالانفصال اليوميّ عمّا هو ظلمة. وبعد أن يستيقظ تلميذ ماني ويمرُّ في أسرار التنشئة، ينطلق في طريق الخلاص. يتطلَّع إلى وصايا البرّ، فيصوم ويصلّي ويتصدَّق، ويُنشد اندفاعه وفرحَه ويعلن الأسرار. هو مخلِّص يحتاج إلى خلاص. وصار محرِّر النور ومنير إخوته. يتحرَّر يومًا بعد يوم من المادَّة، ولكنَّه لا يزال في سجن جسده مع أنَّه يعيش منذ الآن الواقع الإسكاتولوجيّ للملكوت. ويومُ موته سيكون يوم انتصاره النهائيّ. لكن إذا لم تكن حياته حياة غنوصيّ كامل، فهي لا تبلغ به إلى نور الملكوت. بل ستدخل به في مرحلة جديدة من التنقية. وساعة تسمع جميع النفوس المضاءة النداء المثلَّث، نداء المعرفة (gnwsiV)، يحترق الكون كلُّه. وإذ يرتفع عمود النور الأخير إلى ملكوت الآب، تنحدر المادَّة إلى الأبد إلى جحيم الظلمة بعد الحكم عليها بالهلاك.

هكذا بدت لنا المانويَّة كفرع من الغنوصيَّة. حاولت أن تخلق ديانة جديدة تجاه المسيحيَّة. ليست هرطقة كالظاهريَّة أو الأريوسيَّة والمونوفيزيَّة، بمعنى أنَّها تختار شيئًا وتترك الباقي. بل هي ديانة تلفيقيَّة أخذت من المسيحيَّة وحاولت أن »تتجاوزها«. وأخذت من زرادشتيّة عالم فارس وما فيها من ثنائيَّة الخير والشرّ. وأخذت من العالم البوذيّ كما عرفه ماني في الهند، هذا للوصول إلى النرفانا بعد التحرُّر من المادَّة.

عرفت الكنيسةُ هذه »الديانة« التي شكَّلت خطرًا كبيرًا عليها. فحاربتها بالكلمة والكتابة، كما حاربتها بواسطة السلطة المدنيَّة. زالت المانويَّة وإن بقيَت بعضُ آثارها في عالمنا الشرقيّ، أو انتقلت إلى حركات دينيَّة لاحقة. ولكنَّ الكنيسة ظلَّت تتابع طريقها بحضور المسيح فيها حتّى نهاية العالم، يعمل الروح القدس الذي أرسله الآب ليكون رفيقًا لنا فلا نبقى أيتامًا. وتُولَد اليوم شيَعٌ عديدة تحاول أن تقدِّم »التعليم المسيحيّ« بحلَّة جديدة. ولكنَّها في الواقع تصبح سجنًا للذين ينخرطون فيها.

وحده الإنجيل نقرأه ونتأمَّل فيه ككلمة حياة يحرِّرنا من ذاتنا ومن كلِّ قيودنا ويعلِّمنا حرِّيَّة أبناء الله. فكم نحتاج في أيّامنا إلى العودة إلى المسيح الذي »هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد«. وكم نحتاج إلى كنيسته التي هي جسده المنظور في العالم، والتي لا تتغلَّب عليها أبواب الجحيم: قال لها يسوع، وقال لنا: »أنا غلبتُ العالم«. فلماذا نبحث عن شخص آخر نسير وراءه، فيما يسوع هو وحده »الطريق والحقّ والحياة«؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM