النبوءة الإشعيائيَّة، الخاتمة

الخاتمة

النبوءة الإشعيائيَّة، ذاك هو كتابنا. قرأناه في ثلاثة أقسام بحسب الأحداث التاريخيَّة التي نستشفُّها من خلال هذا الكلام النبويّ. أمّا اللفظ الأساسيّ فهو المنفى. فما دعوناه القسم الثاني هو كلام يرتبط بالمنفى البابليّ الذي عاشته يهوذا بعاصمتها أورشليم. والقسم الثالث حمله »نبيٌّ« إلى العائدين من المنفى ليعيد إليهم الثقة بربِّهم أمام الصعوبات المتراكمة على شعب من الفقراء. وعنونّا القسم الأوَّل: قبل المنفى، لا على أنَّه ارتبط بشكل مباشر بحقبة سابقة للمنفى، بل على أنَّ الوضع الاجتماعيّ كان مختلفًا جدٌّا عن إطار إشعيا الثاني والثالث.

ففي هذا القسم الأوَّل، الشعب يقيم في أرضه. له مَلكه من نسل داود، وهو ينتظر مَلكًا يكون بحسب قلب الله، يمسحه الربُّ ويرسله فيكون »مسيحه«. عاصمته أورشليم قلبُ الدنيا وإليها يأتي المؤمنون خلال أعيادهم. إطار من السعادة حيث يجلس كلُّ واحد، في أمان، تحت كرمه وتينه، لا يرعبه أحد. كلُّ هذا تبدَّل بعد مئة سنة ونيِّف. وهكذا نلاحظ امتداد النبوءة الإشعيائيَّة بعد موت النبيّ الذي عُرف في القرن الثامن واعتُبر من العائلة الملكيَّة الداوديَّة.

الوضع تبدَّل كلُّه في القسم الثاني. والنبيُّ أي ذاك الذي حمل كلام الله إلى المنفيّين، لا يَذكر اسمَه، بل يدعو نفسه »صوت صارخ في البرِّيَّة« حيثُ يقيم المبعَدون عن أرضهم، على مثال أجدادهم الذين كانوا في برِّيَّة سيناء، منطلقين إلى أرض يقيمون بها، والتي دعوها فيما بعد أرض الموعد، لأنَّ كلَّ عطيَّة صالحة إنَّما هي من عند أبي الأنوار.

في إشعيا الثاني، الشعب بعيد عن أرضه، فبدا مثلَ الجثَث في الوادي، كما قال النبيّ حزقيال. فهل تراه يقوم من سباته، من رقاده؟ تلك هي مهمَّة النبيّ في ذلك الوقت العصيب. في إشعيا الثالث، عملَ الروح في هذه »الجثث« فصارت شعبًا كبيرًا جدٌّا واستعاد المغامرة التي عاشها أجداده. شدَّدوا أيديهم المسترخية، وثبَّتوا ركبهم المرتجفة (35: 3)، رجعوا إلى صهيون مرنِّمين »وعلى وجوههم فرحٌ أبديّ« (آ35). ولكن حين وصلوا بدت الصدمة عنيفة. لماذا هذه العودة مع ما فيها من صعوبات؟ كانوا يعيشون في الماضي، وكأنَّ كلَّ شيء يكون »كما أخبرنا آباؤنا« (مز 78: 3). فلماذا البقاء في أرض صارت لغيرنا؟ إنَّهم هنا من أجل رسالة: جمْعُ الشعوب حول الله في عاصمته أورشليم، في عبادة للإله الواحد. لا مجال للعودة إلى الماضي بالنسبة إلى المؤمن، لأنَّه لن يجد الربَّ هناك. فالله ينتظرنا الآن ويحدِّثنا الآن بكلامه البشريّ. تلك كانت خبرة الرسل والنسوة بعد القيامة: أرادت مريم أن تلمسه، والرسل أن يروا أثر الجراح. كلُّ هذا انتهى. بل في البداية توقَّفوا عند القبر الفارغ لعلَّ الميت يخرج منه أمامهم. ولكنَّ الربَّ طلب منهم أن يسبقوه إلى الجليل. فمن هناك ينطلقون كما انطلق هو. وتلك يجب أن تكون خبرتُنا: لا ننظر إلى الماضي فنتحسَّر عليه. ولا نتوقَّف عند الطعام والشراب، كما يقول الرسول (رو 14: 17)، فملكوت الله أسمى من هذه الأمور المادِّيَّة التي نبحث عنها قائلين: ماذا نأكل، ماذا نشرب، ماذا نلبس؟ (مت 6: 31). ونحن نطلب أوَّلاً الملكوت والباقي يُعطى لنا (آ33). نحن نتساءل: ما هي الرسالة الني نقوم بها؟ لماذا نحن وُجدنا في هذه الأرض التي نعيش عليها؟ سؤال طرحه العائشون في الأرض بعد العودة. ونحن نطرحه على نفوسنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM